يقف مريض في صيدلية بحي شعبي مغربي، متفحّصاً عبوات الدوائين الأصلي و"النوعي العام" (Generic drug)، ويحسب بعناية ما يمكنه دفعه من جيبه، مدركاً أن التأمين الصحي لا يغطي سوى جزء من ثمن الدواء، وأن تكلفة بعض الأدوية تفوق إمكانياته المالية.
صادفتُ هذا المشهد خلال الأسابيع الماضية، بالتزامن مع جلسة مساءلة برلمانية، كشفتْ عن تفاصيل صفقات مشبوهة ومثيرة للجدل في استيراد الأدوية، تديرها شبكة معقدة من الفاعلين، تتقاطع فيها مصالح الصناعة الدوائية المحلية والمستورِدين والموزِعين واللوبيات الاقتصادية والسياسية. وتطرح هذه التعقيدات سؤالًا يفرض نفسه: كيف تنعكس هذه المصالح المتشابكة على القيمة السعرية للأدوية؟ وهل هي حقاً في متناول جيب جل المغاربة؟ أو أنهم يضطرون إلى دفع أثمان الأدوية على نحو مضاعف؟
برلماني يكشف المستور
في يوم 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، قدّم النائب عبد الله بوانو اتهامات علنية في جلسة برلمانية تتعلق بمنح ترخيص استثنائي (ATU) لاستيراد كلوريد البوتاسيوم من قبل شركة محسوبة على مسؤول حكومي، متهماً إياه بامتلاك حصص في تلك الشركة، إذ أشار إلى وجود شحنة أدوية مستوردة من الصين، حملت عبواتها تعليمات بلغة هذا البلد، وقد تم سحبها لاحقاً، بعد شكاوى من أطباء من صعوبة التعامل معها.
بالموازاة، كشف هذا البرلماني عن أسعار صارخة جداً لأدوية مستوردة، إذ ذكر حالات استيراد لأدوية سعرها 2.5 درهماً (أقل من 3 سنتات) ويتم بيعها في الصيدليات المحلية بأكثر من 50 درهماً (حوالي 5 دولارات)، وهو هامش ربح اعتبره "خارج نطاق المعقول". كما أكد البرلماني (استناداً إلى بيانات منشورة في بوابة الصفقات العمومية) أن الشركة المرتبطة بالمسؤول الحكومي حصلت خلال 2025 على عقود بقيمة تقارب 32 مليون درهم (حوالي 3.2 مليون دولار)، علاوة على عقود أخرى مع مستشفيات جامعية، تتراوح قيمتها بين 8 و50 مليون درهم (ما يقارب 800 ألف و5 ملايين دولار).
أظهرت دراسات تحليلية حديثة أن الحملة الحكومية على الأسعار التي أقرتها في السنين الماضية لم تخفض فاتورة الأدوية على المرضى. فعلى الرغم من مراجعة أسعار أكثر من 1700 دواء بين عامي 2014 و2019، ظلت التخفيضات محدودة للغاية وطالت أصنافاً قليلة جداً. إذ انخفض سعر 22.8 في المئة منها بما يعادل 0.1 دولار أو أقل، و28.7 في المئة منها بما يعادل أقل من 1 في المئة من هذه الأدوية، التي يقف وراءها لوبي محتكِر لهذا السوق.
في المقابل، ردّت وزارة الصحة المغربية بسرعة وبلهجة نفي قاطعة، مؤكِّدة أن جميع تراخيص الاستيراد المؤقتة مُنحت وفق الشروط القانونية والتقنية، موضحة أن النقص المؤقت في إنتاج كلوريد البوتاسيوم نتج عن توقف مصنع محلي بغية تنفيذ توسعة وتأهيل وحداته الصناعية، ما عجل بتدخل الوكالة المغربية للأدوية لدعم مزوِّدين محليين، وإمداد السوق بهذه المادة الطبية إلى حين استئناف الإنتاج المحلي.
تثير هذه القضية تساؤلات شائكة عن شفافية سوق الدواء وحقيقة تكاليفه، خاصة في بلد يُعد من بين أكبر المصنعين للأدوية قارياً، على الرغم من أن أسعارها لا تزال تشكِّل عبئاً مالياً على المغاربة، بسبب تجاوزها السعر المرجعي العالمي.
