غزّة.. أكلها الذئب

عُدت إلى المدينة، وهي لم تزل بعيدة عن تلك التي أعرفها. أفتحُ الشباك، أشعرُ بها شاحبة، متألمة، بلا ضجّة، ولا ضوضاء، ولا أطفال يلعبون. حتى في ذلك الوقت، الذي كانت القذائف تسقط فيه، قبل النزوح بأيّام، كان الأطفال يهربون من الخوف إلى اللعب في الشارع. الآن لا أراهم، أكلهم شبحُ النزوح، وهمّ المدينة المسلوبة.
كأنّ وحشاً مرَّ من هنا وهرس المدينة تحت قدميه. نتأمّل وكأننا نقول: "أعيدوا مدينتنا التي نعرفها". لا المدينة نفسها، ولا نحنُ أنفسنا التي نعرفها. غرباء في مدينةٍ غريبة. وكما قيل عن ناجي العلي سابقاً: "أكلهُ الذئب"، الآن، غزّة مدينةٌ أكلها الذئب.
2025-10-25

المقداد جميل مقداد

كاتب وباحث من غزة


شارك
سليمان منصور - فلسطين

عُدنا إلى مدينة غزّة، بعد أقصر وأثقل رحلة نزوح. الأقصر مدةً، فقد بدأتها يوم الثالث والعشرين من أيلول/ سبتمبر، وأنهيتها في الثامن عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر. وكان يُمكن أن تكون أقصر بأسبوعٍ آخر، إلّا أنني مثلي كمثل كثيرين من أهل غزّة اخترتُ البقاء في النزوح بعض الوقت، إلى حين ترتيب الوضع ومحاولة إصلاح ما يُمكن إصلاحه.

العودة ثقيلة، أقول وأُدرك ذلك، كما يُدركه كلّ الناس العائدين، وأولئك الذين فضّلوا التروي وعدم العودة سريعاً. مرّ أسبوعٌ كامل منذُ انسحاب جيش الاحتلال من المدينة، وسماحه بعودة الناس، وتراجعه إلى ما يُسمى "الخط الأصفر"، الذي رسمهُ اتفاق وقف الحرب، بناءً على خطّة الرئيس ترمب. انتهى الأسبوع وأنا أُمارس حياتي العادية في الخيمة، على الرغم من أنّ البيت لا يزال واقفاً في انتظاري هُناك. وقفتُ فجأةً داخل الخيمة، وأنا أجهِّز أغراضي وألملم حاجاتي الشخصيّة، وقُلت لزوجتي بانياس: لا بهجة للعودة. عودة باهتة. لولا أنني سأكسرُ فيها وجع النوم في الخيمة، وسأعودُ إلى البيت، ما كان لها أيّ معنى.

لاحقاً أدركتُ أنّ الناس كُلهم يشعرون بالشيء نفسه. سألتُ أصدقائي في العمل عمّا إذا كانوا سيعودون، فأجاب معظمهم بالنفي.

بدت شوارع مدينة دير البلح ومخيّم النصيرات مكتظّة على عكس المرّة الأولى التي غادرناها للعودة، في كانون الثاني/ يناير، الماضي. حينها فرغت الشوارع بسرعة، أُزيلت الخيم، وبدت سيارات النقل المكتظة بالأمتعة والناس في كلّ مكان وهي تنقل العائدين، فيما عادت الأفواج سريعاً إلى المدينة بعد رحلة نزوحٍ امتدت لحوالي 15 شهراً. حينها كتبتُ مقالي "أفواج العودة"، ولم أعرف أنّ الناس سيبقون يقرأونه حتى أعيشَ نزوحاً آخر، وعودة أُخرى، مختلفة هذه المرة.

هذه المرّة، الشوارع مكتظة، الخيم في مكانها، والناس يعيشون بشكلٍ طبيعي، كأنّ معنى العودة اختلف، وكأنّ الحرب لم تنتهِ. "انقرصنا من المرّة الأولى"، يقول كثيرون، كلّما سألتهم عن عدم رغبتهم في العودة.

انتهى الأسبوع وأنا أُمارس حياتي العادية في الخيمة، على الرغم من أنّ البيت لا يزال واقفاً في انتظاري هُناك. وقفتُ فجأةً داخل الخيمة، وأنا أجهِّز أغراضي وألملم حاجاتي الشخصيّة، وقُلت لزوجتي بانياس: لا بهجة للعودة. عودة باهتة. لولا أنني سأكسرُ فيها وجع النوم في الخيمة، وسأعودُ إلى البيت، لما كان لها أيّ معنى. لاحقاً أدركتُ أنّ الناس كُلهم يشعرون بالشيء نفسه.

في المرة السابقة، كان في المدينة عددٌ كبير، يزيد على 400 ألف شخص، لم ينزحوا، وقد أسسوا للحياة فيها، فاستصلحوا المياه، وأمدّوا خطوط الطاقة البديلة، ووفروا المياه الحلوة، وفتحوا الشوارع. هذه المرّة غادر العدد الأكبر منهم، ولم يبقَ أكثر من 90 إلى 100 ألف شخص، انحصروا في منطقة بسيطة، ما يعني أنّ العودة تحتاج إلى كثير من المهام.

