على بُعد ثلاثة كيلو مترات من وسط مدينة حومة السوق، في جزيرة جربة التونسيّة، وفي إحدى المنعطفات المتفرّعةِ عن الطريق السياحيّة، تستقبلك دار الجيلاني، غير بعيد عن شاطئ "سيدي زايد" الذي تسير بمحاذاته الطريق المؤدّية إلى المنطقة السياحيّة، حيثُ تتركّز النّزل والملاهي الليلية وملاعب "الغولف".
ودار الجيلاني، كما يُشير الاسم لصاحبها ومؤسسها، "الجيلاني زرّيعة"، هي لحرفي وفنان تشكيلي أصيل المنطقة، ولكنّها دار ليست كسواها، وإنّما هي قُطب ثقافيّ يمتحُ من معين الثقافة المحليّة، ويرفدها ويُغْنيها بكلّ طريف محدث من الأنساق الثقافية.
تأسّست الدّار سنة 2010، واُدرجت رسمياً سنة 2012 ضمن قائمة المضافات السياحيّة المرخّص لها. على امتداد خمسة آلاف متر مربّع، تتوزّع الدار على أربعة مكوّنات أساسيّة، هي المُتحف، وقاعة الاجتماعات، وأجنحة الإقامة، التي يُضافُ إليها المسبحُ والساحة الفسيحة التي تُحيط به. بمُجرّد أن تجتاز باب الدّار الرئيسي، يعترضك مدخلٌ مُقوّسٌ يُفضي إلى مدرّجٍ يقودك إلى قبو بعُمق ثلاثة أمتار تحت الأرض. وللإشارة، فظاهرة البناء تحت الأرض من العلامات الأنتربولوجية المهمة، التي تسم المعمار الجِربي. إذ شاعت في القرون الوسطى ظاهرة المساجد تحت الأرض والغيران (جمع غار)، التي كانت تُمثِّل فضاءات علمية بالدرجة الأولى، وكذلك اجتماعية (التشاور والتباحث في مسائل دينية ودنيوية)، وفضاءات للتعبد والتزهد ولو بدرجة أقل. والملاحظ أن صاحب المشروع كان على وعي بهذا المعطى التاريخي، وشاء توظيفه وإحياءهُ من جهة، وأراد من جهة أخرى تكريس البعد المحلي بأكثر ما يمكن في مشروعه كاملاً.
القيروان أمُّ المدائن ورابعة الثلاث
18-05-2023
ينقسمُ القبو إلى جزأين، على يمينك صالة مربّعة الشكلِ مُزدانة بمقاعد خشبيّة مستطيلة تعلوها مرتبات وحشايا مُغلّفة بملاءات ومفارش زاهية، وقد فُرِشت أرضها بمنسوجات تقليدية محليّة، وُزّعت بين أرجائها طاولات من خشب الأبنوس، وتزيّن جدرانها لوحات من الفسيفساء البديعة، ويتدلّى من السقف فانوس مُحاطٌ بمظلة من سعف النخيل يمنحُ المكان رونقاً خاصاً، جُعل من هذه القاعة مقهى يقصده الزوار للتمتع ببعض الهدوء والأصالة.
