العرب السود في مجتمعاتٍ تنكرهم: الوجه الخفي للتنوع في الشرق الأوسط

وجوه سمراء مألوفة في الأسواق والأحياء الشعبية، وأصواتٌ حاضرة في الأغاني والصلوات، لكن حضورها في الوعي العام محدود، وكأنها ظلّ صامت في ذاكرةٍ تختار أن تنسى.
بهذا المعنى، يمكننا اليوم أن نتحدث، للمرة الأولى تقريبًا في الخطاب العربي المعاصر، عن أفروعراقيين وأفرولبنانيين وأفروفلسطينيين وأفروخليجيين، بوصفهم تعبيراتٍ عن هويةٍ منسية طال تغييبها من الوعي الجمعي.
فرقة موسيقى افريقية من ابناء الكويت

من موقع "العالم الجديد"، 16 / 10 / 2025
سعد سلوم

في أحياء البصرة القديمة، وعلى سواحل عُمان واليمن، وفي جنوب مصر ولبنان وفلسطين، يعيش مئات الآلاف من العرب ذوي الأصول الإفريقية، هم بشرٌ ينتمون إلى تاريخٍ طويل من التداخل بين إفريقيا والعالم العربي، لكنهم غالبًا ما يُعاملون كأنهم غرباء في أوطانهم.

وجوه سمراء مألوفة في الأسواق والأحياء الشعبية، وأصواتٌ حاضرة في الأغاني والصلوات، لكن حضورها في الوعي العام محدود، وكأنها ظلّ صامت في ذاكرةٍ تختار أن تنسى.

بهذا المعنى، يمكننا اليوم أن نتحدث، للمرة الأولى تقريبًا في الخطاب العربي المعاصر، عن أفروعراقيين وأفرولبنانيين وأفروفلسطينيين وأفروخليجيين، بوصفهم تعبيراتٍ عن هويةٍ منسية طال تغييبها من الوعي الجمعي.

إنها ليست مجرد تسمياتٍ جديدة، بل كشفٌ عن طبقةٍ خفية من الذات العربية، ظلت لقرونٍ تُحجب خلف اللون واللغة، وتنتظر من يعيد إدماجها في السرد التاريخي والثقافي للمنطقة.

جذور منسية وهوية مغيّبة

الوجود الإفريقي في المشرق العربي ليس طارئًا، بل يمتدّ منذ القرن السابع الميلادي، حين ربطت التجارة والحجّ وطرق العبودية القديمة بين سواحل شرق إفريقيا، من زنجبار وممباسا وموزمبيق وبين الحجاز واليمن وعُمان والعراق.

شارك الأفارقة في بناء المدن والاقتصاد والثقافة، لا كعبيد فحسب، بل كحرفيين ومزارعين وجنودٍ وموسيقيين. وفي البصرة، اندلعت قبل أكثر من ألف عام ثورة الزنج ضد نظام استعبادٍ قاسٍ، لتبقى واحدة من أعظم الانتفاضات الاجتماعية في التاريخ الإسلامي. وفي عُمان، امتدت الصلات إلى زنجبار التي كانت تابعة للسلطنة في القرن التاسع عشر، وبقي أثر الزنجبارية واضحًا في المجتمع العُماني حتى اليوم. وفي الحجاز واليمن، اختلطت الأعراق وتزاوجت الثقافات، وبقيت في اللهجات والموسيقى والملابس بقايا من روح إفريقيا.

أما في الجنوب المصري، فالنوبة كانت وما تزال ذاكرة إفريقيا في قلب العالم العربي، حملت حضاراتٍ عظيمة ككوش ونبتة ومروي، ثم دفعت ثمن السدّ العالي بالتهجير والنسيان، قبل أن تعود إلى الذاكرة عبر الأدب والموسيقى، كما في صوت محمد منير الذي حوّل السمرة إلى لحنٍ وطني. في أغنيته الشهيرة “الليلة يا سمرا”، لا يتغنّى منير بالحب فحسب، بل يحتفي بالهوية النوبية نفسها، وبجمال اللون الذي حاولت الذاكرة الجمعية تهميشه. الأغنية- بإيقاعاتها الإفريقية ولهجتها الدافئة- أعادت تعريف الانتماء والاعتزاز بالسمرة كجزءٍ من ملامح الوطن، لا هامشٍ له.

ورغم هذا التاريخ العريق، ما تزال المجتمعات العربية تمارس تمييزًا صامتًا ضد ذوي البشرة السمراء، في تناقضٍ مع الشعار الديني “لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى”. إذ تُستخدم مفردات جارحة في الحياة اليومية، ويُرسم للعربي الأبيض موقع التفوق والجمال، بينما يغيب ذكر السود في المناهج والإعلام. إنه إنكار ناعم لا يقوم على الإقصاء الصريح، بل على التجاهل الممنهج، حيث يُمحى الاختلاف من السرد الوطني.