المشهد كالتالي: مدينة غزّة دُمِّرت خلال حوالي أسبوعيْن، وأغلب أحيائها لم تعد صالحة للسكن. حي الشيخ رضوان، حي أبو سكندر، حي الشاطئ الشمالي، حي تل الهوى، نصف حي الصبرة، حي التفاح والشجاعية، ويلاصقهما حي الزيتون، كُلها صارت رُكاماً. بقيت أحياءٌ قليلة، أو بعضها، حي الصحابة، بقايا الشاطئ، بقايا الرمال، والنصر، واليرموك.

فأغلب السُكان في هذه الأحياء دُمِّرت منازلهم، ولم يعُد لهم مكانٌ يرجعون إليه، فقرروا البقاء في خيمهم في الجنوب، إلى أن يأتي "فرج الله" الموعودون به . والجزء الآخر، يشعر أنّ الهدنة غَدرت به في المرّة الأولى، فاضطرَ إلى النزوح مجدداً، وتحمّل تكاليف كثيرة، فقرّر الآن ألا يعود حتى يتأكد أنّ الحرب قد انتهت إلى غير رجعة.

أفتحُ نافذتي، الشارع فارغ، لا محلات ولا دكاكين فتحتْ أبوابها، لا حركة كثيرة على الشبابيك وفي المنازل. الحركة ضعيفة في الشارع، الناس قليلون، وسيارات بسيطة تعود كلّ عدة ساعات تحملُ الأمتعة من رحلة النزوح. أوقن أن رحلة العودة هذه المرّة متأنيّة جداً، ضعيفة، وبطيئة.

مقالات ذات صلة

أحد الأسباب أيضاً أنّ المدينة في المرّة الأولى كان فيها عددٌ كبير يزيد على 400 ألف شخص لم ينزحوا، وقد أسسوا للحياة فيها، فاستصلحوا المياه، وأمدّوا خطوط الطاقة البديلة، ووفروا المياه الحلوة، وفتحوا الشوارع. هذه المرّة غادر العدد الأكبر منهم، ولم يبقَ أكثر من 90 إلى 100 ألف شخص، انحصروا في منطقة بسيطة، ما يعني أنّ العودة تحتاج إلى كثيرٍ من المهام. إصلاح الشوارع، توفير المياه، تأهيل بعض المنازل وإزالة الركام... لذلك ينتظر الناس، إمّا أن يرسلوا شخصاً أو اثنين لترميم البيت واستصلاح ضرورات الحياة، وإما أن ينتظروا حتى تتوافر الخدمات في منطقتهم قبلَ العودة.

أنا مثلًا، لم أعُد إلا بعد أن عاد بعض إخوتي، أزالوا الركام الذي نتج عن قصف شقتي السكنية وتدمير إحدى غرفها، إلى ذلك كنتُ أمارس عملي بشكلٍ طبيعي، وبالتأكيد في انتظار توفّر الإنترنت كي أستطيع إكمال عملي عن بُعد من البيت. عُدت إلى المدينة، ولا تزال بعيدة عن تلك التي أعرفها. أفتحُ الشباك، أشعرُ بها شاحبة، متألمة، لا ضجّة، ولا ضوضاء، لا أطفال يلعبون. حتى في ذلك الوقت الذي كانت القذائف تسقط فيه، قبل النزوح بأيّام، كان الأطفال يهربون من الخوف إلى اللعب في الشارع. الآن لا أراهم، أكلهم شبحُ النزوح، وهمّ المدينة المسلوبة.

مقالات ذات صلة

كُلنا نمشي في الشوارع، نتأملها، نتأمل تغيّرها السريع في أقلّ من شهر، تغيّر معالمها، كأنّ وحشاً مرَّ من هنا وهرسها بينَ قدميه. نتأمّل وكأننا نقول: "أعيدوا مدينتنا التي نعرفها". لا المدينة نفسها، ولا نحنُ أنفسنا التي نعرفها. غرباء في مدينةٍ غريبة، وكما قيل عن ناجي العلي سابقاً: "أكلهُ الذئب"، الآن، غزّة مدينةٌ أكلها الذئب. 

مقالات من فلسطين

العودة الثانية..

2025-10-16

"لم يكن ينبغي أن يعيش الغزيّون كل هذا – ولا لأحد أن يعيش مثله. لكن إذا فُرِض علينا هذا الأمر، فسنعود كما ينبغي لنا، برؤوس مرفوعة، جاهزين لما سيأتي، عائدين....

أسطول الصمود: لم تنتهِ المهمّة

2025-10-09

أعاد أسطول الصمود الاعتبار لفكرة تجهد الحكومات والمؤسسات والقوى المتسلطة على حياة البشر على إبعادها عن وعينا، ألا وهي أن بإمكاننا أن نأخذ الأمور على عاتقنا ونتصرف كأفراد وشعوب، بصفتنا...

للكاتب/ة

يأكلني الخوف

بدلاً من النزوح، وتأسيس حياةٍ جديدة، والبحث عن مستلزماتها التي ستكون مُكلفة بشكلٍ كبير، يأخذ الناس حياتهم معهم، ويُغيّرون المكان. ويا ليتَ تغيير المكان سهل، فالمكان في كلّ نزوح ليس...