إعداد وتحرير: صباح جلّول
في مؤتمر الجمعية العامة للاتحادات اليهودية في أمريكا الشمالية، أثارت مشاركات كاتبة خطابات باراك وميشيل أوباما السابقة، سارة هورويتز، انتباه الحضور المهتمّ بالخروج من أزمة صورة الصهيونية المشينة عالمياً في عالَم ما بعد الإبادة في غزة، وأثارت كذلك استهجان الناس المتضامنين مع غزة حول العالَم، الذين شاهدوا مقاطع من خطابها المرعب الذي انفجر عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
تحدثت هورويتز في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 في الحدث الذي نظمه مجلس العلاقات المجتمعية اليهودية في واشنطن بالولايات المتحدة الأميركية، وننقل هنا حرفية مقاطع من كلامها معربةً، لأن وصفها لا يكفي للتعبير عن مدى عنصريته وبشاعته، بحيث يجد المرء نفسه مضطراً لنقل البشاعة كما هي، خاماً وفجّة ومثيرة للغثيان.
"نحن ننتقل إلى مجتمع ما بعد-القراءة والكتابة. كأنّ دماغ الناس يتمّ سحقه طوال اليوم بفيديوهات تيك-توك المليئة بمشاهد المذبحة المزعِجة في غزة. أعتذر إن كان ما سأقوله الآن قاسياً، ولكن عندما أحاول تقديم حجج مؤيدة لإسرائيل وما تفعله، أنتبه إلى أنني أتكلّم عبر جدار من الأطفال الميتين. هذا ما يراه الناس. لذلك عندما أحاول القول "نعم، لكن هناك 1.5 مدنيين مقابل كل مقاتل في غزّة، فالناس لا يسمعون تلك الحجة، فهم يرون المذبحة فحسب".
هنا يتدخّل محاوِر هورويتز بجملة اعتراضية لعلّه يعتقدها خارقة الذكاء. يقول: "هذا ابتزازٌ عاطفي"، لتكمل هي حديثها بالقول: "بالطبع، لكن مجدداً، أشعر كأنني أتكلّم عبر جدار من أطفال ميتين يصرخون".
"أعتقد أن هذا النقاش أصعب مما نتخيّل في الواقع، لذلك أؤمن بشدّة بأن على المدارس اليهودية أن تضع قوانين تقول بإن الأطفال لا ينبغي أن يحملوا هواتف ذكية حتى السنة الأخيرة من دراستهم الثانوية".
يعلو تصفيق في القاعة.
تتابع هورويتز بثقةٍ أكبر: "ممنوع أن يمتلكوا هواتف ذكية نهائياً. نقطة. نعطيهم هاتفاً في سنة تخرّجهم ونعلّمهم كيفية استخدامه. لا يكفي أن نقول إنه ممنوع خلال النهار فقط، بل ممنوع بالمطلق. نعطيهم هاتفاً غبياً (أي بسيطاً بدون استقبال انترنت)، لمَ لا، لكن علينا أن نعطي عقول أطفالنا وصحتهم النفسية فرصة قبل أن تتشوّه وتصاب بكل هذا الاضطراب".

كان هذا الحديث "الطبيعي" ضمن جلسة نقاشية على مسرح الحدث، لم تجد فيه هورويتز حرجاً من التحدّث بفوقية مذهلة عن عقول الشباب والمراهقين اليهود الذين تدّعي الدفاع عنهم. تقترح بلا أي خجل سحب سبل المعرفة منهم، وإدارة عقولِهم حتى ما بعد سنّ الرشد، عبر المنع، وسط موافقة وتشجيع الحضور الذي بدا كأنه وجد إجاباته فجأةً. أي فِكرة سوى الفكرة الصهيونية المطلَقة في عقولهم هي "تَشوّه" و"اضطراب" بالنسبة لهورويتز. لنتذكر وسط ذهولنا أن هذا الكلام يأتي على لسان مَن كانت تخطّ الخطابات والحجج لرئيس أقوى دولة في العالَم يوماً ما – وليس في ذلك ما يثير الدهشة، إنما هي فكرة لمجرد العبرة.
مقاوَمات.. لإنهاء الحصار والإبادة
22-05-2025
وإن كانت تصريحاتها في الجلسة النقاشية فظيعةً، فإن ما تحدّثت به هورويتز نفسها على شكل خطابٍ في المؤتمر قد تعدّاها فظاعة. فقد كررت هوَسها المرَضي بالتحكم والتلاعب بعقول الشباب والمراهقين اليهود، ووصلت إلى مكان شكّكت فيه بجدوى تعليم الأطفال عن الهولوكوست لأنها قد تُستخدَم مرجعاً يقيسون به مواقفهم من إبادات أخرى لشعوبٍ لا تستحق أن يُسمّى ما يحدث لها "إبادة".
