بعد مرور قرابة ساعتين، من انتصاف نهار الثالث والعشرين تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، بدأ الاستغراب ينتاب كثيراً من أبناء تهامة في اليمن، إثر رؤيتهم تغيرّاً ملحوظاً في لون السماء، وتدنيّاً في مستوى الرؤية، وتساقُطاً لما يشبه الرماد، الذي بدأت تلتحف به أسطح المنازل والطرقات والمزارع. تنامى هلعهم من هذه الظاهرة غير المسبوقة. لكن سرعان ما بدأ انحسارُ ذاك الهلع، بما توالى من أخبارٍ عن حدوث انفجار بركانيٍّ في إثيوبيا، وصلت آثاره إلى اليمن، على هيئة ذاك الغبار، الذي فوجئوا بغرابته.
من مملكة الجن إلى بلاد العفاريت
من إقليم عفر شمال شرقي إثيوبيا، بدأت الحكاية، بثوران بركان "هايلي غوبي"[1]، الذي رصدتْه مراكزُ الطيران وصور الأقمار الصناعية، عند الساعة الثامنة والنصف بالتوقيت المحلي من صباح اليوم نفسه (23 تشرين الثاني /نوفمبر 2025)، وفقاً لما ورد في نشرات مركز تولوز لسحب الرماد البركاني (VAAC). كما بلغ ارتفاع قمته عن سطح البحر 493 متراً، وعمود رماده حوالي (10ــ14 كلم). وأشارت تحليلات الأقمار الصناعية، إلى وصول سحابة رماده إلى سواحل بعض المدن اليمنية، بعد ساعات ثلاث من انفجاره، بدءاً من محافظة الحديدة (غرب اليمن)، لا سيما في مناطق: (الدريهمي، والمراوعة، والمخا، والجراحي، وحيس). ثم اتسعت تلك السحابة، فشملت عدداً من المناطق في السواحل اليمنية، ومثلها أماكن مختلفة من المرتفعات الجبلية، والمناطق الوسطى والشرقية، حيث وصل الرماد البركاني، إلى عددٍ من المناطق في محافظات: ريمة، وذمار، وشبوة، ومأرب، وحضرموت، وإب، وتعز، ولحج، والبيضاء، والضالع.
لقد ساد نعتُ المنطقة الأثيوبية التي انفجر فيها هذا البركان، بأنها مملكة الجن، بحسب ما توارثته الثقافة الشعبية الإثيوبية، التي لا تزال محافِظةً على كثير من المحكي الشعبي عن هذه المنطقة، من مثل تلك الحكاية عن أن من يمر بهذه المنطقة ليلاً سوف يسمع أصوات الجن المقيمين فيها، تناديه باسمه، وعليه أن يلتزم الصمت، لأنه لو رد عليهم، سيختفي عن الأنظار ولن يراه بعد ذلك أحد.
هناك من عبّر بإيجابية عن الحدث، ورأى فيه إمكانية أن يحظى اليمن بنصيب من ذاك الخير المحتمل، كالإشارة إلى أن "المواد والمعادن الناتجة عن رماد البراكين ومناجم الفحم، تعمل على زيادة خصوبة الأرض الزراعية، وتحسين جودة محاصيلها".
ويأتي هذا التعريج على حضور الجن في هذا السياق، للوقوف على صلة هذه الكائنات بمسار السحابة بدءاً وانتهاءً؛ إذ قدِمتْ من مملكة الجن الإثيوبية، ووصلت إلى بلاد العفاريت اليمن، التي قيل إن الجن مقيمين فيها، منذ أن كانوا خاضعين لحكم ملكة مملكة سبأ في العصور القديمة؛ بحسب المتداول من المحكي الشعبي المتوارث في اليمن.
من ناحية أخرى، وردت في مدونات التاريخ اليمني أحداثٌ بركانية إثيوبية مماثلة، وصلت تداعياتها إلى اليمن، من أهمها الإشارة إلى الانفجار البركاني الذي حدث عام (600 ه ــ 1203م)[2]، والإشارة إلى حالٍ مشابهة، حدثت في عام (847 هـ ــ 1445م)[3].
آثار اجتماعية وكوميديا سوداء
مع اللحظات الأولى التي وصلت فيها سحائب الرماد البركاني إلى اليمن، ظنّ بعضُ الفلاحين أنها بشائر مطرٍ قادم. لكنهم فوجئوا بتساقط ذرات رماد غريب، أصابتهم بنوبة خوف وقلق. وبعد أن اتضح لهم الأمر ممن لديه إمكانية معرفة الحقيقة، نحَى خوفهم منحىً واقعيّاً؛ إذ ربط كثيرٌ منهم بين ما يمكن أن تحدثه الكارثة من تلفٍ لمحاصيل مزارعهم، وما سبق أن تعرضت له من كوارث متتابعة، كان آخرها تدمير الصقيع لكثير من محاصيلها.
