انتهت رحلة الاختطاف الجائر. عاد الرفيق محمد فال إلى وطنه، محملاً بعزيمة صلبة، بعدما اختطفته قوات الاحتلال الصهيوني إثر مشاركته في الأسطول العالمي لكسر الحصار عن غزة.
تحدث عن قيام "الكيان الصهيوني باحتجاز المشاركين في ظروف بالغة السوء" وقد تعرّضوا للتجويع ومُنعوا من أبسط الحقوق على مدى ثلاثة أيام، وموضحاً أن ذلك "غير مستبعَد على الكيان الصهيوني لأنه عوّدنا على انتهاك حقوق الإنسان وعلى التعاطي بعنصرية".
أما أنا، فكنت قد واكبت الأسطول بيوميات أكتبها عن الرحلة ومسارها وسياقاتها، عنونتها ب"الطريق إلى غزة.. يوميات رفيق عن بعد".
غزة فوق العالم
09-09-2025
كان هذا القرار هو رد فعلي على لحظة الإقصاء القاسية، حين انتزع مني مقعدي في الأسطول نتيجة لعوائق لوجستية، أدت الى فقدان الوفد الموريتاني الكثير من مقاعده، لأجد نفسي خارج قائمة ركاب الحرية، فكانت خيبة تسللت إلى القلب، لكنها لم تلبث أن تحولت إلى يقين: أن قصتي مع السفينة لم تنتهِ، وأن وجودي فيها لم يكن مرهونا بجسدي.
وفيما يلي تلخيص لليوميات التي جاءت في ثمانية عشرة حلقة. (1)
التضامن في عرض البحر
في ثاني أيام إبحارها من تونس المبهِرة نحو غزة الحرة، لامست سفينة مالي، "دير ياسين"، السواحل الإيطالية كطير مهاجر يوشك أن يلاقي سربه.
قبطانها يترقب بتأهب ساعات قليلة ليلتحم بالأسطول الإيطالي. يتردد صوت موريتانيا على متنها، متجلياً في رفيقي وصديقي العزيز محمد فال ولد الشيخ، يحمل تفاصيل وملامح وطنه كأمانة، ويرتِّلها بصوته الشجي للبحر وللريح وللنسمات، ويرافقه في الرحلة نشطاء من التنسيقيات المغاربية، في مقدمتهم الرفيق المشاكس وائل نوار، وشخصيات من بقاع شتى، جمعهم قدر النضال من أجل غزة والإنسان.
واكبتُ الأسطول بيوميات أكتبها عن الرحلة ومسارها وسياقاتها، عنونتُها "الطريق إلى غزة.. يوميات رفيق عن بعد". كان هذا هو رد فعلي على لحظة الإقصاء القاسية، حين انتُزع مني مقعدي في الأسطول نتيجة لعوائق لوجستية، أدت الى فقدان الوفد الموريتاني الكثير من مقاعده، لأجد نفسي خارج قائمة ركاب الحرية، فكانت خيبة تسللت إلى القلب، لكنها لم تلبث أن تحولت إلى يقين: قصتي مع السفينة لم تنتهِ، ووجودي فيها لم يكن مرهوناً بجسدي.
حسب أحاديثي مع محمد فال، تَغمر السفينة أجواء بهية من الطمأنينة والسكينة والحبور، والمعنويات مرتفعة والهمم عالية، والهدف جلي لا لبس فيه، وهو كسر الحصار عن غزة. والبحر نفسه بدا وكأنه حارس أمين لهذا الأسطول وسفنه وناسها، إذ يُظهِر الهدوء، ويسرُّ التضامن مع فعل بشري عظيم.
أما أنا، البعيد القريب، فضميري مبْحِر عبر السفينة. أتخيلني جالساً بجوار صديقي في شرفة السفينة، أشاركه الشغف والحديث والانتظار والتوقعات، وأتأمل في حاله ورفاقه لأرى وهج الإصرار، وأسمع في نبراتهم صدى لطموحات شعوب توّاقة إلى الحرية والكرامة ورفض الذل والهوان.
