فلسطين وأهلها في لوحات رسام روسي من القرن التاسع عشر

تَمثَّل هدف بولينوف الإبداعي في تجسيد المشهد التاريخي عبر أعمال تتناول مواضيع الإنجيل، وإعادة إنتاج تفاصيل المشاهد بدقة متناهية، أي ترجمة النصوص المقدسة إلى لغة واقعية. هذه "التأملات الفلسفية"، التي تتماشى مع روح العصر، حلت محل المعجزات الدينية والجانب الخارق للطبيعة. وقد ترك لنا كنزاً في التصوير الواقعي لفلسطين البشر والحجر. يقول: "أنا مفتونٌ جداً بعظمة هذا الرجل وجمال السرد عنه. في قصص الإنجيل، المسيح شخصٌ حقيقيٌّ حيّ، أو ابن الإنسان، كما كان يُسمّي نفسه باستمرار... لذلك، تكمن المهمة في نقل هذه الصورة الحيَّة بواسطة الفن".
2025-11-13

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
"من كان منكم بلا خطيئة"، لوحة لفاسيلي دميترييفيتش بولينوف، المتحف الروسي الحكومي في سان بطرسبورغ. 325 بـ 611 سم زيت على قماش

باتت صورة فلسطين المقدسة موضوعاً مستقلاً في الفن التشكيلي الروسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد هيمنت على أعمال أحد كبار الرسامين الروس، فاسيلي دميترييفيتش بولينوف (1844-1927). تَمثَّل هدف بولينوف الإبداعي في تجسيد المشهد التاريخي عبر أعمال تتناول مواضيع الإنجيل، وإعادة إنتاج تفاصيل المشاهد بدقة متناهية، أي ترجمة النصوص المقدسة إلى لغة واقعية. ويبدو أن هذا الاتجاه الفني ظل هاجسه، إذ كتب في عام 1897: "... وصلت إلينا بعض التفاصيل الأثرية والإثنوغرافية، مما مكّننا، إلى حد ما، من إعادة بناء صورة الحياة في تلك الحقبة. يحتوي الإنجيل على سمات يومية قيّمة للغاية، ترسم صورة لذلك العصر، وتشير إلى أوجه تشابه بين الحياة آنذاك والحياة اليوم. وما تغير على الأرجح قليل جداً. الطبيعة، أي السماء والجبال والبحيرات والمنحدرات، والدروب والأحجار والأشجار والزهور... كل هذا بقي على حاله تقريباً. كذلك المباني وملابس الناس عامة مشابهةً أيضاً لهذه الموجودة اليوم. أقول كل هذا بناءً على الدراسة والملاحظة، وأحاول توظيف كل ذلك في لوحاتي".

يعتبر فاسيلي دميترييفيتش بولينوف من أهم فناني عصره، وكان أستاذاً في الرسم التاريخي والمناظر الطبيعية والنوعية، ويُنسب إليه ابتكار تقنية الرسم في الهواء الطلق. كان فاسيلي وشقيقته التوأم فيرا، الطفلين البكرين لعائلة نبيلة كبيرة ومثقفة من العاصمة سان بطرسبورغ. كان والده، دميتري فاسيليفيتش، ابن الأكاديمي في الأدب الروسي فاسيلي ألكسيفيتش بولينوف، وحفيد عالم الآثار والمؤلف الشهير أليكسي ياكوفليفيتش بولينوف. أما والدته، ماريا ألكسيفنا فويكوفا، فكانت مؤلفة كتب للأطفال ورسامة.