"في التسعينات، لم يكن يمكن للشباب أن يجدوا مصادر مثل الجزيرة (...). اليوم بإمكانهم ببساطة أن يجدوها على هواتفهم. الموضوع يتعلق أيضاً بميديا ما بعد الكتابة والقراءة. نصّ أقل، صور أكثر. تيك-توك يسحق أدمغتنا اليوم بصور المذبحة في غزة، ولهذا السبب نجد أننا لا نستطيع أن نقوم بمحادثة "عاقِلة" مع اليهود الأصغر سِنّاً، لأن كل ما نقوله لهم، يسمعونه من خلال حائط المذبحة. أنا أريد أن أعطيهم معلومات، حقائق، أرقام وحجج، وهم يرون مجزرة، فيتهيّأ لهم أن أقوالي مشينة".
تعطي هورويتز مجدداً غطاءً تريد له أن يبدو ذكياً ومبدئياً، ضدّ سطوة عصر الصورة. تعتقد أنها بتسميتها "عصر ما بعد الكتابة والقراءة" تتمكّن من وضع نفسها باستعلاء فوق كل أولئك الذين تؤثّر فيهم بشدّة صورة طفل مقتول، أو عائلة مشردة في خيمة، أو مدينة مدمرة بأمها وأبيها. كأنها تقول أن التأثر بمثل هذه المشاهد هو للأغبياء، أما هي وأمثالها، فهم جماعة الأرقام والحقائق. وفي هذا أيضاً تضليل هائل، إذ أن ما حدث في غزّة هو إبادة جماعية رهيبة بإجماع المؤسسات المختصة، والباحثين بمشاربهم ومصادرهم المختلفة، وهي كذلك حتى ولو لم نرَ صورةً واحِدة مما حدث. بالأرقام والحقائق، وبالصوت والصورة: هي إبادة!

ثمّ تأتي فكرتها المذهلة التالية: "أعتقد أن الرهان الذكي الذي وضعناه على تعليم الهولوكوست واستخدام التثقيف حول الهولوكوست، للتثقيف حول معاداة السامية قد بدأ يتآكل نوعاً ما. التثقيف حول المحرقة مهم بالطبع، لكنه بدأ يبدو مربِكاً للشباب والصغار عندما يفكرون بمعاداة السامية. لأنهم يتعلمون في المدرسة عن النازيين الكبار الأقوياء الذين يؤذون اليهود الضعفاء والمضطهَدين، فيفكّرون: "آه، إذاً معاداة السامية هي مثل العنصرية المعادية للسود، صحيح؟ أقوياء بيض ضدّ ضعفاء سود". وبالمثل، عندما يرون على تيك-توك الأقوياء الإسرائيليين يؤذون الضعفاء "النحيفين" الفلسطينيين، ليس غريباً أن يفكّروا: "آها، الدرس الذي تعلمناه من الهولوكوست يعني أن علينا محاربة إسرائيل – نحارب الأقوياء الشرسين الذي يؤذون الضعفاء"...
نعم، إلى هذا الحدّ بات صهاينة العالَم مستعدّين للّعب بمقدساتهم وثوابتهم كرمى لبقاء مجازرهم وكيانهم الإبادي. إلى حدّ إقفال الباب على أولادهم ومنعهم من استخدام الميديا الجديدة، إلى حدّ إعادة النظر في تعليمهم عن المحرقة، إلى حدّ الإقرار علناً بأن ما يحدث لليهود من إبادة واضطهاد لا يجوز مقارنته بما يحدث للسود أو الفلسطينيين، إلى حدّ قول هذه العنصريات المركّبة والمقززة في محافل كبرى والدفاع عنها...
لنعُد للحظة إلى الجملة الاعتراضية التي يرميها المحاوِر لضيفته: "إنه ابتزاز عاطفي". تتلقفها هورويتز مكرّرِة أنها تشعر بأن كلامها يمرّ عبر "فلتر" هو عبارة عن "حائط من الأطفال الموتى"، وهذا الحائط هو ما يقوم بـ"تشويه" كلامها، وجعلها "تبدو مشينة" أو "قاسية". في لحظة واحدة، تحوّل سارة هورويتز الأطفال الموتى إلى "مضطهِدين" (بكسر الهاء) لها، هي التي لا تريد شيئاً سوى التكلم بـ"الحقائق". ليس هذا المنطِق بجديد على الصهيونية التي تبنى غدَها يوماً بعد يوم عبر دور "الضحية الأبدية". مهما كبرت "إسرائيل" واشتدّ ذراعها، ومهما ازدادت شراستها وقتلت من أبنائنا، فإنها تصوّر نفسها كمجموعة من أحفاد الناجين من المحرقة، والمنبوذين من الدنيا، والخائفين على حياتهم في أصقاع الأرض، وعلينا نحن تفهّم حاجتها لموتنا الدائم والمتكرر لكي تستطيع هي إطفاء نار القلق في كيانها.
