سيون أسيدون.. "الجسر بين العوالِم"

إن كان موت سيون أسيدون غامضاً، فلأنّ حياته كانت شديدة الوضوح. ما من نعي أو رثاء تناول حياته من رفاق النضال، شباباً وشيباً، إلا وكان شهادةً في رجلٍ "مُلهِم". تتكرر الكلمة إقراراً بصعوبة أن يعيش المرء مِثل حياة هذا المناضل، بهوياته المركّبة، أمازيغية وعربية يهودية، ومغربية وأممية، بكمّ التضحيات الهائلة التي فُرضت عليه، وعاد بعدها مناضلاً بصوت أعلى وأشرس، وبعدم حياده عن مبدأ من مبادئه رغم كل محاولات كسره.
2025-11-13

شارك
سيون أسيدون في إحدى التظاهرات من أجل فلسطين.
إعداد وتحرير: صباح جلّول

رحل المناضل المغربي سيون أسيدون عن 77 عاماً، يوم 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 في مدينة الدار البيضاء في المغرب، وذلك بعد ثلاثة أشهر من دخوله في غيبوبة بقيت أسبابها مُبْهَمة. أصدرت حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) – فرع المغرب بيان نعي، جاء فيه: "بقلوب مثقلة، نودع رفيقنا المناضل المغربي سيون أسيدون، أحد مؤسسي حركة المقاطعة (BDS) في المغرب، وصوتاً حراً حمل قضية فلسطين في قلبه حتى آخر لحظة".

رجّح البيان أن تكون إصابة أسيدون ناتجة عن هجوم متعمَّد "نفّذه مجهولون يُرجَّح ارتباطهم بأجهزة مقربة من النظام الاستبدادي في المغرب، الذي قمع وأسكت على مدى سنوات طويلة الأصوات الحرّة والمعارضة، ومن بينها الأصوات الشجاعة مثل صوت سيون، الذي لم يتردّد في فضح ممارسات السلطة وخيانتها لقضية فلسطين، وفي كشف تحالفها العسكري والأمني مع العدو الإسرائيلي الإبادي ومع الحركة الصهيونية، التي حاربها سيون بشغف". وبقيت أسباب الغيبوبة موضع شكّ بين كونها طبيعية أو مفتعلة بغاية إسكات صوته.

وصف بيان حركة المقاطعة حياة المناضل بـ"الجسر بين العوالم": أمازيغية وعربية يهودية ومغربية وأممية، "موحَّدة بإيمان راسخ لا يتزعزع بأن التحرر والنضال لإنهاء جميع أشكال القهر والاضطهاد لا يعرف حدوداً".

وقد حضر جنازته ثلة من المناضلين من مشارب متعددة، منهم يساريون وإسلاميون وليبراليون. وممن أسهم في حمل النعش أخٌ من قيادة جماعة العدل والإحسان.

من جنازة الراحل

بطاقة تعريف

إن كان موت سيون أسيدون غامضاً، فلأنّ حياته كانت شديدة الوضوح. ما من نعي أو رثاء تناول حياته من رفاق النضال شباباً وشيباً إلا وكان شهادةً في رجلٍ "ملهِم". تتكرر الكلمة إقراراً بصعوبة أن يعيش المرء مِثل حياة هذا المناضل، بهوياته المركّبة، بكمّ التضحيات الهائلة التي فُرضت عليه وعاد بعدها مناضلاً بصوت أعلى وأشرس، وبعدم حياده عن مبدأ من مبادئه رغم كل محاولات كسره. فمن هو هذا الرجل الذي تجب معرفته وإنصافه؟

____________
من دفاتر السفير العربي
في أهمية موقف اليهود المناهضين لإسرائيل والصهيونية
____________

وُلد سيون أسيدون في عام النكبة 1948 وتحديداً في شهر أيار /مايو منها! وُلد في مدينة أكادير لعائلة يهودية أمازيغية. في عام 1960، غادر أكادير مع عائلته، إثر الزلزال الذي ضرب المدينة، إلى الدار البيضاء. في إحدى رحلاته الكشفية، شهد سيون (وكان بعد طفلاً في سن المراهقة) على ترحيل اليهود المغاربة إلى فلسطين من جنوب شرق المغرب. حسب تقرير لقناة الجزيرة، كان والده معارضاً لفكرة الهجرة، ولم تنفع البروباغندا الصهيونية المستشرية آنذاك في استقطابه وعائلته، ما جعل سيون يعتبر أنه من المحظوظين ببقائه.

هاجر أسيدون مع عائلته لاحقاً إلى فرنسا حيث درس الرياضيات في جامعة باريس. عام 1967، عاد إلى المغرب من غربته، وكان لهزيمة 1967 تأثير جوهري على تكوينه الفكري وتعميق انخراطه في العمل النضالي الفلسطيني.

في عام 1972، اعتقل سيون في المغرب بتهمة التخطيط لقلب النظام وارتكاب أعمال عنف، وهي تهم باطلة نفاها المناضل مراراً، ورأى أن سبب اعتقاله كان نشره صحيفة رأي منتقِدة للنظام. اعتقل في مركر "دار المقري" السري، حيث قطع عنه أي اتصال بالعالم الخارجي، ثم في السجن المركزي في القنيطرة.

خرج سيون من السجن عام 1984، بعد أكثر 12 عاماً في الحبس، تخللها عام كامل في الحبس الانفرادي وإضراب عن الطعام، لكنه خرج مع أعطاب مستديمة في يده وأذنه من جراء التعذيب المتكرر في السجن. لثمان سنوات بعد إطلاق سراحه، بقي سيون محروماً من جواز سفره والتنقل بحرية.