صناعة صاعدة وأسعار متصاعدة
يُصنَّف المغرب ضمن الدول التي راكمت تجربة طويلة في الصناعة الدوائية، إذ انطلقت وحداته الإنتاجية منذ السنوات الأولى لاستقلال البلد، ليتطوّر هذا القطاع خلال العقود اللاحقة مغطياً أكثر من 70 في المئة من حاجة السوق المحلي، بإجمالي يناهز خمسة آلاف منتَج دوائي. ووفق معطيات رسمية، يُسهم هذا النشاط بحوالي 2 في المئة من الناتج الداخلي الخام.
اللقاح في المغرب: المغامرة الصينية!
12-08-2021
في هذا السياق، تعززت التوجهات الحكومية نحو تحقيق ما يُعرف بـ"السيادة الدوائية". إذ أُطلقت مشاريع كبرى، من أبرزها "ماربيو" بمدينة بنسليمان، الذي يهدف إلى إنتاج اللقاحات داخل البلاد وتغطية 100 في المئة من الحاجة الوطنية إلى لقاحات أساسية بحلول عام 2027. وبالموازاة، أعلنت وزارة الصحة في تموز/ يوليو 2025 عن خطة شاملة لإصلاح نظام تسعير الأدوية، تشمل مراجعة هوامش الربح، وتسريع وتيرة تحديد الأسعار، وتحفيز التصنيع المحلي. كما جرى الحديث عن إنشاء وكالة وطنية مستقلة للأدوية ومركز موحد لتوزيعها، بهدف الحد من الاختلالات وتعزيز الشفافية في سلاسل الإمداد.
غير أن هذه الإنجازات الصناعية لم تُترجَم إلى تحسّن ملموس في أسعار الأدوية داخل رفوف الصيدليات. إذ لا تزال كلفة العلاج تُثقل كاهل فئات واسعة من المواطنين. وقد كشفت دراسة مشتركة أعدّتها منظمة الصحة العالمية وشبكة Health Action International عن أن أسعار الأدوية في المغرب تتجاوز بكثير السعر المرجعي الدولي. إذ بلغ متوسط السعر المرجعي 12.15 للأدوية الأصلية و11.07 للجنريك. أي أن مواطناً مغربياً كان يدفع، في المتوسط، ثمن الدواء أكثر بـ11 إلى 12 مرة من السعر العالمي القياسي. وفي بعض الحالات كانت الفجوة أوسع بكثير. فبعض العلاجات سجلت أرقاماً مضاعفة، تفوق 200 مرة السعر المرجعي.
هناك مطالب برلمانية بفتح تحقيق شامل في صفقات استيراد الأدوية، في ظل سياق يشي بأن تحديات هذه القضية لا تقتصر على التشريع وحده، بل تشمل أيضاً هيمنة الوسطاء بين المستوردين والصيدليات، الذين يسهمون في رفع الأسعار. وقد اعترف مسؤول حكومي بحضور هذا المعطى وتأثيره على اسعار الأدوية، وأقر بأن تقليص هوامش ربح هؤلاء الوسطاء يتطلب قراراً سياسياً حاسماً.
هذا الارتفاع لا يرتبط فقط بكلفة التصنيع، بل يعكس منظومة كاملة من التكاليف الإضافية. إذ تُحمّل الأدوية المستوردة أو موادها الخام ضرائب مرتفعة، وفي مقدّمتها ضريبة القيمة المضافة بنسبة 7 في المئة، إضافة إلى رسوم جمركية قد تصل إلى 40 في المئة في بعض الحالات. كما تمر الأدوية عبر سلسلة توزيع طويلة، تشمل مستوردين وموزعين وصيدليات، فيضيف كل طرف هامش ربح مستقل، ما يؤدي إلى تضخّم السعر النهائي على المستهلِك. إلى جانب ذلك، تُظهر دراسات السوق أن الصناعة والتوزيع يتركزان في أيدي عدد محدود من الشركات، التي تقلل من فرص المنافسة، وتسمح بفرض هوامش ربح عالية.
في سياق موازٍ، أظهرت دراسات تحليلية حديثة أن الحملة الحكومية على الأسعار التي أقرتها في السنين الماضية لم تخفض فاتورة الأدوية على المرضى. فعلى الرغم من مراجعة أسعار أكثر من 1700 دواء بين عامي 2014 و2019، ظلت التخفيضات محدودة للغاية وطالت أصنافاً قليلة جداً. إذ انخفض سعر 22.8 في المئة منها بما يعادل 0.1 دولار أو أقل، و28.7 في المئة منها بما يعادل أقل من 1 في المئة من هذه الأدوية، التي يقف وراءها لوبي محتكِر لهذا السوق.