على الرغم من أن بولينوف كان من أبرز الفنانين الذين رسموا بلادنا، إلا أن الكتابة عن لوحاته الفلسطينية تقتضي البحث والتنقيب في محفوظات عدد من المتاحف والأرشيفات الروسية والمذكرات المطبوعة وغير المطبوعة. لذلك يسهل العثور على صور لعدد من لوحاته الدينية، التي تبرزها المواقع الأرثوذكسية، إلا أن الكتابة عن الرحلة والعثور على اللوحات التي صوّرت الحياة اليومية مسألة أخرى. فقد جسد الفنان الحياة في فلسطين كما رآها بكل واقعية، وأدخل في بعضها شخصيات من الإنجيل، إلى جانب اللوحات التي رسم فيها الطبيعة والمشهد الذي رآه أمامه. وبذلك ترك لنا كنزاً في التصوير الواقعي لفلسطين البشر والحجر. وهو أكد منذ بداية مسيرته الفنية، عام 1874، في إحدى رسائله أن الحقيقة في الفن تكمن فيما سمّاه بـ"المبدأ اليومي". وكما لاحظ مؤرخ الفن المعاصر فيتالي مانين: "أعاد بولينوف النظر في معنى الحياة اليومية وهدفها كموضوع فني... ابتكر الفنان فلسفته الخاصة للوجود، حيث اكتسب ما كان يعتبر تافهاً معنىً عميقاً فجأة. وهكذا، أطلق بولينوف تأملات فلسفية، استمرت في لوحاته التي تناولت مواضيع الإنجيل". هذه "التأملات الفلسفية"، التي تتماشى مع روح العصر، حلت محل المعجزات الدينية والجانب الخارق للطبيعة.

المدينة المقدسة

في الثاني من شباط/ فبراير 1882، وبعد رحلة طويلة في مصر، جلس فاسيلي بولينوف في القدس وكتب إلى أمه ماريا ألكسيفنا بقلق وحنين، متسائلاً إن كانت رسائله قد ضاعت في الطريق. يقول: "أمي العزيزة، ظننتُ أنني سأجد رسالتكِ في القدس، لكنني لم أجدها. لا أعرف إن كنتِ قد استلمتِ رسالتي من القاهرة، والتي تتضمن رسماً للقسطنطينية، والتي طلبت منكِ فيها الكتابة إليّ في القدس. من المؤسف أن هذه الرسالة ضاعت. اتضح أن القدس أقل لطفاً بنا بكثير من القاهرة ومصر. طوال رحلتنا، ولأن الناس لا يسافرون عبر مصر، بل يبحرون، لم تهطل قطرة مطر واحدة. مرة واحدة فقط، أثناء تفقّدنا للمقابر الملكية، سقطت بضع قطرات في وادي بيبان الملوك، ودوّى الرعد في الجبال. أخبرنا العرب أن هذا يحدث كل سبع سنوات. وإلا، لكانت السماء شبه صافية طوال الوقت.

كانت لوحة "المسيح والمرأة الخاطئة" عملاً مشرقاً ومبهجاً، ودافئاً ومشمساً في موسكو الباردة والمثلجة. كما شكّلت اللوحة تحدياً جريئاً للمتشددين دينياً. كان الأمر غير مألوف تماماً أن نرى المسيح يرتدي زي درويش شرقي، حتى أنه كان يعتمر غطاء رأس محلي أبيض في البداية. ولكن لاحقاً، بسبب منع الرقابة عرض اللوحة بهذا الشكل، اضطر فاسيلي بولينوف لتعديلها.

ولكن في يوم مغادرتنا القاهرة، تغير كل شيء فجأة. هبت عاصفة شديدة وبرد قارس، واستمرت حتى يومنا هذا... كانت الرحلة إلى يافا شاقة للغاية، فقد اهتزت السفينة بشدة، وكنتُ مريضاً. قبل يافا، اضطررنا للبقاء هناك أربعاً وعشرين ساعة، متحملين الحجْر الصحي الذي فرضته الحكومة التركية لإغاظة المصريين. من السفينة إلى يافا، وسط أمواج عاتية وأمطار غزيرة، وصلنا إلى الشاطئ متجاوِزين الصخور. يافا مدينة ساحلية صغيرة محاطة لعدة أميال ببساتين البرتقال الوارفة، ولا تزال أشجارها مثقلة بالفاكهة.