بعد هذه الضريبة الهائلة على حياته وشبابه، خرج المناضل جاهزاً لاستكمال برنامج عمله، وبدون تأخير، ودون خوفٍ من تجدد حلقة دفع الأثمان، تابع عمله النضالي.

طاقة نضالية لا تهدأ

عرّف سيون أسيدون عن نفسه كمناضل يساري ماركسي. كان يرى فلسطين في صلب قضايا التحرر التي تهم كلّ شعوب العالم، ويرى الخطر الأكبر في المساواة بين الصهيونية واليهودية، فكان يهودياً ينبذ التنظيم السياسي الصهيوني بكل أشكاله، ويعتبر الصهيونية حركة استعمارية عنصرية. كان أحد مؤسسي حركة المقاطعة في المغرب، وحاضراً دائماً في كلّ الحراكات والتظاهرات من أجل فلسطين، على الشارع وفي الكواليس.

ملصق من عام 1981 يدعو للحرية لسيون أسيدون أثناء حبسه في المغرب.

حتى من داخل سجنه، أرسل أسيدون ورفيقه المناضل اليساري (اليهودي أيضاً) ابراهام السرفاتي من الزنزانة رسائل للرئيس الفلسطيني آنذاك، ياسر عرفات، يبديان فيها استعدادهما الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية وصفوف المقاوِمين.

كما كان أسيدون من المبادرين إلى تشكيل لجنة إغلاق معتقل الخيام في جنوب لبنان في العام 1992، والذي كان محتلاً وقتها من إسرائيل، وكان معتقل تعذيب سري شائن الذكر، لم يدخله الصليب الاحمر الدولي لتفقد المعتقلين إلا في العام 1994. وكانت تلك المبادرة بداية لحملات تضامن عالمية، حُرِّرت إثرها المناضلة سهى بشارة - التي اختارتها اللجنة كوجه مُمثِّل لكل المعتقَلات والمعتقَلين - في العام 1998، بعد 9 سنوات ونيف على اعتقالها، وقبل انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، في العام 2000، هو وعملائه.

كان أسيدون عضواً في السكرتارية الوطنية للجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، وكذلك الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة ("منظمة الشفافية" في المغرب).

قبل وفاته بأسابيع، أبحر أسطول الحرية من الشواطئ المغاربية متجهاً إلى غزّة، وكان أسيدون ما يزال في غيبوبة، لكنّ اسمه كان محمولاً مع المناضلات والمناضلين المغاربة، فأعلن رفاقه أنهم أبحروا باسمه وتقديراً لجهوده في الدفاع عن قضايا المضطهدين في فلسطين والعالم. "نُبحر اليوم باسم سيون، وباسم كل المناضلين الذين آمنوا أن فلسطين ليست مجرد قضية، بل بوصلة للحرية والكرامة الإنسانية."

وداع وعهد

"أسيدون عطانا وصيّة: لا تنازُل عن قضيّة".

"وعهد الله لن نخون، فلسطين في العيون. عهد الله لن نخون، أسيدون في العيون".

هذه بعض الهتافات التي رددها رفاق الراحل، مسلمين ويهود وعرب وأمازيغ، في تشييعه إلى مثواه الأخير، في المقبرة اليهودية في الدار البيضاء. رفرفرت أعلام فلسطين في الجنازة، وتلفّح الناس كوفيات ورفعوا صور المناضل، كما أظهر أحد مقاطع الفيديو علماً فلسطينياً رُفع فوق مدفنه، فيما ردّد المشيعون "أسيدون، يا رَفيق، ما زِلنا على الطريق". وقد اشطاطت غضباً الصحف الاسرائيلية معتبرة أن دفنه في مقبرة يهودية والصلاة عليه من قبل الكهنة اليهود المغاربة، غير مشروع. وهذا التشييع المؤثر، وذاك الغضب الاسرائيلي، كانا تجسيداً صارخاً لفشل الصهاينة في المطابقة بين اليهودية والصهيونية.

توافد مشيعون حملوا أعلاماً فلسطينية ولبسوا الكوفيات يوم الأحد في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 لوداع سيون أسيدون (الصورة عن فيسبوك).

من أفكار ماركس إلى التأثر خلال حرب فييتنام وانتفاضة أيار/ مايو 1968، التي شارك فيها مع مجموعة طلابية ثورية في فرنسا، وصولاً بالطبع إلى القضية الفلسطينية، كان مسار المناضِل يرسم طريقه الواضح. قال أسيدون بحسم إن "الصهيونية ليست حلاً للمسألة اليهودية"، بل هي "أسوأ إجابة عليها". لقد وعى أسيدون ما وصفه بالـ"إحساس المبْتَذل بالتضامن الطائفي"، الذي خلّفه وراءه، خارجاً نحو فضاءات إنسانية رحبة. هو الذي قال في إجابته على سؤال مع قناة "صوت المغرب" حول معنى اسمه "أسيدون" الأمازيغي: "هو مَن يربط بين الناس، وهو بالفعل ما أقوم به في عملي".

مقالات من المغرب

"المستشفى أولاً والملعب عاشراً": جيل زد المغربي يرفض الأولويات الحكومية

كثيراً ما يُوصف شباب هذا الجيل بأنهم يفتقرون إلى النزعة التأطيرية الكلاسيكية، ويَنْزعون إلى الانفعالية والعنفوان، ويحتجون من دون تبنيهم لمشروع مجتمعي مؤطَر أو رؤية ناضجة. لكن يحضر خلف هذا...