الثورة التونسية والانتقال الديمقراطي: أين تعثّر المسار؟

منذ السنوات الأولى لِما بعد الثورة، ساد افتراض ضمني مفاده أنّ سقوط النظام الاستبدادي يضع البلاد تلقائياً على سكّة الديمقراطية، وأنّ الزمن كفيل باستكمال ما لم يُنجَز في اللحظة الأولى. هكذا جرى التعامل مع الانتقال الديمقراطي كمسار بديهي، لا كرهان تاريخي محفوف بالتناقضات والمخاطر. وضمن هذا التصوّر، انصبّ الاهتمام على إدارة المراحل أكثر من التفكير في معناها. أُنجزت استحقاقات دستورية وانتخابية مهمّة، واتّسع التعدد الحزبي، وكُرِّستْ حرّيات أساسية، غير أنّ هذه التحوّلات ظلّت محمولة على دولة محدودة القدرة، واقتصاد هشّ، ونسيج اجتماعي مثقل بالاختلالات.
2025-12-18

فؤاد غربالي

أستاذ علم الاجتماع، تونس


شارك
جدارية في أحد شوارع تونس (من الانترنت)

بعد خمسة عشر عاماً على اندلاع الثورة التونسية، لم يعد السؤال المطروح يتعلّق بما إذا كانت الثورة قد نجحت أو أخفقت، بقدر ما يتّصل بكيفية إدارة ما تلاها، وبالخيارات التي حُسمت — أو لم تُحسم — في مسار الانتقال الديمقراطي. فالزمن الذي يفصلنا اليوم عن لحظة 2011 يسمح بمسافة نقدية كافية للخروج من منطق التبرير أو الإدانة، والدخول في مساءلة أعمق لطبيعة المسار نفسه، ولمقدماته النظرية والسياسية.

لقد فتحت الثورة أفقاً غير مسبوق في التاريخ السياسي التونسي، وكسرت احتكار السلطة والشرعية، وحرّرت المجال العام بدرجة لم تعرفها البلاد من قبل. غير أنّ هذا الانفتاح، الذي مَثّل شرطاً ضرورياً لأي انتقال ديمقراطي، لم يتحوّل بالضرورة إلى مشروع متكامل لإعادة بناء الحكم. فمنذ السنوات الأولى لِما بعد الثورة، ساد افتراض ضمني مفاده أنّ سقوط النظام الاستبدادي يضع البلاد تلقائياً على سكّة الديمقراطية، وأنّ الزمن كفيل باستكمال ما لم يُنجَز في اللحظة الأولى. هكذا جرى التعامل مع الانتقال الديمقراطي كمسار بديهي، لا كرهان تاريخي محفوف بالتناقضات والمخاطر.

ضمن هذا التصوّر، انصبّ الاهتمام على إدارة المراحل أكثر من التفكير في معناها. أُنجزت استحقاقات دستورية وانتخابية مهمّة، واتّسع التعدد الحزبي، وكُرِّستْ حرّيات أساسية، غير أنّ هذه التحوّلات ظلّت محمولة على دولة محدودة القدرة، واقتصاد هشّ، ونسيج اجتماعي مثقل بالاختلالات. ومع مرور الوقت، بدأ يتكشّف أن البناء السياسي يتقدّم بوتيرة أسرع من قدرة الدولة على الاستيعاب، وأنّ الانتقال الديمقراطي لم يُطرح كمشروع إعادة تأسيس شامل، بل كترتيب سياسي مؤقّت، لإدارة التعدّد والخلاف.

في هذا السياق، تبلورت ممارسة سياسية، اتّسمت بكثافة التوافقات وقلّة الخيارات الواضحة. لم يكن الخلاف غائباً، لكنّه كان مؤجّلاً غالباً، أو مُداراً خارج نقاش عمومي معمّق حول طبيعة الحكم، وحدود السلطة، ووظيفة الدولة الاجتماعية. ومع تراكم الأزمات الاقتصادية والمالية، وتراجع القدرة على إنتاج سياسات عمومية ناجعة، أخذت الديمقراطية تُختَزل، في الوعي العام، في صراعات النخب وعجزها، لا في كونها إطاراً لتنظيم الاختلاف وتحقيق المصلحة العامة.