أما في الطرف المقابل، فيُفضي بك الباب إلى ردهة طويلة واسعة تضُمّ ورشة لصاحب الدار، حيثُ يعكفُ لساعات يومياً على ابتداع لوحات وتحف فنيّة، وورشة نسيج، حيث تنتصب الأنوال الخشبية يقف وراءها نسّاج يبرعُ في تمرير خيط اللحمة بين خيوط السدى المتشابكةِ، ثم يحرّك المشط المسنّن لتثبيت الخيوط. يُضاف إلى ورشة النسيج ورشتا خزف وتزويق، خصّصتا لطلبة معاهد الفنون والحرف بمدينتي قابس وتطاوين، حيث يقصدون هذا المكان لإنجاز مشاريع تخرجهم، فيجدوا في هذه الدار فضاء للتمرّن والتدرّب وابتداعِ الصور الفنيّة المُحدثةِ. إلى جانب ورشات الخط العربي والتلوين التي يُشرف عليها خبراء في المجال الفنّي، يقدمون خلالها دروساً وتمارين لهواة هذين الفنّيْنِ. وعلى امتداد البهو عُرِضت آلاف القطع الفنيّةِ التي تنمّ عن براعة وحُسن ذوق مُبدعيها: محامل مختلفة من الخشب والبلاستيك والبلور، قوارير زجاجية، أواني خشبية، أغطية قوارير، أغصان أشجار، أبواب، شبابيك قديمة مهترئة، حجارة، لمبات فوانيس محترقة، كرناف النخيل الذي تشتهر به الجزيرة.. وأشياء أخرى كثيرة، لا قيمة لها، يجمعها "الجيلاني" من شواطئ البحر والغابات والطرقات، ويعمد إلى تشذيبها وإعادة تدويرها. وهو من خلال ذلك يحمي البيئة والمحيط الجُزري من خطر التلوث الذي صار يتهدده، في ظل تنامي الكثافة السكانية بالجزيرة، التي جاوزت 250 ألف نسمة، وتغوّل رجال الأعمال والمستثمرين، واكتساح المشاريع السياحيّة والاستشفائية مساحات مهمة، وما يعنيه ذلك من استنزاف للمخزون الطبيعي المتمثل أساساً في البحر والغابة، وانتهاك للخصوصية البيئية، وخاصة لبعض الفصائل النباتية النادرة التي تتمتع بها الجزيرة.
بمُجرّد أن تجتاز باب الدّار الرئيسي، يعترضك مدخلٌ مُقوّسٌ يُفضي إلى مدرّجٍ يقودك إلى قبو بعُمق ثلاثة أمتار تحت الأرض. وللإشارة، فظاهرة البناء تحت الأرض من العلامات الأنتربولوجية المهمة، التي تسم المعمار الجِربي. إذ شاعت في القرون الوسطى ظاهرة المساجد تحت الأرض والغيران (جمع غار)، والتي كانت تُمثِّل فضاءات علمية بالدرجة الأولى، وكذلك اجتماعية (التشاور والتباحث في مسائل دينية ودنيوية)، وفضاءات للتعبد والتزهد ولو بدرجة أقل.
نُغادرُ القبو، وقد اختزنت ذاكرة كل منا مشاهد ورسومات وتصاوير ومنحوتات تستلهم التراث في أدق جزئياته وتفاصيلهِ. فتدغدغ أنوفنا روائح أطعمة زكية، "إنها ورشة الطبخ" يقول لنا صاحب الدار، وهي ورشة تُشرف عليها سيدة قديرة في مجال الطبخ، تعلّم الراغبات والراغبين في إتقان الأكل المحلي، أسرار المطبخ التونسي.
بعد جولة في المكان، يدعونا "الجيلاني" إلى الجلوس، فنتحلق حولهُ، يحدّثنا عن دوافعهِ لبعث هذا الفضاء قائلاً: "كي تنجح في تونس عليك أن تُغرّد خارج السرب.. خالف تُعرف.. عند تأسيسي هذه الفضاء كنتُ أرمي إلى تأسيس مشروع يراوح بين الحرفي والسياحي من خلال الجمع والمواءمة بينهما والتأسيس لمشروع بديل يقوم على البحث في خيارات فنية ممكنة تتجاوز المألوف والسائد، وأظنني نجحت إلى حد ما في ذلك..". يتناول قطعة صغيرة من البلور يطلب مني اختيار اللون الذي يُعجبني، أختار اللون الأزرق يتناول بخفة الفرشاة ويغمسها في اللون الأزرق فوق لوحة الألوان التي أمامهُ، بسرعة فائقة يملأ المحمل البلوي زرقة متباينة الدرجات بين فاتح وغامق وباهت. يعرضُ علينا اللوحة ويطلب منا استقراء مكونات المشهد: سماء زرقاء صافية، وبحر هادئ، وزبد أبيض يتكسر على حافة شاطئهِ.. هكذا أجيبهُ، يعيد غمس الفرشاة في ألوان أخرى ويرسم نوارس محلّقةٍ في السماءِ، وصياداً يمتطي قارباً صغيراً وامرأة ذات رداءٍ أحمر تقف على حافة الشاطئ. يُعيد عرض اللوحة علينا فنصيحُ دهشة وإعجاباً ببراعته وخفّة يدهِ، فيُضاعفُ من إعجابنا ويتناول سلكاً من النحاس وكلاّباً، وفي لمح البصر يجعلُ منه محملاً للصورة. فنصفّقُ له إعجاباً.