دعوا الأطفال يأتون إلي، مشهد من فلسطين

من يافا، انطلقنا في عربة مغطاة على طول طريق سريع مقبول إلى القدس. صفتْ السماء، وأضاءت الشمس الساحل الفينيقي الخصيب. في منتصف الطريق، في بيت منعزل يُدعى اللطرون، قضينا الليلة، وفي اليوم التالي، عند الفجر، تحت المطر البارد والرياح، انطلقنا عبر السفوح إلى القدس. بعد نصف يوم من البرد والرطوبة، دخلنا ضواحي القدس، أي المُجمَّع الروسي. كان القنصل بانتظارنا وقد جهز لنا غرفة. بعدما تعافينا، ذهبنا لرؤيته. اتضح أنه رجل كريم ومضياف، شغوف بالفن، لذا أحدثت رسوماتي المصرية ضجةً كبيرة هنا. اصطحبنا القوّاس (الحارس القنصلي) وتوجهنا إلى كنيسة القيامة... يا لها من متاهة خلابة من الكنائس والمذابح والممرات والسلالم والأقبية والشرفات، وما إلى ذلك، وكلها تنبض بالحياة. يا له من حشد متنوع من الحجاج تحرَّك أمامنا، تألف من نسائنا الروسيات المسنات من جميع المقاطعات (هناك عدد هائل منهن هنا)، إلى النوبيين السود والمسيحيين الأحباش...". (يفغينا ساخاروفا، مذكرات عائلة بولينوف، 1964).

على خطى المسيح في فلسطين

وفي قصاصة تعود إلى الخامس من شباط / فبراير، يقول: "قَضينا يومين نستكشف جميع معالم هذا المكان العظيم. كل شيء مُرتّب وعلى مرأى من الجميع، وهناك الكثير من الأشياء المثيرة للاهتمام والجميلة التي تستحق المشاهدة، لكن أجملها على الإطلاق هي الساحة المحيطة بالحرم الشريف (المسجد الأقصى أو مسجد عمر). لم أرَ شيئاً مهيباً أكثر منه، إذا ما استثنيتُ تلة إسكي سراي في إسطنبول فقط. بساتين الزيتون أيضاً جميلة جداً. كان الطقس في هذين اليومين غير عادي أيضاً، فقد تساقطت ثلوج ناعمة ورطبة باستمرار، حتى تحوّلتْ القدس إلى مدينة روسية. يقف فلاح يرتدي معطفاً من جلد الغنم ويرسم علامة الصليب: الحمد لله، تماماً كما هي الحال في بلادنا. ولكن بعد العاصفة، عندما بدأتُ العمل، حلّت أيام ربيعية رائعة. لم تكن الشمس حارقة بل دافئة قليلاً. هناك الكثير من المناظر الخلابة والمثيرة للاهتمام هنا، لدرجة أن المرء يصاب بالضياع التام. لدي الكثير من العمل، والوقت ضيق، وعلي أن ألقي نظرة سريعة على كل شيء. من المؤسف ألا أجد الوقت الكافي لوصف كل ما آراه بمزيد من التفصيل. (محفوظات معرض تريتياكوف – موسكو).

الحرم الشريف

نمت فكرة رسم مجموعة كاملة من اللوحات التي تُجسّد حياة المسيح، وعُزِّزت، وتوطّدت مع تنامي ثقة الفنان بقدراته الفنية. كان يحلم بتجسيد هذه المشاهد بالريشة والكلمة، وحتى بالموسيقى. كتب: "المهمة التي أمامي صعبة، لا تُقهَر، لكنني لا أستطيع رفضها، فأنا مفتونٌ جداً بعظمة هذا الرجل وجمال السرد عنه... في قصص الإنجيل، المسيح شخصٌ حقيقيٌّ حيّ، أو ابن الإنسان، كما كان يُسمّي نفسه باستمرار... لذلك، تكمن المهمة في نقل هذه الصورة الحية بواسطة الفن". هنا تقترب رؤية بولينوف للعالَم من رؤية فيلسوف الأدب الروسي ليف تولستوي (1828-1910).