ومن خلال التماس هذا الترابط الكارثي المتسلسل، تمكنوا من إيجاد نافذة للتنفيس عن سخطهم، بالسخرية من واقعهم البائس. ثم اتسعت هذه السخرية، فصارت مزاجاً عاماً، في كثير من لقاءات اليمنيين واتصالاتهم وتفاعلهم في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تعاطوا مع الحدث بنوعٍ من السخرية الكوميدية السوداء، التي يتّسق جوهرها مع مضمون المثل الشعبي القائل: "شرُّ البليّة ما يُضحِك".
من صور ذاك المزاج العام، ما جاء ردّاً على مبالغة بعضهم في الحديث عن خطورة الأمر، إذ قوبلت تلك المبالغة، بنسق من التعليقات، التي تضمّنت إحالاتٍ على لامبالاة الناس المطلقة بإرشادات السلامة، من مثل هذا التعليق الذي ورد تعقيباً على منشور تحذيري: "قد الشعب اليمني يدهن بالرماد وجهه". ومثل ذلك ما تجلّى من هذه اللامبالاة، في سلوكيات واقعية، وثّقتها مقاطع الفيديوهات المتداولة، التي ظهر في بعضها أشخاصٌ يقومون بجمع ذرات الرماد، وأخرى وثّقت مسارعة بعضهم، إلى ملامسة تلك الذرات، أو مسحها من سطح زجاج سيارته، براحتي يديه، ملوِّحاً بهما، في تأكيده العفويّ وصولَ تلك السحب البركانية إلى منطقته.
كما استدلّ آخرون بهذا الحدث، على فكرة ارتباط النحس باليمنيين قدْراً خاصّاً بهم، من مثل ما تضمّنتْه هذه الجمل التعبيرية: "الشعب اليمني مُدْبِر". و"بعد المُدْبِر بعده"، و" لنا من كل مصيبة نصيب!".
ربط فريقٌ هذا الانفجار البركاني بما حدث في الأيّام القليلة الماضية، من تضييق اليمنيين ومطاردتهم المهاجرين الأفارقة اللاجئين في اليمن، كقول أحدهم: "الغبار البركاني القادم إلى اليمن من إثيوبيا هو بسبب الحملة التي قمنا بها على المهاجرين..! قلنا لكم خلوا لهم حالهم. هؤلاء مدعومون من طالع!"، فيتفق معه آخر معقّباً عليه: "قلنا لكم خلو الأحباش في حالهم ما رضيتم، انظروا الرد حقهم! قرَّحوا البركان!!".
وإذا كان كثير من أصحاب هذا المزاج العام، قد برهنوا بهذا الحدث على استحالة الحياة في اليمن، فإن بعضاً منهم قد حصر الشؤم في الجيل الحالي، كقول أحدهم: "يقولون إن هذا البركان مخمود لأكثر من 10 آلاف سنة... ولم ينفجر إلّا هذه الأيام...! الجيل هذا مِدْري مَن شخْطَطَ له"؛ إذ استند هذا التعبير الساخر، إلى المعلومة الخاصة بهذا البركان، التي تقول إنه خامد لم يثُر طيلة ما يقارب عشرة آلاف سنة. كما قام هذا التعبير على توظيف البعد الثقافي الشعبي، المتعلق بالسحر، وما يمكن أن يكون قد حدث منه لجيل هذا الزمن. وبذلك، بلغ هذا التعبير أعلى مستويات السخرية الكوميدية السوداء.
وربط فريقٌ آخر هذا الانفجار البركاني بما حدث في الأيّام القليلة الماضية، من تضييق اليمنيين ومطاردتهم المهاجرين الأفارقة اللاجئين في اليمن، كقول أحدهم: "الغبار البركاني القادم إلى اليمن من إثيوبيا هو بسبب الحملة التي قمنا بها على المهاجرين..! قلنا لكم خلوا لهم حالهم. هؤلاء مدعومون من طالع!"، فيتفق معه آخر معقّباً عليه: "قلنا لكم خلو الأحباش في حالهم ما رضيتم، انظروا الرد حقهم! قرَّحوا البركان!!".
