تقرير محكمة الحسابات الموريتانية.. بين كشف الفساد وإدارة العاصفة

الطريقة المثلى لمحاربة الفساد بجدية، وتحدي الواقع المتردي الحامي له، هي ضمان وجود شفافية مؤسسية دائمة، عبر نشر تقارير محكمة الحسابات والمفتشية العامة بشكل دوري وعلني، وليس موسمياً أو تحت الضغط، وتحقيق استقلالية قضائية حقيقية، بتمكين القضاء من أداء دوره، بعيداً عن أية ضغوط سياسية أو قبلية، ومواصلة توسيع التحقيقات لتشمل جميع شركاء الفساد، والمحاسبة المنهجية، باستهداف الفساد باعتباره ثقافة سياسية تُقِرّ النهب، ووظيفة عمومية مصمَّمة لـ"الارتزاق"، بدلاً من الاكتفاء بمحاسبة بعض الأفراد...
2025-10-30

أحمد ولد جدو

كاتب ومدون من موريتانيا


شارك
مبنى محكمة الحسابات في موريتانيا

أثار التقرير العام لمحكمة الحسابات الموريتانية - وهي الهيئة العليا المستقلة المكلفة برقابة الأموال العمومية - للفترة ما بين 2022-2023، الذي نشر قبل أيام، جدلاً واسعاً بين النخب والنشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي، وألقى بظلاله الثقيلة على المشهد العام في الدولة، مُحْدثاً هزة في الأروقة الإدارية وأركان المؤسسات العمومية، حيث تمت إقالة 20 مسؤولاً دفعة واحدة، وأُحيلت ثلاثون شخصية إلى القضاء، وذلك بعد تصاعد المطالبات بعدم ترك التقرير وما تضمن من معلومات وواقع متعلقة بالفساد، تَسْكُنُ أدراج البيروقراطية، من دون تحرك حقيقي وواضح لمكافحة الفساد.

وقد فُتِحَ النقاش حول ما إذا كانت هذه الإجراءات تشكل فعلاً باكورة حرب حقيقية ضد الفساد المتجذِّر والمكرَّس، أو أنها مجرد "مسرحية جديدة عابرة"، صيغت لامتصاص غضب الشارع، ولمغازلة المانحين الدوليين، ولتلبية رغباتهم؟

تداعيات ومضامين

جاء قرار إحالة جميع المشمولين في تقرير محكمة الحسابات إلى القضاء، بعد تهوين رئيس محكمة الحسابات لما تضمن التقرير أثناء مؤتمر صحافي عقده، إذ اعتبر أن ما جاء فيه مجرد "أخطاء تسييرية" وليس فساداً، وهو ما فاقم من الغضب بين النخب والنشطاء. وجاء قرار إحالة البعض إلى القضاء كتطور للملف وتفاعل مع حال الامتعاض الشعبي. وقد شملت لائحة محكمة الحسابات مسؤولين في عدة قطاعات ومؤسسات عمومية كبرى، من بينهم وزراء سابقون، وأمناء عامون، ومديرون لشركات من مثل: "صوملك" (الشركة الموريتانية للكهرباء)، و"الموريتانية للطيران". وتضمنت قائمة الإقالات مسؤولين كبار في وزارات حيوية، من مثل: الطاقة والنفط، والمعادن والصناعة، والتشغيل والتكوين المهني، والصيد...

وعلّق رأس الدولة محمد ولد الغزواني على الملف، قائلاً: "أنا على يقين أنه لا أمل في نجاح الإصلاح من دون القضاء على أشكال الفساد إدارياً ومالياً". جاء ذلك أثناء كلمة له، ألقاها خلال حفل تخرج دفعة من طلاب المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء.

وقد أعلنت النيابة العامة بدورها عن فتح تحقيقات ومتابعات قضائية، ضد كل من يُثبت ارتكابه أفعالاً تتعلق بـاختلاس أو تبديد المال العام.

قرار إحالة جميع المشمولين في تقرير محكمة الحسابات إلى القضاء فَتَحَ النقاش حول ما إذا كانت هذه الإجراءات تشكل فعلاً باكورة حرب حقيقية ضد الفساد المتجذِّر والمُكرَّس، أو أنها مجرد "مسرحية جديدة عابرة"، صيغت لامتصاص غضب الشارع، ولمغازلة المانحين الدوليين، وتلبية لرغباتهم؟

شملت لائحة محكمة الحسابات مسؤولين في عدة قطاعات ومؤسسات عمومية كبرى، من بينهم وزراء سابقون، وأمناء عامون، ومديرون لشركات من مثل: "صوملك" (الشركة الموريتانية للكهرباء)، و"الموريتانية للطيران". وتضمنت قائمة الإقالات مسؤولين كبارَ في وزارات حيوية مثل الطاقة والنفط، والمعادن والصناعة، والتشغيل والتكوين المهني، والصيد... 