وكنت قد عزمت على أن أكتب يومياتي على متن السفينة لأوثِّق هذه التجربة الإنسانية الترميمية، أوثق الطريق إلى غزة الحرة على الرغم من الاحتلال. ولما حال القدر دون ذلك، قررت أن أكتب عن يوميات رفاقي المبحِرين، جاعلاً من أصواتهم بوصلة لرحلتي الروحية.

بين تونس وصقلية والدموع الايرلندية
"الأمور طيبة ولله الحمد، وكل السفن ومن فيها بخير وعلى خير، رغم أنهم مروا بليلة صعبة، كانت فيها الرياح شديدة جداً، وكذلك الأمطار في صباح اليوم، وهدفنا واضح، فلا توقف قبل أن نصل إلى غزة"، هذا ما أوصله صوت محمد فال وهو في عرض البحر، في يومه الثالث.
كانت العاصفة تعني توقفاً اضطرارياً بمحاذاة سواحل صقلية. لم تكن سفينة مالي "دير ياسين" استثناء، بل كانت حكاية ضمن أسطول تتشابك فيه الحكايات وتتّحد فيه الأهداف. فمع اختلاف تفاصيل كل سفينة، يظل الجوهر واحداً: التضامن والإصرار. هذه الحال تجلت بوضوح في تونس قبل انطلاق الأسطول، حيث اختلطت الأناشيد بالدموع، والأمل بالتصميم، وتوحدت ذوات الغرباء في القضية والإبحار.
من بين هؤلاء الغرباء، سيدة إيرلندية، يروى الدكتور عبد الرزاق المقري أنه شاهدها تبكي والبحر في حالة حبور لحظة الرسو، فدنا منها يسألها عن سر دموعها، فأجابت : "لقد شهدنا نحن الإيرلنديين القتل والتجويع على يد الإنجليز، تماماً كما يعيشه أهل غزة اليوم، لهذا أنا هنا. هذا وجعي كما هو وجعهم".
يُبحرون ومعهم وجدان كلّ حرّ في العالَم
04-09-2025
هذا الترابط وجدته في أحاديث الورشات التحضيرية في تونس، فحفيد مانديلا كان هناك يتضامن ويشارك، وكأنه يكمل مسيرة نضال جده وشعبه ضد الفصل العنصري. كان الفرح بالمشاركة يتمزح بالجدية الصارمة. من هنا أيقنت أن البحر لن يكون سوى فصل جديد من ملحمة بشرية بدأت على اليابسة، وأن هذه الرحلة ليست مجرد عبور للمياه، بل إعلان صارخ بأن الوجدان الإنسان ما يزال فيه بعض الرمق.
وهكذا بين تونس وصقلية، بين عواصف الليل والدموع الإيرلندية، بين التحدي والواقعية، تكتب يوميات سفن الأسطول بنفَس واحد، وتأكيد أصيل على أن العالم مهما تباعدت شواطئه، يلتقي عند مأساة غزة، ليبحر معها نحو الأفق.
إبحار مدروس وقضايا متشابكة
انطلقت سفينة مالي "دير ياسين" من ميناء بورتو باولو في إيطاليا، صوب السواحل اليونانية، وكانت برفقة بعض سفن وقوارب الأسطول المغاربي، فيما ما تزال سفن أخرى عالقة في محطات متعددة بانتظار تخطي تعقيدات لوجستية وفنية، ومنها السفينة الموريتانية "قمر"، التي اتجهت نحو جزيرة بانتليريا لتتزود بالوقود وتلتحق بالركب. يُبحِر الأسطول بنسق محسوب ومدروس، إذ يراعي سير المتأخرين ليجمعهم عند نقطة التقاء واحدة، ومن ثم ينطلق الجميع نحو هدفهم السامي: غزة.
أكثر من خمسين سفينة تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، ويتشكل هذا المشهد البحري والإنساني المهيب من قصص باذخة المعنى، تكتنز في طياتها جوهر الرحلة. فها هو الناشط التونسي نبيل الشنوفي، المبحر على متن سفينة "دير ياسين"، يحتضن بود هدية أعدها لطفلة غزية تسمى سارة، التي بقيت وحيدة في غزة الصامدة بعد أن فقدت أمها وشقيقها في حرب الإبادة الجماعية، وهي الآن تنتظر لقاء مرتجى مع والدها وأختها في تونس، والشنوفي يرنو إلى لقائها في غزة وتحقيق ذلك الحلم.