يذكّر هذا بما يقوله الكاتب والصحافي تا-نهيسي كوتس في تقديمه لكتاب العظيمة توني موريسون "أصل الآخرين" حول العنصرية والعنصريين: "تُجادل موريسون بأن الحاجة إلى تأكيد إنسانية المرء أثناء ارتكاب أفعالٍ لاإنسانية أمرٌ أساسي. تأتي على ذِكر نصوص المزارع الأبيض توماس تيسلوود، الذي يُوثّق اغتصابه المُتتالي للنساء السود المُستعبَدات في مذكراته بكلّ سهولةٍ كما لو كان يُوثّق جزّ صوف الأغنام. تقول لنا موريسون بشكلٍ مُرعب: "بين أنشطته الجنسية، يسجّل ملاحظاته عن الزراعة، والأعمال المنزلية، والزوار، والمرض، وما إلى ذلك".
يسأل تا-نهيسي كوتس: "ما نوع العمل النفسي الذي اضطر تيسلوود إلى القيام به ليصبح قاسي القلب إلى هذا الحدّ، مُعرِّضاً نفسه لتطبيع الاغتصاب؟ العمل النفسي للآخَرية - إقناع الذات بوجود نوع من التمييز الطبيعي والإلهي بين المستعبَد والمستعبِد.
يبدو أن ضرورة اعتبار العبد من جنس غريب محاولة يائسة لتأكيد المضطهِد أنه "طبيعي". تقول موريسون إنّ الأمر يبدو كما لو أنهم يصرخون: "أنا لستُ وحشاً! أنا لستُ وحشاً! أعذّب العاجِزين لأثبت أنني لستُ ضعيفاً".
____________
من دفاتر السفير العربي
في أهمية موقف اليهود المناهضين لإسرائيل والصهيونية
____________
وكما حاولت هورويتز تأكيد "طبيعيتها"، ورفع ترس دفاعي يقول إن ما يقال عنها هو "سوء فهم" من شباب وصغار تمّ التغرير بهم، فهي أيضاً تعي تماماً فداحة الضعف في فكرتها، وتعلم أن التحيّز لبني جنسها ليس استعداداً وراثياً بين من وُلدوا يهوداً، إنما هو تحيّز مكتَسَب بالتعلّم والقدوة، تحاول هي وأمثالها إلباسه بالقوة لباساً علمياً، عبر اختلاق معادلة كذّابة: أنتم صغار مضَلَّلون عاطفيون، ونحن كبار نتعامل بالحقائق (!) وواقعيون...
وبينما كان هذا الحوار يتفتّق في أقصى الغرب، كانت قوة من المخابرات الإسرائيلية في المقلب الآخر من كرة الأرض تقتحم عرضاً مسرحياً للأطفال في مسرح الحكواتي (المسرح الوطني الفلسطيني) في القدس. "لا أريد رؤية أحد هنا خلال خمس دقائق"، صرخ المخْبر، طارداً الكبار والصغار من مسرحٍ لطالما واجه إغلاقات وتهديدات متكررة على مرّ السنوات.
ليس المشهد أفظع ما رأينا بعد سنتين من إبادة متواصلة في غزة، لكنه مشهدٌ صارخ: ممنوع تثقيف أطفالكم فلسطينياً، ممنوع التعبير، ممنوع تربيتهم على عداء "إسرائيل". وفيما ينهمك الصهاينة في ربط آذان وكمكمة عقول أطفالنا (هذا إن لم يقتلوهم أو ينهوا مستقبلهم) وأطفالهم وأطفال العالَم، يستمر انزلاق السردية من بين أيديهم لكثرة ما تلطخت بالدماء، ويستمر نزفهم الأخلاقي والثقافي والسياسي في عيون أجيالٍ لن تستطيع "إسرائيل" محو صور الإبادة المحفورة عميقاً في نفوسها. صارت معركتهم مع مَن يرثون الأرض غداً. كيانٌ قلِق، بتوحّشٍ نعم، لكن قلق، وضع نفسه في حرب مع أطفال وشباب العالَم.