لم يكن هذا التحوّل وليد لحظة بعينها، بل نتيجة مسار طويل من تآكل الثقة بين المجتمع ومؤسساته المنتخبة. ومع ضعف الأثر الاجتماعي للسياسات العمومية، وغياب أفق اقتصادي واضح، بدأت تتشكّل، تدريجياً، مسافة بين الخطاب الديمقراطي وتجربة المواطنين اليومية. في هذا المناخ، لم تعد المسألة تتعلّق بمدى الالتزام بالقواعد الإجرائية للديمقراطية، بقدر ما صارت مرتبطة بسؤال الفعالية والقدرة على الحكم.

ضمن هذه الشروط، برزت تحوّلات سياسية لاحقة - من بينها صعود خيارات راديكالية في نقد المنظومة الحزبية والمؤسساتية - بوصفها تعبيراً عن أزمة ثقة متراكمة أكثر منها قطيعة مفاجئة مع المسار السابق. فهذه التحوّلات لا يمكن فهمها خارج سياق انتظارات اجتماعية لم تجد استجابة، ومؤسسات ديمقراطية لم تنجح في تحويل الشرعية الانتخابية إلى قدرة فعلية على القرار والإنجاز. من هذا المنظور، يصبح التركيز على الأشخاص أو اللحظات الفاصلة اختزالاً لمسار أعمق، سبق تلك اللحظات ومهّد لها.

لسنا بصدد تفسير مسار ما بعد 2011 انطلاقًا من نهاياته، ولا تحميل مرحلة أو فاعل بعينه مسؤولية ما آل إليه الوضع، بل إلى مُساءلة الكيفية التي صيغ بها الانتقال الديمقراطي نفسه: افتراضاته، أولوياته، وحدوده. فربما لا يكمن تعثّر المسار في ما حدث لاحقًا، بل في الطريقة التي جرى بها التفكير في الديمقراطية بعد الثورة، كترتيب سياسي قابل للاستمرار بنفسه، لا كعملية تاريخية، تتطلّب إعادة بناء مستمرة للدولة، وللسياسة، وللعقد الاجتماعي.

إنّ إدراج هذه التطوّرات في قراءة مسار الانتقال الديمقراطي لا يعني بالضرورة الحكم عليها، بل يقتضي التعامل معها كمؤشّر على حدود النموذج الذي اعتمدته تونس بعد الثورة. فالتجربة التونسية تكشف عن توتُّرٍ أصيل بين منطق الثورة ومنطق الدولة، وبين توسيع الحريات السياسية وضمان شروط الحكم الفعّال، وبين التعدّد الديمقراطي والحاجة إلى سلطة قادرة على اتخاذ القرار. وهي توتّرات لم يُفكَّر فيها منذ البداية، بوصفها جزءاً من الانتقال، بل جرى التعامل معها، بوصفها عراقيل ظرفية.

من هنا، لا يسعى هذا المقال إلى تفسير مسار ما بعد 2011 انطلاقًا من نهاياته، ولا إلى تحميل مرحلة أو فاعل بعينه مسؤولية ما آل إليه الوضع، بل إلى مُساءلة الكيفية التي صيغ بها الانتقال الديمقراطي نفسه: افتراضاته، أولوياته، وحدوده. فربما لا يكمن تعثّر المسار في ما حدث لاحقًا، بل في الطريقة التي جرى بها التفكير في الديمقراطية بعد الثورة، كترتيب سياسي قابل للاستمرار بنفسه، لا كعملية تاريخية، تتطلّب إعادة بناء مستمرة للدولة، وللسياسة، وللعقد الاجتماعي.