وعلى الرغم من ذلك، ترى أصوات ناقدة أن ما كشفه التقرير لا يمثل غير قمة جبل الجليد. فالفساد أعمق وأرسخ، وأن الدولة الموريتانية مبنية على الفساد والزبونية، ففيها يتم تقاسم المناصب مقابل الولاء السياسي، وهو تقاسم وتوزيع يحمل في طيه "إذناً بالنهب". فهذا التوزيع الريعي للمناصب المرتبط بالولاء السياسي والقبلي، هو ما يقود البلاد نحو الخراب والتمييز الممنهج بين أبناء الوطن، تمييز اقتصادي تُحتكر فيه الوظائف والريع لفئة معينة، ويُهمَش أغلب الشعب.

وقد أظهر التقرير، الذي جاء في 377 صفحة، اختلالات مالية مباشرة وغير مباشرة تُقدّر بمليارات الأوقية (العملة المحلية)، وقَدّم تفاصيل دقيقة حول تنفيذ المشاريع، وتسيير مصالح الدولة ومؤسساتها العمومية، التي طبعها التسيب والزبونية. رصد التقرير مخالفات صريحة لقواعد الشفافية والحوكمة، تجلت في قطاع البترول والمعادن والطاقة، عبر نواقص في إبرام عقود التنقيب والاستغلال، وعدم احترام القواعد الشكلية للتفاوض، بالإضافة إلى تهاون في متابعة التزامات المشغِّلين الماليين المتعلقة بتكوين الكوادر الوطنية، وتجاهل خطير للأخطار البيئية الناتجة عن نشاطات التعدين، بما في ذلك منح عقود استغلال "التربة السوداء"، في المناطق الساحلية من دون مراعاة المخاطر.

أما في البنية التحتية والمشاريع التنموية، فكشف التقرير عن اختلالات جوهرية، في مشروع طريق النعمة – باسكنو – فصالة، شرق موريتانيا، شملت تأخيراً غير مبرَّر في الإنجاز وتسديد مبالغ للمقاولين عن أعمال لم تُنفذ بعد، مع التغاضي عن تطبيق غرامات التأخير القانونية.

ما أظهره التقرير، يتفق مع الصورة التي ترسمها المؤشرات الدولية حول الفساد في موريتانيا، وتحديداً مؤشر مدْركات الفساد، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. ففي العامين 2022 و2023، حافظت البلاد على تصنيف متدنٍّ، مسجلة 30 نقطة فقط من أصل 100، وهو الحد الأدنى الذي يشير إلى تفشي الفساد في القطاع العام، فهذا التصنيف وضع موريتانيا في المرتبة 130 عالمياً بين 180 دولة.

ينتهي التحرك الحكومي عادة بمشهد هزلي. ويعتمد أصحاب هذا الرأي على سوابق للحكومة مع ملفات الفساد، وكذلك محاولتها تصوير المبالغ المنهوبة على أنها "مجرّد بقشيش"، أو أن العملية برمتها "سوء تسيير"، لا تتضمن نية النهب، كآلية لحماية الرؤوس الكبيرة. 

وفي القطاع الصحي، سجلت المحكمة لجوءاً غير مشروع إلى طلب التسديد الفوري، وإبرام صفقات بالتفاهم المباشِر خلافاً للشروط القانونية. والأدهى من ذلك، الكشف عن اقتناء تجهيزات طبية غير مطلوبة من الجهات المستفيدة ولم تُستخدم، ما شكل تبديداً واضحاً للموارد العامة.

ولم تكن المؤسسات العمومية بمنأى عن ذلك، إذ أشار التقرير إلى ضعف الرقابة في الشركة الموريتانية للكهرباء (صوملك)، من خلال تدني مستوى تحصيل الديون ليبلغ 53 في المئة فقط، وكشف عن وجود أكثر من 20 ألف مشترك لم يسددوا أية فاتورة، بينما حذّرت المحكمة بشأن الصندوق الوطني للتأمين الصحي ،(CNAM) من غياب مخطط محاسبي وقاعدة بيانات واضحة للمساهِمين، مهددة بذلك استمرارية الخدمة.

هذا الواقع الذي أظهره التقرير، يتفق مع الصورة المقلقة التي ترسمها المؤشرات الدولية حول الفساد في موريتانيا، وتحديداً مؤشر مدْركات الفساد، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. ففي العامين 2022 و2023، حافظت البلاد على تصنيف متدنٍّ، مسجلة 30 نقطة فقط من أصل 100، وهو الحد الأدنى الذي يشير إلى تفشي الفساد في القطاع العام، فهذا التصنيف وضع موريتانيا في المرتبة 130 عالمياً بين 180 دولة.