صور من "دار الجيلاني"
نُغادرُ القبو وقد اختزنت ذاكرة كل منا مشاهد ورسومات وتصاوير ومنحوتات تستلهم التراث في أدق جزئياته وتفاصيلهِ. فتدغدغ أنوفنا روائح أطعمة زكية، "إنها ورشة الطبخ" يقول لنا صاحب الدار، وهي ورشة تُشرف عليها سيدة قديرة في مجال الطبخ تعلّم الراغبات والراغبين في إتقان الأكل المحلي، أسرار المطبخ التونسي. نصعد درجات قليلةٍ نحو القاعة العلوية وهي قاعة مسقوفة بسقف من اللوح، وازدانت بالأنتيكا: راديو قديم، أشرطة تسجيل، دفوف، آلات نسج يدوي، أواني فخارية ضاربة في القدم.. في هذه القاعة تُعقد الاجتماعات، وتنظَّم الورشات والدورات التكوينية، وتقام الاحتفالات.. يؤجرها مالكها لمن أراد من منظمات المجتمع المدني أو النوادي الثقافية، مقابل مبالغ معقولة، بعيداً عن شطط أسعار أصحاب الفنادق من فئة خمس نجوم، وهي تتحول يوم الأحد إلى قاعة مطعم، إذ تفتح "دار الجيلاني" أبوابها كل يوم أحد من كل أسبوع للزوار، مممن يرغبون في قضاء يوم الراحة فيها، مع توفير خدمات الأكل (فطور الصباح والغذاء)، وتقديم وجبات تراثية قديمة، مع إضافة إمكانية السباحة صيفاً في المسبح الملحق بأجنحة الإقامةِ.
مثل هذا المشروع الرائد الذي يستلهم التراث ويطوعه، ويجعل من النفايات والأشياء المهملة التي تشكل خطراً محدقاً بالبيئة مادة للعمل، يُعدّ خطوة أولى تمهّد الطريق لمشاريع أخرى مماثلة، تنهض بالمجالات البيئية والسياحية والثقافية، وتؤسس لسياحة بديلة عن الشكل الاعتيادي الذي يقدم التراث بشكل فولكلوري باهت وممجوج، ويؤسس لمشهد ثقافي يهدم القيود الشكلية الكلاسيكية، ويثمّن المهمَل، ويُعيد للطبيعة اعتبارها، ويبني فضاءً يدرّب الناشئة والمتعلمين أولى دروس المواطنة، من خلال تحفيز إحساسهم بقيمة إعادة التدوير، وأشكال الحفاظ على البيئة وحمايتها. وهو في جوهرهِ تجسيد واضح لمبادرة الاقتصاد الاجتماعي التضامني، التي ترمي إلى وضع استراتيجية واضحة تمكِّن من الاستغلال الأمثل للموارد المادية والبشرية، وتقاوم هنّات المنوال الليبرالي ونقائصه الفادحة، على مستوى تحقيق الإدماج المهني والاجتماعي لكافة الشرائح، خاصة غير الحاصلين على الشهادات منهم.
*الصور بعدسة الكاتب