الدولة قبل الديمقراطية: إرباك البناء المؤسسي في مرحلة ما بعد الثورة

تعاملت النخب التي تصدّرت المشهد السياسي بعد الثورة التونسية مع فكرة الانتقال الديمقراطي بوصفها معطىً بديهياً، لا موضوعاً للنقاش أو البناء التدريجي. فقد ساد، في السنوات الأولى لما بعد 2011، تصوّر ضمني مفاده أنّ الثورة، بمجرد إسقاطها النظام السابق، قد حسمت اتجاه التحول، وأنّ ما تبقّى لا يعدو أن يكون مسألة ترتيب مؤسسي وإجرائي. هذا التصوّر لم يكن حكراً على فاعل بعينه، بل اشتركت فيه أطياف واسعة من النخب الحزبية، والحقوقية، والنقابية، بل وحتى الإدارية، التي التقت – على الرغم من اختلاف مرجعياتها - حول أولوية "إنجاح الانتقال" بوصفه هدفاً في ذاته، أكثر من كونه مشروعاً سياسياً قابلاً للتفكيك والمساءلة.

في هذا السياق، جرى التعامل مع الديمقراطية باعتبارها أفقاً مُسلَّماً به، تُقاس درجات التقدّم نحوه بمدى احترام المسار الإجرائي: انتخابات حرّة، دستور توافقي، مؤسسات مستقلة. أمّا الأسئلة المتعلقة بطبيعة الدولة، ووظيفتها الاجتماعية، وقدرتها على الفعل، فلم تحظَ بالمكانة نفسها. لم يكن هذا الغياب نتيجة إهمال نظري فحسب، بل ارتبط بتوازنات سياسية جعلت من "الانتقال السلس" قيمة عليا، حتى وإن تمّ ذلك على حساب النقاش حول مضمون السياسات والاختيارات الاقتصادية والاجتماعية. هكذا تحوّل الانتقال الديمقراطي من عملية سياسية صراعية إلى إطار تقني لإدارة الخلاف، تُختزل فيه السياسة في هندسة التوافقات لا في إنتاج الخيارات.

ضمن هذا الإطار، جرى ما يمكن تسميته بـ"مأسسة الثورة". فقد انتقلت الثورة من كونها فعلاً احتجاجياً مفتوحاً، إلى منظومة مؤسساتية محكومة بمنطق التمثيل والشرعية القانونية. هذا التحوّل لم يكن سلبياً في ذاته، إذ مكّن من تفادي الفوضى وضمن استمرارية الدولة، لكنه في المقابل أعاد توزيع السلطة الرمزية والمادية لفائدة نخب محدّدة. إذ لعبت الأحزاب السياسية الصاعدة، إلى جانب النخب الحقوقية والمنظمات المدنية الكبرى، دور الوسيط بين الثورة والدولة، مانحة نفسها شرعية تمثيل "روح الثورة"، في حين جرى تهميش الفاعلين الاجتماعيين الذين شكّلوا القاعدة العريضة للاحتجاجات، خاصة في الجهات المهمّشة.

تحوّل الانتقال الديمقراطي من عملية سياسية صراعية إلى إطار تقني لإدارة الخلاف، تُختزل فيه السياسة في هندسة التوافقات لا في إنتاج الخيارات.مع تراكم الأزمات الاقتصادية والمالية، وتراجع القدرة على إنتاج سياسات عمومية ناجعة، أخذت الديمقراطية تُختَزل، في الوعي العام، في صراعات النخب وعجزها، لا في كونها إطاراً لتنظيم الاختلاف وتحقيق المصلحة العامة.

اتّخذ التوافق وظيفة أساسية: تحييد الصراع بدلاً من تنظيمه. فقد جرى التعامل مع الانقسام بين "مشروعين مجتمعيين"، كمصدر خطر على الدولة وعلى السلم الأهلي. ومن ثمّ، تمّ بناء التوافق بوصفه آلية لخفض منسوب التوتّر بين هذه القوى، عبر توزيع المواقع، وتبادل الضمانات، وتأجيل الملفات الخلافية. في لحظته الأولى، سمح هذا الخيار بتفادي سيناريوهات إقصائية، وبالحفاظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسي، خاصّةً في ظل تجارب إقليمية عنيفة عزّزت من منسوب الخوف المتبادَل.