ذهبنا الى كنيسة القيامة... يا لها من متاهة خلابة من الكنائس والمذابح والممرات والسلالم والأقبية والشرفات، وما إلى ذلك، وكلها تنبض بالحياة. هناك الكثير من الأشياء المثيرة للاهتمام والجميلة التي تستحق المشاهدة، لكن أجملها على الإطلاق هي الساحة المحيطة بالحرم الشريف (المسجد الأقصى أو مسجد عمر). لم أرَ شيئاً مهيباً أكثر منه، إذا ما استثنيتُ تلة إسكي سراي في إسطنبول فقط. بساتين الزيتون أيضاً جميلة جداً.

في السادس من شباط/ فبراير 1882، غادرنا القدس وانطلقنا إلى أريحا والبحر الميت، وسلكنا الطريق نحو دمشق. وفي الطريق، رأينا المسلحين للمرة الأولى. كان الجميع مسلحين بمسدسات أو بنادق، وكان الفقراء يحملون رماحاً أو سكاكين، أو حتى هراوات وعصياً. يحمل الجميع السلاح في سوريا وفلسطين. كذلك رأينا البدو يحملون رماحاً طويلة من الخيزران. 

حظِيتْ لوحة "المسيح والمرأة الخاطئة"، أو "من كان منكم بلا خطيئة"، على شهرة واسعة بين أعمال بولينوف، ومن أجل إتمامها كان لا بد له من السفر برحلة أخرى في ربيع 1889 إلى مصر وفلسطين وسوريا لانتقاء المكان ورسمه بدقة ورسم وجوه الناس، وهي إحدى اللوحات المخطط لها ضمن مجموعته الفلسطينية. أطلق لاحقاً على أعماله الفنية الكثيرة في رسم المناظر الطبيعية التي جلبها من هذه الرحلة، اسم "مسار المسيح في المناظر الطبيعية". واستمر الفنان في عمله حتى عام 1909 حين أكمل سلسلة لوحاته التي حملت عنوان "من حياة المسيح". وفي افتتاح المعرض، قال الفنان: "لقد حددتُ لنفسي هدف تصوير حياة المسيح كاملةً في لوحات. لطالما حلمتُ بهذا، وهذه ثمرة جهودي". لم تقتصر المعارض على العاصمة القيصرية سان بطرسبرغ وموسكو فحسب، بل شملت أيضاً مدينة تفير الروسية والعاصمة التشيكية براغ. في براغ، نشر الفنان طبعةً مصغرةً من ألبومه، وبفضل هذه الطبعة وصلتنا فكرة شبه كاملة عن سلسلة لوحاته، التي تحتل أماكن مميزة في أبرز المتاحف الروسية، لكن من المؤسف أن مصير ما يقرب من نصفها لا يزال مجهولاً حتى اليوم.

بين القدس وبيروت

سافر بولينوف إلى الشرق مرتين. كانت المرة الأولى شتاء 1881-1882، والثانية بعد سبع سنوات. نُظِّمت الرحلة الأولى بمبادرة من البروفيسور أدريان براخوف (1846-1916) وبمساعدة الأمير سيميون أباميليك لازاريف (1815-1888). كتب الفنان في إحدى رسائله: "لطالما حلمتُ بها (الرحلة إلى الشرق) حتى أنني الآن، وقد بدأ هذا الحلم الذي دام لسنوات عديدة يتحقق، لم أصدق هذا الحظ السعيد، واعتبرتُ أنني شخص آخر وحسدتُه". وكتب الأكاديمي السوفياتي دميتري سارابيانوف (1923-2013) عن بولينوف: "كان بحاجة إلى الشرق... لإعادة إحياء حياة المسيح بأقصى قدر من الأصالة".

