"الرُّجّاية" و"الأربعين": عن تقاليد التضامُن النسويّ في اليمن

على المرأة أن تلزم الفراش طيلة فترة اربعين يوماً بعد الوضع، فلا تبرح بيتها، ولا تتزيّن، ليس حفاظاً على صحتها فحسب، بل وحرصاً على حمايتها من الإصابة بأي شر من شرور الكائنات غير المرئية، التي تتربص بها خارج المنزل، منتظرةً خروجها خلال هذه الفترة، لتنقض عليها. وقد يكون أساس هذه الرؤية الشعبية السائدة في مجمل منطقتنا، يستند الى خبرة صحية موروثة، حيث يقول المثل الشعبي أن "قبر المرأة يبقى مفتوحاً لأربعين يوماً بعد وضعها".
2025-11-25

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
هند نصيري - اليمن

منذ اللحظة الأولى التي تضع فيها المرأة اليمنية مولودها، تحظى بنوع خاص من العناية التي تبدأ بحضور أمها أو واحدة من شقيقاتها، وتستمر بزياراتٍ يومية منتظمة، تقوم بها قريباتها وجاراتها، اللواتي يتناوبن على الاهتمام بها طيلة أربعين يوماً، يحرصنَ فيها على توفير كل أشكال الرعاية التي تحتاج إليه المرأة وجنينها، وأولادها، وزوجها، بما في ذلك الاهتمام ببيتها، والاضطلاع بكل ما يتعلق به من أعمال منزلية.

مقالات ذات صلة

يجسّد هذا النوع من الزيارات النسوية تقليداً شعبيّاً متوارثاً، تحيل عليه المحكية اليمنية بمصطلح "الرُّجّاية"، وهو المصطلح الأغلب استخداماً للدلالة على هذه الممارسة الاجتماعية. والمعنى الأكثر التصاقاً به هو الدلالة على ما تقدمه الزائرة للمرأة النفاس، من مواد وهدايا.

يمكن النظر إلى هذه العادة الشعبية بوصفها تعبيراً عن التضامن النسوي، إذ تُعدُّ "الرُّجّاية" تقليداً مُلزِماً لكل امرأة، فمَنْ تلد اليوم وتحظى بعناية المحيطات بها، عليها أن تؤدي الدور نفسه، مع ولادة كل واحدة منهنّ.

يُغلب على "الرّجّاية" أن تكون كميّات من الطحين والسمن، وفرخاً صغيراً، وغير ذلك من متطلبات الطهي. وبمعية الزائرات، تتولى النساء ذوات القرابة من الدرجة الأولى، إعداد الطعام في مطبخ الأسرة نفسها. أمّا في حال غياب أيٍّ من تلك النساء، فإنّ "الرجّاية" غالباً ما تكون أطعمة تقوم الزائرات بإعدادها في منازلهن، ثم يحملنها إلى بيت الأسرة ذات المولود الجديد.

ضمنية التفاهم النسوي

اللافت في ممارسة هذه العادة النسوية أنها مُنظّمة، تسير وفقَ قاعدة من التفاهم الضمني بين هؤلاء الزائرات حاملات "الرُّجّاية"، إذ تقوم جدوى هذه القاعدة على تأكيد الالتزام بعدم تقديم اثنتين أو أكثر من "الرُّجّاية" في يوم واحد، فيكون مقصوراً على امرأة واحدة كل يوم. كما ينطوي هذا التنظيم على الالتزام بألّا تقدم إحداهنّ "الرُّجّاية" في يومين متتالين أو أكثر، إذ عليها أن تنتظر موعد تقديمها التالي، الذي يجب أن يأتي بعد أيامٍ من تقديم "رُجَّايتها" الأولى، بحسب ما يتناسب مع توزيع المواعيد على عدد النساء اللواتي يشملهنّ هذا التقليد.