تَزامن هذا المسار مع تدفّق كثيف لبرامج الدعم الأوروبية والأمريكية الموجّهة إلى ما سُمّي بـ"تعزيز الديمقراطية" و"دعم الانتقال". وقد شمل هذا الدعم مجالات متعدّدة: تمويل الأحزاب، تدريب الكوادر السياسية، دعم منظمات المجتمع المدني، إصلاح المنظومة الانتخابية، وتعزيز الحوكمة المحلية. من حيث المبدأ، مثّل هذا التمويل اعترافاً دولياً بالتجربة التونسية ودعماً لاستقرارها، غير أنّه أسهم، في الوقت نفسه، في إعادة تشكيل الحقل السياسي والمدني وفق معايير خارجية محدّدة. فقد جرى توجيه جزء كبير من هذا الدعم إلى الفاعلين الأكثر قدرة على التكيّف مع خطاب "الديمقراطية الليبرالية"، وعلى تلبية شروط الشفافية والحوكمة كما تُعرِّفها الجهات المانحة.

بهذا المعنى، لم يكن التمويل الدولي محايداً تماماً، بل أسهم في تعزيز موقع نخب بعينها داخل المجال السياسي، خاصّةً تلك التي تمتلك رأس مال رمزياً ولغوياً وتنظيمياً يسمح لها بالاندماج في شبكات الدعم الدولية. في المقابل، ظلّت فئات اجتماعية واسعة، وحركات احتجاجية ذات طابع محلي أو اجتماعي، خارج هذا الإطار، إمّا لعجزها عن التكيّف مع منطق المشاريع، وإمّا لعدم انسجام خطابها مع الأولويات السائدة. ومع مرور الوقت، تشكّل نوع من التوازي بين مسار ديمقراطي "مُمَأسس" ومدعوم دولياً، ومسار اجتماعي احتجاجي بقي على هامش القرار.

لم يكن هذا التوازي بلا كلفة سياسية. فقد أسهم في توسيع الفجوة بين النخب والمؤسسات من جهة، والقاعدة الاجتماعية من جهة أخرى. كما عزّز تصوّراً متنامياً مفاده أنّ الديمقراطية، كما مورست، صارت إطاراً لإعادة إنتاج مواقع النفوذ، لا أداة لإعادة توزيع السلطة والموارد. ولم تكن النخب السياسية بمعزل عن هذا التحوّل، إذ وجدت في منطق الانتقال المُدار، والمدعوم خارجياً، وسيلة لتثبيت مواقعها، وإدارة التنافس فيما بينها، من دون الانخراط في نقاشات صعبة حول الخيارات الاقتصادية، أو الإصلاحات الهيكلية، أو العدالة الاجتماعية.

في هذا الإطار، تحوّلت فكرة الانتقال الديمقراطي من أفق للتحوّل إلى مرجعية تُستعمَل لتبرير استمرار الوضع القائم. فكل نقد للمسار كان يُواجَه، في كثير من الأحيان، بحجّة “حماية الانتقال” أو “عدم المغامرة بالمسار الديمقراطي”، ما جعل الديمقراطية نفسها خارج دائرة المساءلة. ومع تراكم الإخفاقات، لم يُعَدْ النظر في الافتراضات التي بُني عليها الانتقال، بل تم تحميل المسؤولية الأداء أو الظرف أو الفاعلين، من دون المساس بالإطار العام.

من هنا، يمكن القول إنّ أحد أوجه تعثّر الانتقال الديمقراطي في تونس لا يكمن في غياب النخب أو ضعفها فحسب، بل في الطريقة التي فَهِمت بها هذه النخب الديمقراطية نفسها: كمعطى بديهي يُدار، لا كمشروع سياسي واجتماعي يُبنى ويُختبَر باستمرار. وهو ما جعل الثورة تُؤسَّس مؤسساتياً، من دون أن تُستكمَل سياسياً واجتماعياً.