وقد لمستُ هذا الإنكار بنفسي حين كرّستُ ثلاث حلقاتٍ من برنامجي البودكاست “حكايات لم تُروَ من قبل” لتواريخ العبودية المنسية في منطقتنا، فواجهتُ ردود فعلٍ متباينة تراوحت بين الانزعاج والرفض، وكأن الحديث عن تلك الصفحات يُهدّد صورةً متخيّلة للذات العربية. غير أن الصمت عن التاريخ لا يُلغي وجوده، بل يُكرّس غيابه في الوعي الجمعي.

بصمة إفريقية في الذاكرة العربية

رغم التهميش، ترك الأفارقة حضورًا عميقًا في الثقافة العربية يصعب إنكاره. في الخليج واليمن، تُعزف موسيقى الليوة والزار والنوبان في الأعراس والمناسبات، بإيقاعاتٍ إفريقيةٍ تشهد على امتداد الذاكرة. وفي عُمان، يُعترف بفنّ “الليوة” كتراثٍ وطني، بينما يغيب وعي الناس بجذوره الإفريقية. وفي الحجاز، تعيش رقصات “الطنبورة” و”النقارة” على أنغامٍ إفريقية خالصة، وفي جنوب العراق تحافظ فرق موسيقية على الإيقاعات الزنجية منذ قرون.

هذه الفنون ليست مجرد فلكلور، بل سجلّ حيّ لذاكرةٍ حاول التاريخ الرسمي أن يطويها. فحين يغنّي منير من النوبة، أو يعزف شباب البصرة إيقاعات الزنج، أو يرقص الفلسطينيون من أصول إفريقية في القدس، فذلك ليس ترفًا ثقافيًا، بل إعلان انتماء واعترافٍ بالذات.

موسيقى ورقصات الليوة في عُمان افريقية الجذور

ومع تحوّل الوعي الاجتماعي، بدأت أصوات جديدة تُعيد طرح السؤال المؤجل: من يحقّ له أن يُمثّل الهوية العربية؟. في العراق والسعودية واليمن والسودان، نشأت مبادرات ثقافية وشبكات شبابية تُعيد قراءة التاريخ من منظورٍ منسي. تأثر بعضهم بحركات عالمية مثل Black Lives Matter، لكنهم أعادوا ترجمتها محليًا، حيث العنصرية لا تُقال، بل تُمارس بصمت.

لقد كانت تجربتي مع الراحل جلال ذياب، وهو أحد مؤسسي أول إطار حركي للمطالبة بحقوق السود في العراق والمنطقة، من أكثر المحطات التي جعلتني أواجه حقيقة التمييز في مجتمعاتنا وجهًا لوجه. التقيتُه في البصرة في عام 2009 بعد فوز الرئيس “باراك أوباما” بالانتخابات الأميركية، وكان يحمل شغفًا نادرًا وشجاعةً هادئة في الحديث عن المساواة وكرامة الإنسان، في بيئةٍ لم تكن مستعدة لسماع مثل هذا الخطاب.

أطلق حملاتٍ تطالب بالاعتراف الرسمي بالسود كمكوّن أصيل من النسيج العراقي، ودافع عن حقهم في التمثيل السياسي والاجتماعي، رغم ما تعرّض له من تهديداتٍ متواصلة. كنتُ أتابع جهوده وأوثّقها، وأطلقتُ عليه لقب “مارتن لوثر كنغ العراق”، لأنه حمل قضيةً أخلاقيةً وإنسانيةً ببسالةٍ نادرة، مؤمنًا بأن العدالة لا تتجزأ.

ولعلّ من المواقف التي كشفت لي عمق المعضلة، ما واجهته خلال جولةٍ بحثية قمتُ بها في نهاية عام 2012 لإجراء مقابلاتٍ مع النخب الأفروعراقية في البصرة. كنتُ في طريقي للقاء أحد الأساتذة الجامعيين من أصولٍ إفريقية في جامعة البصرة، لكنه رفض الحديث معي بلهجةٍ حادة، معتبرًا أن الخوض في هذا الموضوع قد يجلب له المتاعب ولا طائل من ورائه. فشاركته هذه القصة : حين حاولت الوصول إلى مكتبه، سألت أحد الطلبة عنه فقال ببساطة: “تقصد الدكتور العبد؟ ستجد غرفته في هذا الاتجاه”.

كان ذلك الحوار القصير كاشفًا أكثر من أي دراسةٍ نظرية، إذ عبّر عن استسلامٍ صامتٍ لواقع التمييز، وعن استبطانٍ مؤلمٍ للقمع الاجتماعي الذي جعل كثيرين من الأفروعراقيين يخشون مواجهة تاريخهم أو حتى تسميته.