ومن صور هذا المزاج العام الساخر، ما أحال على اكتفاء اليمنيين برماد البركان، وحرمانهم من معادنه التي كانت من نصيب الإثيوبيين، كما في هذه الجملة الساخرة: "المعادن لهم، والدخان والرماد لنا... بخت الشاقي بالشقاء!". وعلى ذلك، فإن هناك من عبّر عن الأمر نفسه بإيجابية، رأى فيها إمكانية أن يحظى اليمن بنصيب من ذاك الخير المحتمل، كالإشارة إلى أن "المواد والمعادن الناتجة عن رماد البراكين ومناجم الفحم، تعمل على زيادة خصوبة الأرض الزراعية، وتحسين جودة محاصيلها".
سخرية الرغبة في الخلاص
لعلّ من أهم تجليات الكوميديا السوداء ــ التي تعاطى من خلالها اليمنيون مع هذه التداعيات البركانية ــ هي تلك التي تضمّنت رغبةً مكبوتة في الخلاص ومغادرة الحياةـ ضيقاً بأحوالها البائسة. من مثل هذا التنبّؤ الذي استشرف نهاية كونية، إذ يقول فيه صاحبه: "أتوقع أن نهاية العالم قد قربت"، فيعقب عليه آخر: "هذه الحلقة الأخيرة بعدها سيأتي قوم يأجوج ومأجوج". بينما يمضي ثالثٌ متوسِّلًا الويل، داعيًا: "اللهم عجّل بالزلازل والبراكين والفيضانات في اليمن"، فيضيف رابعٌ: "إن شاء الله تقوم القيامة الآن.. ما معنا من الحياة في اليمن؟".
وصلت تداعيات الانفجار إلى اليمن، على شكل موجة كثيفة من الأتربة والغبار، والرماد البركاني، فتناولها المختصون بالشرح والتفسير، توصيفهم لها بأنها تتكون من جسيمات وجزئيات صخرية، وألياف وشظايا زجاجية قاسية حادة، وبلُّورات معدنية تشمل: (الفلدسبار، والبيروكسين، والأوليفين، والماغنتيت، وكوارتز). وغازات كيميائية، من أهمها:غاز ثاني أكسيد الكبريت (SO₂)، وغاز ثاني أكسيد الكربون، وحمض الهيدروكلوريك.
تأسيساً على سردية هذه المخاطر، توالت إرشادات السلامة، بصورة رسمية وغير رسمية، انتظمت جميعها في التأكيد على جملة من الإجراءات، في صدارتها: ضرورة البقاء في المنازل أكبر وقتٍ ممكن، وإغلاق الأبواب والنوافذ بإحكام. وارتداء الكمامات عند الاضطرار إلى الخروج. وحماية العينين، وتجنب فركهما وغسلهما وتنظيفهما في حال أصيبتا بالتهيج، مع تفضيل ارتداء النظارات. كما ورد ضمن تلك الإرشادات: غسل الخضروات والفواكه قبل الاستخدام، وتغطية الأغذية المكشوفة، وخزانات المياه وآبار التجميع.
وفي السياق نفسه، تأتي النظرة إلى هذا الحدث البركاني، بوصفه محاولة أخيرة، يمكن أن تكون فاعلة في القضاء على الناس، بعد محاولات سابقة، لم تُجدِ نفعاً، كقول قائل: "إن هذا الرماد بارودٌ سوف يحرقوننا به، ما نفعت لا الحرب ولا الأوبئة ولا الجوع مع اليمنيين!". ويشير آخر إلى "أن هذا البارود الآن صار جاهزاً ولم يتبق إلّا الولاعة (القدّاحة)، ومَن سيتولّى الإشعال بها النار، لخلاص جميع اليمنين من هذه الدنيا". ثم يتفق معهما مَن يرى أن هذه اللحظة تمثّل "آخر فرصة لمن يريد أن يموت، كون عام 2026 سيكون عام كوارث"، فتجد هذه الرؤية تأييدَ ساخر آخر، بلغ بها ذروة التعبير عن الرغبة في الخلاص، إذ ينصح اليمنيين بهذه العبارة كثيفة المرارة والسخرية: "لا أحد يلبس كمامة؛ هذه فرصتنا الأخيرة في اليمن. لا تضيّعوها بعد فرصة كورونا، استنشقوا بعمق، لأن باطن الأرض في اليمن خير من فوقها".
لقد كانت الرؤية الجمعية ــ التي قام عليها التعاطي الاجتماعي اليمني، العفوي والمباشر، مع تداعيات هذا الحدث ــ رؤيةً تشاؤمية، استندت إلى رغبة في الخلاص النهائي من الحياة، في سياق مرارة السخرية التعبيرية، المحيلة على واقعٍ مُفرَغٍ من مقومات العيش الكريم، غارق في البؤس والشقاء، ممزق بحروب لا آخر لها، فتأتي مثل هذه الأحداث والكوارث نافذةً تعبيرية، عن مدى ما وصلت إليه المعاناة في حياة الإنسان اليمني، من انسحاقه بمرارة البؤس والعذاب، والكرْب الذي لا تلوح في الآفاق أيّةُ بوادرَ يمكن أن تحيل على قرب انفراجه.