النخب السياسية ومنطق إدارة المرحلة: من التوافق إلى العجز

لم يكن التوافق الذي حكم مسار الانتقال الديمقراطي في تونس مجرّد خيار تقني لإدارة مرحلة انتقالية، بل جاء، في جوهره، استجابة لصراع اجتماعي-سياسي عميق سبق الثورة وتكثّف بعدها. فقد أفرزت الثورة، إلى جانب انفتاح المجال العام، إعادة تموضع حادّة بين قوى تحمل تصوّرات متباينة للدولة والمجتمع والهوية، وفي مقدّمتها تيارات الإسلام السياسي من جهة، ونخب حداثية–دستورية من جهة أخرى، إضافة إلى قوى وسطية تشكّلت حول منطق الدولة والاستمرارية، كما مثّلتها لاحقاً قوى مثل نداء تونس. هذا التعدّد لم يكن في حدّ ذاته عائقاً أمام الانتقال، بل تحوّل إلى إشكال، إذ لم تتم إدارته كصراع سياسي مشروع حول الخيارات، بل كتهديد وجودي متبادَل يستوجب الاحتواء لا الحسم.

في هذا السياق، اتّخذ التوافق وظيفة أساسية: تحييد الصراع بدلاً من تنظيمه. فقد جرى التعامل مع الانقسام بين "مشروعين مجتمعيين"، لا باعتباره تعبيراً طبيعياً عن التعدّد الديمقراطي، بل كمصدر خطر على الدولة وعلى السلم الأهلي. ومن ثمّ، تمّ بناء التوافق بوصفه آلية لخفض منسوب التوتّر بين هذه القوى، عبر توزيع المواقع، وتبادل الضمانات، وتأجيل الملفات الخلافية. في لحظته الأولى، سمح هذا الخيار بتفادي سيناريوهات إقصائية، وبالحفاظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسي، خاصّةً في ظل تجارب إقليمية عنيفة عزّزت من منسوب الخوف المتبادَل.

غير أنّ هذا المنطق سرعان ما تحوّل من إدارة مرحلية للصراع إلى نمط دائم للحكم. فبدلاً من أن يُستثمر التوافق في إعادة تعريف قواعد اللعبة السياسية، وتحديد مجالات الاختلاف المشروع، جرى تثبيته كآلية لتفادي أية مواجهة سياسية حقيقية حول مضمون السياسات. وقد أسهم الصراع بين الإسلام السياسي والحداثيين، كما أُعيد إنتاجه داخل المؤسسات، في تعزيز هذا الاتجاه. فكلّ طرف، وبينما هو يراقب موازين القوى، فضّل تجميد الملفات الحسّاسة بدلاً من المخاطرة بإعادة فتح صراعات الهوية أو الدولة أو الاقتصاد، ما جعل التوافق يتحوّل إلى مساحة حياد سلبي، لا تُتّخذ فيها قرارات كبرى.

لم يكن التمويل الدولي محايداً تماماً، بل أسهم في تعزيز موقع نخب بعينها داخل المجال السياسي، خاصّةً تلك التي تمتلك رأس مال رمزياً ولغوياً وتنظيمياً يسمح لها بالاندماج في شبكات الدعم الدولية. في المقابل، ظلّت فئات اجتماعية واسعة، وحركات احتجاجية ذات طابع محلي أو اجتماعي، خارج هذا الإطار، إمّا لعجزها عن التكيّف مع منطق المشاريع، وإمّا لعدم انسجام خطابها مع الأولويات السائدة. وهكذا تشكّل نوع من التوازي بين مسار ديمقراطي "مُمَأسس" ومدعوم دولياً، ومسار اجتماعي احتجاجي بقي على هامش القرار.

تجلّى الخلل بوضوح في العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية. فقد أُديرت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة عبر آليات تقليدية تقوم على التقشّف، وضبط المالية العمومية، وإصلاحات هيكلية مؤلمة اجتماعياً، في ظلّ ضعف قدرة الدولة على الحماية الاجتماعية. ومع غياب توافق وطني واسع حول الخيارات الاقتصادية، تحوّلت هذه السياسات إلى عنصر إضافي في تآكل الثقة بين الدولة والمجتمع، وصار الانتقال الديمقراطي يُحمَّل، في المخيال العام، مسؤولية التدهور المعيشي، لا بوصفه إطاراً سياسياً، بل كواقع يومي لم يُحقِّق الوعود.