لوبيات مقاوِمة للإصلاح
يتغلغل في سوق الدواء المغربي لوبي واسع النفوذ، يضم شركات تصنيع كبرى ومستوردين وموزعين وسلاسل صيدليات، إلى جانب نقابات مهنية، وترتبط بعض مكوناته بمسؤولين سابقين وحاليين. ويقف هذا التقاطع في المصالح حجر عثرة أمام أي إصلاح فعلي لهيكلة السوق أو خفض الأسعار.
بيد أن الحكومة تحاول أن تتصدى جزئياً لهذه الأزمة، إذ اقترحت ضمن مشروع قانون يقضي بتحديد الأدوية الجنريك المسموح بتسويقها في خمسة أصناف فقط، مع إلزامية تسعيرها بأقل من السعر الأصلي. وعلى الرغم من أن هذا السقف قد يُشجّع على تطوير الصناعة المحلية، إلا أن حصر عدد تلك الأدوية قد يُقوّض المنافسة السعرية، ويُقلّص من فرص الوصول إلى خيارات دوائية متنوعة وبأسعار معقولة. ومن شأن هذه الخطوة أن تمنح الشركات الأقوى أفضلية واضحة في الحصول على التراخيص، إذ سيكرّس هيمنة عدد محدود من الفاعلين ويُبْقي أسعار الأدوية خارج متناول شريحة واسعة من المرضى.
وتتزامن هذه الإجراءات مع مطالب برلمانية بفتح تحقيق شامل في صفقات استيراد الأدوية، في ظل سياق يشي بأن تحديات هذه القضية لا تقتصر على التشريع وحده، بل تشمل أيضاً هيمنة الوسطاء بين المستوردين والصيدليات، الذين يسهمون في رفع الأسعار. وقد اعترف مسؤول حكومي بحضور هذا المعطى وتأثيره على اسعار الأدوية، وأقر بأن تقليص هوامش ربح هؤلاء الوسطاء يتطلب قراراً سياسياً حاسماً.
بيد أن استمرار هذا السياق الاحتكاري، يدفعه وسيدفع ثمنه المرضى، إذ تُرهقهم الفواتير، وتُثقل كاهلهم كلفة الدواء الذي يُفترض أن يكون في متناول جيوبهم. فكم يدفعون إذاً؟
المريض يدفع ثمن الدواء مرتين..
ليس ملف الأدوية في المغرب قضية قطاعية تخص وزارة الصحة أو الفاعلين الاقتصاديين فحسب، بل هي -أساساً- قضية تمسّ صحة المواطنين على نحو مباشر، وتؤثر على نحو ملموس في قدرة الأسر على الاستمرار في العلاج وتحمل عبء مصاريفه.
لفهم العبء الحقيقي لتكاليف الدواء، اعتمد باحثون مؤشراً بسيطاً وفعّالاً ضمن دراسة بحثية[1] عالمية أنجزوها عام 2004، ويكمن في الاستعانة بعدد أيام العمل اللازمة لاقتناء جرعة علاجية شهرية. وبينت دراستهم أن موظفاً بأجر الحد الأدنى يحتاج إلى 7.2 يوم عمل لشراء عبوة من دواء "رانيتيدين" لعلاج قرحة المعدة. أما في عام 2008، فقد تطلب الأمر 5 أيام عمل للحصول على جرعة من دواء "أتينولول" لخفض ضغط الدم في نسخته الجنيسة، و8 أيام في حال شراء النسخة الأصلية. مع العلم بأن هذه المؤشرات لا تخص أدوية أكثر تكلفة، مثل علاجات السرطان أو أمراض القلب، التي تُثقل في العادة كاهل الأسر بشكل أكبر.
يبدو أن حال المرضى المغاربة لم تتغيّر جذرياً، بعد مرور عشرين عاماً على صدور الدراسة السابقة، إذ كشفت أرقامٌ حديثة عن استمرار هشاشة القدرة على اقتناء الدواء. فاستطلاع رأي صادر عن مؤسسة أفروموميتر في عام 2024 أفاد بأن حوالي نصف المواطنين اضطرّوا للتخلّي عن دواء أو علاج خلال العام الماضي لعدم قدرتهم على تغطية تكلفته، في حين عبّر حوالي ثلاثة أرباع المستجوبين عن قلق كبير من عدم قدرتهم على تأمين الرعاية الصحية عند الحاجة.