اغتيل جلال ذياب في عام 2013 في البصرة، لكن صوته لم يُغتل؛ فقد ترك وراءه شرارة وعيٍ جديدة، ألهمت جيلا شابا من مجتمعه ليرفعوا رؤوسهم ويطالبوا بحقوقهم بكرامةٍ ووضوح. كانت تلك التجربة بالنسبة إليّ درسًا قاسيًا في ثمن الحقيقة، ودليلًا على أن طريق الاعتراف يبدأ دائمًا من الشجاعة الفردية.

غير أن الإشكال لا يقتصر على التهميش فحسب، بل يمتد إلى اللغة ذاتها، وإلى الكيفية التي تُعرَّف بها الهوية داخل المجتمع. ففي العراق وسواه من البلدان في المنطقة، تتداول وسائل الإعلام ومراكز البحث مصطلحاتٍ متباينة: “السود”، “الأفروعراقيون”، أو حتى “الزنوج” أحيانًا، وكلٌّ منها يحمل ظلالًا تاريخية وثقافية مختلفة.

أستخدمت في مؤلفاتي مصطلح “الأفروعراقيين” كبديل عن تسمية “السود”، وكانت هذه محاولةٍ أكاديمية لتوصيف الانتماء المزدوج الإفريقي العراقي، لكنه بدا غريبًا على كثير من أبناء هذه الجماعة أنفسهم، لما يوحي به من انفصالٍ عن الجذر الوطني. أما كلمة “السود”، فرغم شيوعها في الخطاب الحقوقي، فإنها في الاستخدام الشعبي ما زالت محمّلة بإرثٍ من الدونية أو الاستهجان. لذلك يفضّل عددٌ من أبناء هذا المجتمع المنسي تعريف أنفسهم بلفظ “الأسمر”، بوصفه توصيفًا أكثر إنسانيةً ولطفًا، يعيد للون دلالته الطبيعية من غير حكمٍ قيمي أو تمييزٍ لغوي. وهذه المفاضلة بين الألفاظ ليست تفصيلًا لغويًا، بل تعبيرٌ عن صراعٍ أعمق على حقّ الجماعة في تسمية ذاتها، وفي اختيار المفردة التي تراها مرآةً كريمةً لهويتها.

نحو سردية أكثر صدقًا

من النوبة إلى البصرة، ومن بيروت إلى زنجبار، يمتد خيطٌ واحد من الذاكرة الإفريقية التي شكّلت جزءًا أصيلًا من التجربة العربية. لكن السؤال الأهم اليوم هو: هل يمكن للعرب أن يروا أنفسهم كما هم فعلًا؟

ولعل ما يجعل هذا النقاش أكثر إلحاحًا أنني كنتُ شاهدًا حيًّا على مظاهر هذا التمييز في مجتمعاتنا، بما في ذلك في الحقول الثقافية والإعلامية، وقد كرّستُ جانبًا من مؤلفاتي خلال الأعوام الماضية لتوثيق تلك التجارب ومساءلة الذاكرة الجماعية التي اختارت أن تنسى.

إنّ الاعتراف بالعرب السود ليس مجاملة أو إحسانًا، بل تصحيحًا لمسار التاريخ، وشرطًا لبناء هوية حديثة صادقة مع نفسها. فالمنطقة التي تباهت بتنوعها الديني والمذهبي مطالبة بأن تواجه أيضًا تنوعها اللوني والعرقي. من زرع النخيل في البصرة إلى من بنى السفن في الخليج وغنّى للنوبة في مصر، كان الأفارقة العرب في قلب كل ذلك، لا على هامشه.

التنوع ليس خطرًا على الهوية، بل هو ما يمنحها الحياة. والمجتمع الذي يتصالح مع لونه الأسود، يتصالح مع تاريخه كله. فالشرق الأوسط، في عمقه، ليس أبيض ولا أسود ، بل لوحة من بشرٍ وأصواتٍ وألوانٍ، لا تكتمل إلا حين تُرى جميعها.

مقالات من العالم العربي

ثنائية الشتاء والصيف في اليمن

إذا كانت الزراعة، المعتمِدة على مياه الأمطار في اليمن، عاملاً مهمّاً في ترسيخ فكرة التقسيم المناخي الثنائي المتداوَل في الثقافة الشعبية، فإن التغييرات المناخية قد خلخلت الثبات المتوارَث في مواعيد...

ريف: "طالعين عالجنوب"

2025-10-23

بين 24 و26 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، تتجه جمعية "ريف" بأيامها الفنية والبيئية نحو الجنوب: "من كفررمان إلى صيدا وعربصاليم، ثلاثة أيّام من الأرض والناس والفنّ، والزراعة والبيئة الصامدة".

للكاتب/ة

«البصرة عطشانة».. وجع عاصمة العراق الاقتصادية الذي صار شعارا انتخابيا

على الصعيد السياسي، يتصاعد الخطاب المطالب بإنقاذ المناطق المنكوبة من شح المياه مع اقتراب موعد الانتخابات، حيث يوجّه النواب والمرشحون مطالبهم إلى الحكومة، وتحديدا رئاسة الوزراء، للضغط على تركيا من...