برز هذا العجز بوضوح مع تشكّل تحالفات واسعة، ضمّت قوى متناقضة اجتماعياً وسياسياً، تحت عنوان "إنقاذ الدولة"، أو "حماية الانتقال. إذ جمعت هذه التحالفات قوى ذات مرجعيات مختلفة، من دون أن تفرز برنامجاً واضحاً للحكم. وبدلاً من أن يُدار التناقض عبر التنافس البرامجي داخل البرلمان والحكومة، تم احتواؤه عبر تقاسم النفوذ، ما أضعف منطق المساءلة، وميّع المسؤوليات، وحوّل الحكم إلى ممارسة قائمة على تجنّب الخسارة، لا على تحقيق المكاسب العامة.

في هذا الإطار، فضّلت النخب السياسية، على اختلاف مواقعها، إدارة المخاطر بدلاً من اتخاذ القرار. فكلّ إصلاح بنيوي - سواء تعلّق بالاقتصاد، أو بالعدالة الاجتماعية، أو بإعادة هيكلة الدولة - كان يُقرأ من زاوية تأثيره المحتمل في توازنات الصراع بين هذه القوى. وهكذا، صار القرار السياسي رهينة حسابات الخوف: خوف الإسلاميين من فقدان الشرعية أو العودة إلى الإقصاء، وخوف الحداثيين من اختلال "الطابع المدني" للدولة، وخوف قوى الدولة من تفكّك المؤسسات. هذا الخوف المتبادل أنتج حال شلل تدريجية، إذ لم يعد التوافق وسيلة لعبور الصراع، بل أداة لتدويره من دون حلّه.

في الحال التونسية، لم يؤدّ هذا النمط من التوافق إلى تحييد الصراع الاجتماعي–السياسي، بل إلى نقله من الفضاء العمومي إلى داخل الدولة نفسها. إذ صارت المؤسسات ساحة لتوازنات غير معلنة، تُدار فيها الخلافات بعيداً عن النقاش العمومي، ما أضعف ثقة المجتمع في السياسة، وعزّز الانطباع بأنّ النخب، على الرغم من اختلاف شعاراتها، تلتقي عند حدود حماية مواقعها. ومع تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لم يعد هذا المنطق قادراً على امتصاص الغضب، بل أسهم في تعميق الشعور بانفصال الحكم عن المجتمع.

بهذا المعنى، لا يمكن فهم تعثّر الانتقال الديمقراطي في تونس، من دون الربط بين منطق التوافق والصراع بين القوى الاجتماعية التي أفرزتها الثورة. فالتوافق، حين يُبنى على الخوف من الصراع لا على تنظيمه، يتحوّل من أداة استقرار إلى مصدر عجز. وفي التجربة التونسية، لم يُستخدم التوافق لتأسيس ديمقراطية قادرة على إدارة الاختلاف، بل لتجميد هذا الاختلاف داخل مؤسسات عاجزة عن الحسم. وهنا، تتجلّى إحدى الإشكاليات العميقة للمسار: لم يكن الصراع في ذاته هو المشكلة، بل الطريقة التي جرى بها احتواؤه من دون تحويله إلى سياسة.

لم يأتِ الانتقال الديمقراطي في تونس من فراغ، بل انطلق منذ 2011 داخل سياق إقليمي واقتصادي شديد الاضطراب، لم يكن مُهيّأً لاحتضان تحوّل سياسي عميق وطويل النفس. فعلى المستوى الإقليمي، تزامنت التجربة التونسية مع انتكاسات متتالية لمسارات التحوّل في بلدان عربية أخرى، ومع صعود نماذج سلطوية أعادت تثبيت منطق "الاستقرار قبل الديمقراطية". هذا السياق لم يكن مجرّد خلفية خارجية، بل شكّل إطاراً ضاغطاً أعاد تعريف الممكن السياسي، وقيّد خيارات الفاعلين التونسيين، سواء على مستوى السياسات، أو على مستوى الخطاب.