جاء في مذكرات الأمير لازاريف الذي رافق في مراحل مختلفة من الرحلة الرسام بولينوف: في السادس من شباط/ فبراير 1882، غادرنا القدس وانطلقنا إلى أريحا والبحر الميت، وسلكنا الطريق نحو دمشق. وفي الطريق، رأينا المسلحين للمرة الأولى. كان الجميع مسلحين بمسدسات أو بنادق، وكان الفقراء يحملون رماحاً أو سكاكين، أو حتى هراوات وعصياً. يحمل الجميع السلاح في سوريا وفلسطين. كذلك رأينا البدو يحملون رماحاً طويلة من الخيزران. وعلى الرغم من بداية موسم المطر، أي من السادس إلى الخامس عشر من شباط/ فبراير، لم يهطل علينا المطر سوى يومين من جنين إلى الناصرة ومن الناصرة إلى طبريا. ويا لها من أمطار، ثلاث أو أربع فترات سقاية، كما يسميها ترجماننا، لأنها كانت تستمر نصف ساعة فقط وكانت خفيفة جداً. وكانت الأيام التي قضيناها دافئة رائعة بالمجمل، وخاصة في غور الأردن. نابلس أجمل الأماكن على الإطلاق، ثم جنين، وطبريا. الطبيعة رائعة في هذه البلاد، ساحرة ودافئة. مياه البحيرة زرقاء كالسماء، والجبال حولها خلابة، وحرمون مُغطّى بالثلوج... هذا أجمل ما رأيناه في الطريق.

عين السيدة العذراء في الناصرة

وصلنا في الخامس عشر من شباط/ فبراير، إلى دمشق بعربة تجرها الخيول على طريق معبّد جميل بنته شركة فرنسية. المدينة غارقة في البساتين، لكنها للأسف، خالية من الأوراق الآن. اقتربنا من المدينة عبر وادٍ ضيق، تتدفق الجداول عن يمينه ويساره لتشكل في النهاية نهراً كبيراً... شوارع عديدة في دمشق مغطاة بالكامل، وهي تُشكّل البازار المشهور بثرائه. ما يُلفت الانتباه بشكل خاص في دمشق هو بياض بشرة سكانها، حتى أن المرء يرى العديد من ذوي الشعر الأشقر إلى جانب وجوه البدو السمراء تماماً.

نابلس أجمل الأماكن على الإطلاق، ثم جنين، وطبريا. الطبيعة رائعة في هذه البلاد، ساحرة ودافئة. مياه البحيرة زرقاء كالسماء، والجبال حولها خلابة، وحرمون مُغطّى بالثلوج... شوارع عديدة في دمشق مغطاة بالكامل، وهي تُشكّل البازار المشهور بثرائه. ما يُلفت الانتباه بشكل خاص في دمشق هو بياض بشرة سكانها، حتى أن المرء يرى العديد من ذوي الشعر الأشقر إلى جانب وجوه البدو السمراء تماماً.

مدينة بعلبك واسعةٌ جداً، وفيها سوقٌ شعبي. عند وصولنا إلى الفندق، استأجرنا غرفاً جميلة على الطراز الشرقي. غادرنا بعلبك سائرين على طريق سريع جميل. ملأت أشجار المشمش المزهرة، وكذلك أشجار الخوخ، الهواء برائحة عطرة. في اليوم التالي، وصلنا إلى بيروت. ما أجمل هذا الطريق! لا شيء يُضاهي المنظر من قمم جبال لبنان، مُطِلاً على البحر: بيروت في الأسفل، والساحل ظاهرٌ في الأفق. منحدرات جبل لبنان في هذه المنطقة مُشجّرة. 

وفي جزء من الطريق، سرنا على طول ضفة جدولٍ رائع صافٍ. كان النهار حاراً جداً في بعض الأحيان، لكن هبت رياح قوية وباردة. قبل ساعة من بعلبك، رأينا فجأة كتلة من الآثار المظلمة وبرجاً شاهقاً في وسطها... ومع اقترابنا، ازداد البرج سطوعاً، واتضح أخيراً أنه ليس سوى الأعمدة الستة الضخمة. مدينة بعلبك مدينةٌ واسعةٌ جداً، وفيها سوقٌ شعبي. عند وصولنا إلى الفندق، استأجرنا غرفاً جميلة على الطراز الشرقي شرفات مطلّة وهي ذات أرضيات رخامية رائعة. وهناك انطلقنا مع فاسيلي دميترييفيتش بولينوف لاستكشاف المدينة وآثارها.