سافر بي المشهد نحو ليالي وأيام سيدي بوسعيد الملحمية، وإلى تونس التي علمتني كيف يتجلى الأمل في أصعب أوقات الترقب، فأعادني إلى ليلة كنت فيها في منطقة باردو الوادعة، ووصلني نبأ استهداف سفينة من الأسطول راسية في الميناء بطائرة مسيرة أصابت محركها. بعدها بدقائق اتصل أحد الرفاق يريد من يرافقه إلى الميناء، إذ كانت الحشود تندفع نحوه كالسيل الجارف، لتشكل درعاً متيناً يحمي السفن.
من بين هؤلاء "الغرباء"، سيدة إيرلندية، يروى الدكتور عبد الرزاق المقري أنه شاهدها تبكي أمام البحر وكان في حالة حبور لحظة الرسو، فدنا منها يسألها عن سر دموعها، فأجابت : "لقد شهدنا نحن الإيرلنديين القتل والتجويع على يد الإنجليز، تماماً كما يعيشه أهل غزة اليوم، لهذا أنا هنا. هذا وجعي كما هو وجعهم".
قصة الطفلة سارة بوجعها وأملها، ليست إلا قمة جبل الجليد ضمن فيض من الحكايات التي تشهد على طفولة مصلوبة على جدار الحصار والإبادة الجماعية. وكل مبحر في هذا الأسطول يحمل قصة، ووراء كل قصة يسكن دافع إنساني عميق، عابر للحدود.
تلاحم في البحر وتحليق المسيرات
بعد يوم شاق طبعه الترقب والانتظار قبالة السواحل اليونانية، لاحت في الأفق للرفاق في سفينة مالي "دير ياسين" طلائع الأسطول العالمي. كانت سفينة "دير ياسين" التي تتقدم على الأسطول باسمها المثقل بالذاكرة والدم، تتهيأ لاستئناف المسير نحو السواحل التركية، على أمل لحاق بقية السفن بها.
وقد عاش الرفاق على متنها تجربتهم مع تحليق مسيرات غامضة ومريبة فوقهم، بعضها زاحم السفينة حتى كاد يلامس الأنفاس. لم يكن واضحاً إن كانت عيون يونانية تستطلع، أم عيون صهيونية وقحة تتربص.
وصلتني رسالة من محمد فال، كعادته كل صباح. افتتحها بتحية ندية: "صباح النور أحمد، كيف حالك؟ أرجو أن تكون بخير". كان صوته مطْمئناً هادئاً ثابتاً، وقال: "أما أنا فما شاء الله بخير وعلى ما يرام. صحيح أن البارحة حدثت بلبلة، فقد باتتْ المسيرات تُحلِّق فوقنا بقرب شديد. كانت كثيرة ومزعجة، لكن سفينتنا دير ياسين لم يصبها مكروه، وهناك بالفعل بعض السفن تعرضت لاعتداءات، لكنها كانت مجرد قنابل صوتية للتخويف".
عشر سفن وصلت ورست في ميناء يوناني، وواجهت النار بالصبر، والصخب بالحبور والسكينة. ومع بهجة صباح البحر، ومداعبة نسيمه للقلوب، استقبل الأسطول بُشرى، إذ التحقت به سفينة إيطالية طبية، أتت لتواكب الرحلة وتقدِّم الإغاثة لمن قد يتعرض لإصابات. وكان حضورها تجسيداً للطابع المدني السلمي للأسطول.
سافر بي المشهد نحو ليالي وأيام سيدي بوسعيد الملحمية، وإلى تونس التي علمتني كيف يتجلى الأمل في أصعب أوقات الترقب، فأعادني إلى ليلة كنت فيها في منطقة باردو الوادعة، ووصلني نبأ استهداف سفينة من الأسطول راسية في الميناء بطائرة مسيرة أصابت محركها. بعدها بدقائق اتصل أحد الرفاق يريد من يرافقه إلى الميناء، إذ كانت الحشود تندفع نحوه كالسيل الجارف، لتشكل درعاً متيناً يحمي السفن.