اقتصادياً، دخلت تونس مرحلة ما بعد الثورة وهي تعاني اختلالات هيكلية عميقة: معدلات بطالة مرتفعة، تفاوتات جهوية مزمنة، اقتصاد ريعي هشّ، واعتماد متزايد على التمويل الخارجي. هذه المعطيات لم تكن نتاج الثورة، لكنها تفاقمت في ظلّها، خاصة مع تراجع الاستثمار، وتقلّص الموارد السياحية، وارتفاع كلفة الدعم والدين العمومي. ومع ذلك، لم يُطرح الانتقال الديمقراطي منذ البداية، بوصفه مساراً مشروطاً بإعادة صياغة النموذج الاقتصادي، بل بوصفه إطاراً سياسيّاً، يمكن أن يعمل على الرغم من هذه الاختلالات، أو يؤجّل معالجتها إلى مراحل لاحقة.

في هذا السياق، اتّسم الدعم الدولي للتجربة التونسية بطابع انتقائي. إذ ركّزت الشراكات الأوروبية والأمريكية، في أغلبها، على الجوانب الإجرائية والمؤسساتية للديمقراطية: الانتخابات، الحوكمة، المجتمع المدني، إصلاح القضاء، وحقوق الإنسان. وعلى الرغم من أهمية هذه المجالات، إلا أنها لم تُواكَب بدعم اقتصادي وتنموي قادر على تخفيف الضغوط الاجتماعية، التي كانت تتزايد سنة بعد أخرى. وهكذا، وُضعت الديمقراطية الناشئة في مواجهة مباشِرة مع مطالب اجتماعية متراكمة، من دون أدوات مادية كافية للاستجابة لها.

تجلّى هذا الخلل بوضوح في العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية. فقد أُديرت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة عبر آليات تقليدية تقوم على التقشّف، وضبط المالية العمومية، وإصلاحات هيكلية مؤلمة اجتماعياً، في ظلّ ضعف قدرة الدولة على الحماية الاجتماعية. ومع غياب توافق وطني واسع حول الخيارات الاقتصادية، تحوّلت هذه السياسات إلى عنصر إضافي في تآكل الثقة بين الدولة والمجتمع، وصار الانتقال الديمقراطي يُحمَّل، في المخيال العام، مسؤولية التدهور المعيشي، لا بوصفه إطاراً سياسياً، بل كواقع يومي لم يُحقِّق الوعود.

اقتصادياً، دخلت تونس مرحلة ما بعد الثورة وهي تعاني اختلالات هيكلية عميقة: معدلات بطالة مرتفعة، تفاوتات جهوية مزمنة، اقتصاد ريعي هشّ، واعتماد متزايد على التمويل الخارجي. هذه المعطيات لم تكن نتاج الثورة، لكنها تفاقمت في ظلّها، خاصة مع تراجع الاستثمار، وتقلّص الموارد السياحية، وارتفاع كلفة الدعم والدين العمومي.

إقليمياً، لم تحظَ تونس بحاضنة سياسية داعمة لمسارها. فمع تحوّل ميزان القوى في المنطقة، تراجع الزخم الدولي لفكرة "التحوّل الديمقراطي العربي"، وحلّ محلّه منطق إدارة الأزمات، ومكافحة الهجرة غير النظامية، وضبط الحدود، ومواجهة المخاطر الأمنية. وفي هذا الإطار، أعيد تعريف العلاقة مع تونس من شراكة سياسية حول التحوّل، إلى علاقة وظيفية تركِّز على الاستقرار والأمن. هذا التحوّل أثّر مباشرة في أولويات الدعم الخارجي، وأضعف من قدرة الفاعلين المحليين على المناورة.

ضمن هذه الشروط، وجد الانتقال الديمقراطي نفسه بلا قاعدة اجتماعية صلبة. فالحرّيات السياسية التي تحقّقت لم تُترجم إلى تحسّن ملموس في شروط العيش، ولم تُرافقها سياسات تنموية تقلّص من الفوارق أو تعيد توزيع الموارد. ومع تكرار الأزمات، صار الفضاء الديمقراطي نفسه مسرحاً لتفريغ الغضب الاجتماعي، من دون أن يمتلك أدوات حقيقية للمعالجة. هنا، لم يكن العجز سياسياً فقط، بل بنيوياً، نابعاً من فجوة بين منطق الديمقراطية التمثيلية ومتطلبات الاقتصاد السياسي في بلد محدود الموارد.