مقهى على شاطئ بيروت

وفي العاشر من شباط/ فبراير، يتابع لازاريف: "غادرنا بعلبك في الساعة الواحدة ظهراً، سائرين على طريق سريع جميل. كان الطقس دافئاً وهادئاً، وأشرقتْ الشمس من خلف الغيوم، مُنيرةً أجزاءً من السهل الأخضر الرائع. ملأت أشجار المشمش المزهرة، وكذلك أشجار الخوخ، الهواء برائحة عطرة. من بعلبك، يرتفع الوادي قليلاً، ويستمر لمدة ساعتين، ثم تختفي بعلبك، لكن منظر جبل حرمون ينفتح بشكله المهيب. سافرنا حتى الخامسة مساءً، نستمتع بالهواء النقي ونُعجب به. في اليوم التالي، الساعة الثالثة عصراً، وصلنا إلى بيروت. ما أجمل هذا الطريق! لا شيء يُضاهي المنظر من قمم جبال لبنان، مُطلاً على البحر: بيروت في الأسفل، والساحل ظاهرٌ في الأفق. منحدرات جبل لبنان في هذه المنطقة مُشجّرة، ثم تبدأ كروم العنب، ثم سهل أخضر بغابات خلابة وغابات صنوبر. يلتف الطريق الأبيض كالأفعى فوق المنحدرات، ثم يمتد كشريط أبيض عبر الغابات والحقول. تنحدر كروم العنب من سفوح الجبال في جلول أو مدرَّجات ضيقة. تبدو من بعيد كعباءة تونسية مُخططة". (أرشيف الأدب والفن – رغالي).

مسجد جنين

إرث بولينوف

كان الفنان الأرمني السوفياتي يغيشي تادوفوسيان (1870-1936) أحد تلامذة بولينوف. يقول في مذكراته التي كتبها في تفليس (تبليسي) سنة 1932: " في عام 1899، دعاني فاسيلي دميتريفيتش لمرافقته إلى الشرق، أي إلى مصر وفلسطين. وافقتُ بسعادة، وقضينا رحلة رائعة معاً. كان فاسيلي دميترييف يرسم رسومات تخطيطية بسرعة وطاقة هائلة، مما أثّر بي. بعد رحلته الأولى إلى فلسطين، كان الهدف من رحلته الثانية تصوير مناظر طبيعية لسلسلة من اللوحات من حياة المسيح. أينما ذهبنا، كان يروي لي تاريخ المنطقة بأكمله، بما في ذلك وصف جميع معالمها. لم يكن نهج بولينوف تجاه المسيح دينياً، بل واقعياً للغاية. كان يتخيل كل مشهد في أجواء معاصِرة، يومية، في الشرق (كما لو كان يحدث الآن)، بدون أي معجزات بالطبع، ويُظهِر المسيح بقوة إنسانية مثالية أخلاقية. ذات مرة، قال لي في مرسمه: "لا أعرف كيف تتخيل المسيح. بالنسبة إلي، في الحياة، أرى أناساً ذوي سمات طيبة، تُذكرنا بالمسيح".

ثم يتحدث تادوفوسيان عن معرض بولينوف بعد إتمامه الرسم، يقول: "كان حدثاً احتفالياً حقيقياً، خاصةً بالنسبة إلينا نحن الشباب، طلابه. كنا نحتفل. بعد اللوحات التقليدية شبه القاتمة في المعارض المتنقلة لفنانين آخرين، كانت لوحة "المسيح والمرأة الخاطئة" عملاً مشرقاً ومبهجاً، ودافئاً ومشمساً في موسكو الباردة والمثلجة. كما شكلت اللوحة تحدياً جريئاً للمتشددين دينياً. كان الأمر غير مألوف تماماً أن نرى المسيح يرتدي زي درويش شرقي، حتى أنه كان يعتمر غطاء رأس محلي أبيض في البداية. ولكن لاحقاً، بسبب منع الرقابة عرض اللوحة بهذا الشكل، اضطر فاسيلي بولينوف لتعديلها. كان جميع التلاميذ ومعلمي الشريعة والحشد بأكمله يرتدون أيضا أزياء فلسطينية كالتي نراها اليوم". (محفوظات "المتحف الأرمني")