أدى ترك الدولة تحديد الأسعار لقوى السوق إلى أن يتحول العلاج إلى امتياز محدود لمن يستطيع تحمّل تكلفته. وبالرغم من تحقيق البلد لمكسب غير مسبوق في تأمين تغطية صحية إجبارية لـ 88 في المئة من مواطنيه وتبني الحكومة لإصلاحات استهدفت مراجعة الأسعار ودعم التصنيع المحلي، إلا أن أثرها ظل محدوداً أمام هول شبكة المصالح المتشابكة التي تسيطر على سوق الأدوية.
ويبدو أن حال المرضى المغاربة لم تتغيّر جذرياً، بعد مرور عشرين عاماً على صدور الدراسة السابقة، إذ كشفت أرقامٌ حديثة عن استمرار هشاشة القدرة على اقتناء الدواء. فاستطلاع رأي صادر عن مؤسسة أفروموميتر في عام 2024 أفاد بأن حوالي نصف المواطنين اضطرّوا للتخلّي عن دواء أو علاج خلال العام الماضي لعدم قدرتهم على تغطية تكلفته، في حين عبّر حوالي ثلاثة أرباع المستجوبين عن قلق كبير من عدم قدرتهم على تأمين الرعاية الصحية عند الحاجة.
أما أسعار الأدوية المزمنة فلا يقدر على اقتنائها كل المغاربة، ولا سيما مرضى السرطان. فقد أكدت إحصاءات بحثية[2] وجود مشاكل في تحقيق تغطية صحية كاملة لهذه الأدوية، إذ لا تشملها تعويضات هيئات التأمين الصحي، بما يقارب نصف الأدوية المبتكرة الجديدة للسرطان (22 من أصل 39 دواءً). وتتزامن هذه النتائج مع ظهور تقارير صحافية ورسمية تُشير إلى تفاوتات سعرية ضخمة مقارنة بالخارج، إذ اعترف مسؤول حكومي بأن دواءً مستورداً كان يُباع في الخارج بعشرة دراهم يُسوق في المغرب بسعر يتراوح بين 70 و80 درهماً، ووصفت هذه الحال بسبب ضخامتها بـ"جنة الأسعار الباهظة للدواء" (وفق منصة صحافية محلية)، مستدلةً على هوامش الربح الكبيرة التي تحققها شركات الأدوية متعددة الجنسيات على حساب صحة المواطنين.
في ظل هذا الواقع الصعب، يضطر مرضى من ذوي الدخل المحدود إلى اعتماد حلول بديلة، إذ يفتحون حسابات ديْن أو ما يسمى محليا بـ"دفتر لْكْرِيدِي" لدى الصيدليات لتقسيط تكاليف الدواء، أو يلجأون إلى بيع ممتلكاتهم أو الاقتراض من أجل تأمين علاج لا يحتمل التأجيل. وتعكس هذه الصورة المزرية أن ملف الدواء في المغرب صار مرآة تعكس صراعاً أوسع بين منطق السوق ومتطلبات العدالة الاجتماعية. فقد أدى ترك الدولة تحديد الأسعار لقوى السوق إلى أن يتحول العلاج إلى امتياز محدود لمن يستطيع تحمّل تكلفته. وبالرغم من تحقيق البلد لمكسب غير مسبوق في تأمين تغطية صحية إجبارية لـ 88 في المئة من مواطنيه وتبني الحكومة لإصلاحات استهدفت مراجعة الأسعار ودعم التصنيع المحلي، إلا أن أثرها ظل محدوداً أمام هول شبكة المصالح المتشابكة التي تسيطر على سوق الأدوية. لذا لا يكمن التحدي الجوهري في سن تشريعات إصلاحية فحسب، بل في قدرة هذه القوانين على التنفيذ الفعلي وسط هذه التعقيدات، وما إذا كانت الإجراءات ستتمكن فعلياً من تخفيف العبء المالي الذي يتحمله المرضى.
وفي المحصلة، يتضح بجلاء أن ثمن الدواء لم يعد مجرد رقم على عبوة، بل صار تكلفة يومية تثقل ميزانية الأسر المغربية وتضع على المحك التزام الدولة بضمان أسعار في متناول الجميع. لذا، صار العبء مزدوجاً أمام المرضى المغاربة، إذ يدفعون ثمن دوائهم مرتين. مرة من صحتهم، حين يتحملون العبء الجسدي للمرض. ومرة ثانية من جيبهم الخاص، عندما يتحملون لهيب أسعار الأدوية التي لا يغطيها التأمين الصحي على نحو كامل. أو بالأحرى وبشكل ضمني، يدفعون ثمن احتكار لوبيات الأدوية، التي تُثْرى على نحو مبالغ فيه من جيبوهم المنهكة.