وعلى ذلك، فإن هذا الأمر مقصور على عملية تقديم "الرُّجّاية"، ولا يشمل الزيارة. إذ بإمكانهن أن يقمن بالزيارة كل يومٍ، والعمل على تحقيق غاية الرعاية المتكاملة بالمرأة وجنينها وبيتها.

يُغلب على "الرّجّاية" أن تكون كميّات من الطحين والسمن، وفرخاً صغيراً. وتتولى النساء ذوات القرابة من الدرجة الأولى، إعداد الطعام في مطبخ الأسرة نفسها. أمّا في حال غياب أيٍّ من تلك النساء، فإنّ "الرجّاية" غالباً ما تكون أطعمة تقوم الزائرات بإعدادها في منازلهن، ثم يحملنها إلى بيت الأسرة ذات المولود الجديد. تقوم جدوى هذه القاعدة على تأكيد الالتزام بعدم تقديم اثنتين أو أكثر من "الرُّجّاية" في يوم واحد.

يتميز هذا التقليد الشعبي في اليمن، بحيويته واستمرار ممارسته في القرية والمدينة، مع تفوق محدود لصالح القرية. ويرتبط هذا الحضور بعوامل فاعلة في ترسيخه، متمثّلة في أحوال البلد المتقلبة بين الفقر والمعاناة، منها ما يمكن أن يصل بحياة كثيرين إلى حافة الخطر.

من زاوية أخرى، يمكن النظر إلى هذه العادة الشعبية، بوصفها نسقاً من التضامن النسوي، إذ تُعدُّ "الرُّجّاية" تقليداً مُلزماً لكل امرأة، فمَنْ تلد اليوم وتحظى بعناية المحيطات بها، عليها أن تؤدي الدور نفسه، مع ولادة كل واحدة منهنّ. وفي سياق ذلك يندرج بُعدٌ آخر متعلّقٌ بالدور العائلي، إذ لا تعني إلزامية هذا التقليد أن على كل فتاة من فتيات العائلة الواحدة أن تقوم به، بل أن تقوم به إحدى بنات العائلة، واكتفاء الأخريات بتقديم هدايا صغيرة، غير مُلْزِمة.

مرجعية إنسانية متقادمة

يتميز هذا التقليد الشعبي في اليمن، بحيويته واستمرار ممارسته في القرية والمدينة، مع تفوق محدود لصالح القرية. وهذا الحضور يرتبط بعوامل فاعلة في ترسيخه، متمثّلة في أحوال البلد المتقلبة بين الفقر والمعاناة، منها ما يمكن أن يصل بحياة كثيرين إلى حافة الخطر، إن لم يُلق بهم في هاوية النهاية المأساوية.

تكامُلُ العُرف والقانون

من صور المُمارسة المُلزِمة في هذا التقليد ما يتعلق منها بحال المرأة نفسها، في فترة الوضع المُتعارف عليها في الثقافة الشعبية بمدة "الأربعين يوماً". إذ على المرأة أن تلزم الفراش طيلة فترة اربعين يوماً بعد الوضع، فلا تبرح بيتها، ولا تتزيّن، ليس حفاظاً على صحتها فحسب، بل وحرصاً على حمايتها من الإصابة بأي شر من شرور الكائنات غير المرئية، التي تتربص بها خارج المنزل، منتظرةً خروجها خلال هذه الفترة، لتنقض عليها. وقد يكون أساس هذه الرؤية الشعبية السائدة في مجمل منطقتنا، يستند الى خبرة صحية موروثة، حيث يقول المثل الشعبي أن "قبر المرأة يبقى مفتوحاً لأربعين يوماً بعد وضعها".

تنصّ المادة 45 من قانون العمل اليمني، لسنة 1995 ــ وتعديلاتها في سنة 2008 ــ على أنه "يحق للعاملة الحامل أن تحصل على إجازة وضع بأجر كامل مدتها 70 يوماً. ولا يجوز بأي حال من الأحوال تشغيلها أثناء إجازة الوضع". كما تنص الفقرة الثالثة من المادة نفسها على أن تُعطى العاملة الحامل عشرين يوماً إضافة إلى الأيام السبعين السابقة، في حالتين: الأولى حينما تكون الولادة متعسّرة ومثبتة بقرار طبي، والأخرى حينما تلد توأماً.