لم يكن نهج بولينوف تجاه المسيح دينياً، بل واقعياً للغاية. كان يتخيل كل مشهد في أجواء معاصِرة، يومية، في الشرق (كما لو كان يحدث الآن)، بدون أي معجزات بالطبع، ويُظهِر المسيح بقوة إنسانية مثالية أخلاقية. ذات مرة، قال لي في مرسمه: "لا أعرف كيف تتخيل المسيح. بالنسبة إلي، في الحياة، أرى أناساً ذوي سمات طيبة، تُذكِّرنا بالمسيح".

من المدهش في سلسلة لوحات بولينوف التي رسمها وفق رؤيته الواقعية، أن الجانب الديني الإنجيلي فيها يحتل نسبة ثانوية على المستوى البصري. فقد جسد الفنان المشهد الطبيعي كما رآه من التلال والأودية والأنهر والبحيرات، كما جسد العمارة كما رآها، أي أنه وثّق بأمانة خلفية اللوحة في المدن والبلدات التي زارها. كما أن الأشخاص في لوحات بولينوف (أهل البلاد وملابسهم وأشياؤهم) ما هم إلا الناس الذين التقى بهم في طريقه وفي الأماكن التي زارها من يافا، إلى القدس وجوارها، إلى نابلس وجنين وطبريا، ومرج بني عامر والناصرة، ثم إلى دمشق وغوطتها وتدمر وبعلبك وجبل لبنان وبيروت وصور...

وبناء على واقعيتها، حظيت جوانب من أعمال بولينوف بدراسات علمية، ومنها دراسة عن المسطحات المائية في اللوحات للباحثة أنستاسيا لوسيفا، بعنوان "مياه فلسطين في سلسلة أعمال بولينوف الشرقية"، ودراسة أخرى بعنوان "ضوء فلسطين وهواؤها في لوحات فاسيلي بولينوف"، إلا أن الأماكن المعروفة في المدن والبلدات الفلسطينية، ووجوه الناس لا تزال تنتظر دراسات معمقة من الباحثين حتى اليوم.

مقالات من فلسطين

غزّة.. أكلها الذئب

عُدت إلى المدينة، وهي لم تزل بعيدة عن تلك التي أعرفها. أفتحُ الشباك، أشعرُ بها شاحبة، متألمة، بلا ضجّة، ولا ضوضاء، ولا أطفال يلعبون. حتى في ذلك الوقت، الذي كانت...

العودة الثانية..

2025-10-16

"لم يكن ينبغي أن يعيش الغزيّون كل هذا – ولا لأحد أن يعيش مثله. لكن إذا فُرِض علينا هذا الأمر، فسنعود كما ينبغي لنا، برؤوس مرفوعة، جاهزين لما سيأتي، عائدين....

للكاتب/ة

الرحلة السلافية إلى الديار النابلسية: في الطريق إلى الناصرة

فُرِضتْ الانجليزية والفرنسية على أهل بلدان المشرق بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب الكونية (1914-1918)، وقد اتخذ الاحتلال الإنكليزي–الفرنسي للبلاد طابع "الانتداب"، وكان ممهِّداً لاحتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية....

المشهد البيروتي قبل غزو 1941 وبعده

شكّلت الحرب تجربة قاسية للطبقات الوسطى غير التجارية، ولأصحاب المداخيل الثابتة (ملاّكون، موظفون في القطاعين الخاص والعام، أصحاب مهن حرة، متقاعدون...). ويرى الباحث جبرائيل منسى أن العمال، وعلى الرغم من...