هذا الوضع جعل من الديمقراطية إطاراً مكشوفاً، بلا حماية اقتصادية ولا دعم إقليمي فعلي. فحين تتراجع قدرة الدولة على الفعل، وتُربط السياسات العمومية بإكراهات خارجية صارمة، يصبح المجال السياسي محدود التأثير. وفي هذه الحال، لا يُقاس النجاح الديمقراطي بمدى احترام القواعد، بل بقدرة النظام على إنتاج الاستقرار الاجتماعي، وهو ما لم يكن متاحاً في ظلّ هذه الشروط.

من هذا المنظور، لا يمكن قراءة تعثّر الانتقال الديمقراطي في تونس بمعزل عن هذا السياق المركّب. فالمسألة لا تتعلّق فقط بخيارات داخلية أو بصراعات نخب، بل بواقع إقليمي لم يكن مرحِّباً بالديمقراطية، وباقتصاد سياسي قيّد منذ البداية هامش الفعل. وقد أدّى هذا التناقض بين طموح سياسي مرتفع وقدرة مادية محدودة إلى إنهاك المسار، وتحويل الديمقراطية من وعد جماعي إلى عبء.

وهكذا، يكشف السياق الإقليمي والاقتصادي عن أنّ الانتقال الديمقراطي في تونس لم يفتقر إلى الشرعية السياسية بقدر ما افتقر إلى الحاضنة التي تحميه وتمنحه الاستمرارية. فالديمقراطية التي تُبنى في عزلة إقليمية، وتحت ضغط اقتصادي دائم، تجد نفسها مطالَبة بالنجاح في شروط لا تسمح لها بذلك. وفي هذا الإطار، يصبح السؤال أقلّ ارتباطاً بما إذا كانت تونس قد "أخفقت"، وأكثر اتصالاً بما إذا كان الانتقال، كما صيغ ودُعم، قابلاً أصلاً للاستمرار. 

مقالات من تونس

دار الجيلاني في جربة، جماليّة المعمار وصخب التراث

ضو سليم 2025-12-16

المشروع في جوهرهِ تجسيد واضح لمبادرة الاقتصاد الاجتماعي التضامني، التي ترمي إلى وضع استراتيجية واضحة تمكِّن من الاستغلال الأمثل للموارد المادية والبشرية، وتقاوم هنّات المنوال الليبرالي ونقائصه الفادحة على مستوى...

من ندرة المورد إلى وفرة الصراع: أزمة الماء في تونس

يُمكن النظر إلى الماء كعنصر يُعيد إنتاج التفاوتات الاجتماعية. فمن جهة، تحظى الفضاءات السياحية والمناطق الصناعية بوفرة مائية نسبية، تضمن لها الاستمرارية والاستقرار، بينما تُترك الأحياء الشعبية والقرى الفلاحية في...

احتجاجات "قابس": قصة مدينة تونسية شُوِّهتْ ملامحها وسُممت أجواؤها

قابس الوديعة والصبورة تعيش منذ أواخر شهر أيلول/ سبتمبر الفائت، حالة من الغضب والسخط الشديدين، تعبِّر عنهما بأشكال مختلفة لكن بمطالب موحَّدة. هذه المطالب تريد نهاية لـ"جريمة" تعيشها قابس منذ...

للكاتب/ة

من ندرة المورد إلى وفرة الصراع: أزمة الماء في تونس

يُمكن النظر إلى الماء كعنصر يُعيد إنتاج التفاوتات الاجتماعية. فمن جهة، تحظى الفضاءات السياحية والمناطق الصناعية بوفرة مائية نسبية، تضمن لها الاستمرارية والاستقرار، بينما تُترك الأحياء الشعبية والقرى الفلاحية في...