الرئيس الموريتاني يتسلم تقرير محكمة الحسابات

فتش عن المانحين!

على الرغم من بعض ردود الفعل الإيجابية حول الخطوات الحكومية بخصوص التقرير، تتعالى الأصوات التي تصف المشهد بأنه مسرحية أعِّدت في عجالة، ونتيجة لضغوط خارجية، إذ يرى هؤلاء أن المانحين الدوليين قاموا بالضغط على الحكومة الموريتانية، وألزموها بإثبات الشفافية كشرط لاستمرار الدعم. وتحرُّك الحكومة يأتي في هذا السياق، أي أنه نوع من التحرك الصوري لإرضاء الشريك الخارجي، وهو تحرك ينتهي عادة بمشهد هزلي، يعتمد على سوابق للحكومة مع ملفات الفساد، وكذلك محاولتها تصوير المبالغ المنهوبة على أنها "مجرّد بقشيش"، أو أن العملية برمتها "سوء تسيير"، لا تتضمن نية النهب، كآلية لحماية الرؤوس الكبيرة. 

ترى أصوات ناقدة أن ما كشفه التقرير لا يمثل غير قمة جبل الجليد. فالفساد أعمق وأرسخ، وأن الدولة الموريتانية مبنية على الفساد والزبونية، ففيها يتم تقاسم المناصب مقابل الولاء السياسي، وهو تقاسم وتوزيع يحمل في طيه "إذناً بالنهب". فهذا التوزيع الريعي للمناصب المرتبط بالولاء السياسي والقبلي، هو ما يقود البلاد نحو الخراب والتمييز الممنهج بين أبناء الوطن، تمييز اقتصادي تحتكر فيه الوظائف والريع لفئة معينة، ويهمش أغلب الشعب.

لم تكن المؤسسات العمومية بمنأى عن ذلك، إذ أشار التقرير إلى ضعف الرقابة في الشركة الموريتانية للكهرباء (صوملك)، من خلال تدني مستوى تحصيل الديون ليبلغ 53 في المئة فقط، وكشف عن وجود أكثر من 20 ألف مشترك لم يسددوا أية فاتورة، بينما حذّرت المحكمة بشأن الصندوق الوطني للتأمين الصحي (CNAM) من غياب مخطط محاسبي وقاعدة بيانات واضحة للمساهِمين، مهددة بذلك استمرارية الخدمة.  

وينتقد البعض ما يصفونه انتقائية في محاسبة المُفْسِدين، بحيث يتم التضحية بكباش صغيرة لفداء اللصوص الكبار، وتقديم 20 مسؤولاً من الصف الثاني أو الثالث للعدالة، وقد يتقلص العدد لاحقاً، بينما تبقى شبكات الفساد الحقيقية وأصحاب النفوذ في مأمن، في محاولة لإبراء ساحة الفساد المُمنهج، ومحاولة "شخصنة" الفساد. ويتذكر أصحاب هذا الطرح ملفات فساد سابقة رافقتها ضجة كبيرة، وكان عدد المشمولين فيها كبيراً، لكنها انتهت بإدانة شخصيات قليلة. ويضرب ملف ما يعرف بـ"ملف العشرية" مثلاً لذلك، أي ملف فساد فترة حكم الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز، الذي شمل ثلاثمئة شخص وانتهى بمجموعة أشخاص.

الطريق إلى محاربة الفساد

مع كل قضية فساد أو تحرك في صدد محاربة الفساد، يثار النقاش حول سياقات التحرك، وكذلك حول الطريقة المثلى لمحاربة الفساد بجدية، وتحدي الواقع المتردي الحامي للفساد، ومن الشروط التي تطرح لمكافحة جدية للفساد، ضمان وجود شفافية مؤسسية دائمة، عبر نشر تقارير محكمة الحسابات والمفتشية العامة بشكل دوري وعلني، وليس موسمياً أو تحت الضغط، وتحقيق استقلالية قضائية حقيقية، عبر تمكين القضاء من أداء دوره، بعيداً عن أية ضغوط سياسية أو قبلية، ومواصلة توسيع التحقيقات لتشمل جميع شركاء الفساد، والمحاسبة المنهجية، عبر استهداف الفساد باعتباره ثقافة سياسية تُقِرّ النهب، ووظيفة عمومية مصممة لـ"الارتزاق"، بدلاً من الاكتفاء بمحاسبة بعض الأفراد، والتضحية بهم كـكباش فداء، فتتم مكافأتهم لاحقاً بوظائف أفضل بعد هدوء العاصفة، وكذلك ضرورة جعل استرداد الأموال المنهوبة عنصراً أساسيّاً في أية عملية محاسبة للمفسِدين.

مقالات من موريتانيا

للكاتب/ة