"هايلي غوبي" بركانٌ استثنائي
تشير البيانات المتوافرة عن بركان "هايلي غوبي"، إلى أنه ينتمي إلى سلسلة جبال إرتا، على بُعد حوالي 15 كيلو متراً جنوب شرق بركان "إرتا ألي"، الذي يُعدّ من أنشط البراكين على وجه الأرض. وعلى انتماء بركان "هايلي غوبي" إلى هذه السلسلة الجبلية البركانية، إلّا أنه لم يكن اعتياديًّا، وفقًا لقاعدة بيانات "المسح البركاني العالمي"، التي تشير إلى أنه لم يُسجّل له أيُّ ثوران سابقٍ لهذا الحدث.
وقد وصلت تداعياته إلى اليمن، على شكل موجة كثيفة من الأتربة والغبار، والرماد البركاني، فتناولها المختصون بالشرح والتفسير، ومجمل ما تضمّنه حديثهم عنها، توصيفهم لها بأنها تتكون من جسيمات وجزئيات صخرية، وألياف وشظايا زجاجية قاسية حادة، وبلُّورات معدنية تشمل: (الفلدسبار، والبيروكسين، والأوليفين، والماغنتيت، وكوارتز). وغازات كيميائية، من أهمها: (غاز ثاني أكسيد الكبريت (SO₂)، وغاز ثاني أكسيد الكربون، وحمض الهيدروكلوريك).
من أهم المخاطر التي أشار إليها الخبراء الجيولوجيون، فور وصول هذه السحابة البركانية إلى اليمن، حديثهم عن ما يمكن أن تتسبب فيه من إصابة للعيون بالتهيج، والتهاب الملحمة، وخدش القرنية. وكذلك ما يمكن أن تلحقه من أضرار بالجهاز التنفسي، كالالتهاب الحاد، وصعوبة التنفس، التي غالباً ما يتعرّض لها المصابون بالربو والحساسية، كالأطفال وكبار السن. ومثل ذلك هو الأمر في إشارتهم إلى مخاطر المواد السامة، التي تنشأ من تفاعل مواد الرماد البركاني مع بخار الماء، مُكَوِّنةً أمطاراً حمضية، تشمل أضرارها تلويثَ مصادر المياه، وتدمير المحاصيل الزراعية.
وتأسيساً على سردية هذه المخاطر، توالت إرشادات السلامة، بصورة رسمية وغير رسمية، انتظمت جميعها في التأكيد على جملة من الإجراءات، في صدارتها: ضرورة البقاء في المنازل أكبر وقتٍ ممكن، وإغلاق الأبواب والنوافذ بإحكام. وارتداء الكمامات عند الاضطرار إلى الخروج. وحماية العينين، وتجنب فركهما وغسلهما وتنظيفهما في حال أصيبتا بالتهيج، مع تفضيل ارتداء النظارات. كما ورد ضمن تلك الإرشادات: غسل الخضروات والفواكه قبل الاستخدام، وتغطية الأغذية المكشوفة، وخزانات المياه وآبار التجميع. وإطفاء أجهزة التكييف، وتغطية الأجهزة الإلكترونية الحساسة. وصولًا إلى إرشادات ما بعد تلاشي السحابة البركانية، كتجنُّب استخدام الماء في تنظيف الرماد المتراكم، والاكتفاء باستخدام مكنسة أو قطعة قماشٍ جافة.
-
"بركان "هايلي غوبي" بإثيوبيا: ماذا حدث؟ ولم يعد ثوراناً غير اعتيادي؟". موقع قناة الجزيرة، 25 نوفمبر ــ تشرين الثاني 2025. متاحٌ على الرابط التالي: https://shorturl.at/ztjfR ↑
-
تضمّنت تلك الإشارة حديثاً عن وصول سحاب ذاك البركان الإثيوبي إلى اليمن، فغطت البلد أياماً ثلاثة متتالية، وبعد انقشاعها كانت الأرض مغطاة بالرماد. ذكر ذلك عدد من مؤرخي اليمن، منهم: الجندي، والخزرجي، والاهدل، والديبع، وبامخرمة. ↑
-
أحال ابن الديبع بهذه الإشارة في تاريخه على حادث احتراق جبل في البحر بين كمران ودهلك ليلاً، حيث سمعت رجفات ودويّ، فأصبحت الأرض مستورة بالرماد، من عدن إلى الحجاز، وشيء من الجبال. ↑