وإلى ذلك، فإن هذه الرؤية الشعبية الاحتراسية تفضي إلى صيغة احتفالية، تجعل من يوم الأربعين (آخر يوم من مدة الوضع) موعداً لمناسبة عائلية صغيرة، تقيمها أسرة المرأة احتفاءً باستكمالها أيام فترة الوضع. وفي هذه المناسبة تتحرر المرأة من بقائها الإلزامي في بيتها، وتتزيّن بما تريد. كما تقوم في هذه المناسبة ــ وفي الأيام التالية لها ــ بكل ما يُمكّنها من الاستعداد لاستئناف حياتها التي كانت عليها قبل أن تضع مولودها.

ويتبلور هنا نوع من التكامل العفويّ، بين العُرف المجتمعي والتشريع القانوني الخاص بإجازة وضع المرأة العاملة في اليمن. إذ تنصّ المادة رقم (45) من قانون العمل اليمني رقم (5) لسنة 1995 ــ وتعديلاتها في القانون رقم (15) لسنة 2008 ــ على أنه "يحق للعاملة الحامل أن تحصل على إجازة وضع بأجر كامل مدتها 70 يوماً. ولا يجوز بأي حال من الأحوال تشغيل المرأة العاملة أثناء إجازة الوضع". كما تنص الفقرة الثالثة من المادة نفسها على أن تُعطى العاملة الحامل عشرين يوماً إضافة إلى الأيام السبعين السابقة، في حالتين اثنتين: الأولى حينما تكون الولادة متعسّرة ومثبتة بقرار طبي، والأخرى حينما تلد توأماً.

وإذا كانت مدة الأربعين يوماً المتعارف عليها في الصيغة العرفية مقصورة على ما يمكن توصيفه بإجازة بعد الولادة ــ لاعتياد المجتمع الريفي في اليمن على أن يستمر عمل المرأة في المزرعة طيلة الأيام الأخيرة من الحمل ــ فإن الصيغة القانونية لم تفرق بين الإجازة قبل الولادة والإجازة بعدها. وبذلك، فإن في التشريع القانوني ما يكفي لأن يستوعب الصيغة العرفية المتمثلة في فترة الأربعين يوماً، شاملاً إجازة قبل الولادة، إذ يمكن توزيع الفترة التي أقرّها على كلتا الإجازتين: 30 يوماً إجازة قبل الولادة، و40 يوماً إجازة بعد الولادة.

لقد استوعب التشريع القانوني مركزية التكامل في الرعاية التي تحتاج إليها المرأة الحامل طيلة الشهر الأخير من الحمل والأيام الأربعين بعد الولادة. لكن ذلك لا يكفي للقول إن الصيغة القانونية قد استندت إلى العُرف الشعبي فتكاملت معه. ذلك لأن إقرار قانون العمل اليمني قد استند في حيثياته، بدرجة رئيسة، إلى اعتبارات صحية بحتة.

مقالات من اليمن

ثنائية الشتاء والصيف في اليمن

إذا كانت الزراعة، المعتمِدة على مياه الأمطار في اليمن، عاملاً مهمّاً في ترسيخ فكرة التقسيم المناخي الثنائي المتداوَل في الثقافة الشعبية، فإن التغييرات المناخية قد خلخلت الثبات المتوارَث في مواعيد...

للكاتب/ة

ثنائية الشتاء والصيف في اليمن

إذا كانت الزراعة، المعتمِدة على مياه الأمطار في اليمن، عاملاً مهمّاً في ترسيخ فكرة التقسيم المناخي الثنائي المتداوَل في الثقافة الشعبية، فإن التغييرات المناخية قد خلخلت الثبات المتوارَث في مواعيد...