ذهبنا برفقة رفيقين آخرين، وحين دلفنا إلى الميناء وجدناه مزدحماً بالأنفاس والهتافات، ولا صوت يعلو فوق صوت "غزة".
أحد قوارب أسطول الصمود اسمه بيسياس!
18-09-2025
شعارات وأناشيد تخترق عنان السماء، والشماريخ تلون الليل بألوان العزة والصمود، كان المشهد مهيباً ككل أحوال الأسطول، وتفاعل أهل تونس مع حكاية فلسطين. وغادرت الميناء وقلبي مفعم بالأمل، ولساني يردد مع درويش: "كيف نشفى من حب تونس؟"، فتونس والأسطول والجموع: ثالوث نقش في ذاكرتي وجه الأمل في دهر يختنق بالخذلان.
عيون المتربصين وتحدي "الخط البرتقالي"
حينها وصلتني رسالة من محمد فال، كعادته كل صباح. افتتحها بتحية ندية: "صباح النور أحمد، كيف حالك؟ أرجو أن تكون بخير". كان صوته مطمئناً هادئاً ثابتاً، وقال: "أما أنا فما شاء الله بخير وعلى ما يرام. صحيح أن البارحة حدثت بلبلة، فقد باتت المسيرات تحلق فوقنا بقرب شديد، كانت كثيرة ومزعجة، لكن سفينتنا دير ياسين لم يصبها مكروه، وهناك بالفعل بعض السفن تعرضت لاعتداءات، لكنها كانت مجرد قنابل صوتية للتخويف".
وما جرى البارحة لم يكن سوى سطر من فصول حكاية التحرش الصهيوني المعتاد، الذي يزداد كلما اقتربت القافلة من شواطئ غزة، ومن موعدها المحتوم مع جيش الاحتلال.
مع أول ساعات يوم الأربعاء في مطلع الشهر الجاري، تبدتْ إرهاصات المواجهة، حيث أطلقت سفن القراصنة الصهاينة تشويشاً مكثفاً على أجهزة سفن الأسطول، وتم اعتراض السفينة "ألما" التي تقود الأسطول من دون اقتحامها، وكان ظنهم أن الأسطول سيتوقف إذا عُطِّلت مقدمته. لكن بقية السفن أعادت تشكيل نفسها حول سفينة "سيريوس" وتابعت التقدم، فتوجه القراصنة إلى اعتراضها، ليتضح لهم أن الأسطول لا ينكسر.
في شرفات السفن، وبين أصوات المحركات وأزيز الريح، ظل الفرح حاضراً، فرح ليس عابراً ولا ساذجاً، بل فرح بالجماهير التي ترى ذاتها في الأسطول. فالرفاق يتابعون الأخبار الواردة من اليابسة، التي تفيد بمسيرات في تونس ووقفات في موريتانيا وهتافات في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وكل صورة وصوت يهتف، يتحول إلى وقود للسفن وطاقة للرفاق.
لكن خلف الكلمات ونبرة الصوت، كنت ألمس كنه المعنى الأعمق، وهو أن كل هذا الترويع، على قسوته، ليس إلا مجرد اختبار لعزم وصلابة نشطاء الأسطول. فالمسافة بين البحر الممتد ووجهة الحرية لا تقاس بالأميال بل بقدرة الضمائر والأفئدة على تحمّل الرعب دون فقدان الإيمان بالجدوى والقدرة على التأثير.

الليلة الماضية لم تكن عادية، فالبحر كان ساحة أصوات أكثر منه ساحة أمواج. فقد تعاقبت القنابل الصوتية فوق الرؤوس، تطرق صواري السفن، وعلى الرغم من ذلك بقي الأسطول صامداً.
كانت سفينة "أهويلا" أول من تلقت الرسالة النارية. قنبلة صوتية صغيرة ضربت جانبها فاهتزت، ثم واصلت طريقها دون أن تلمس أرواح من على متنها. ثم جاء الدور على" يولارا"، التي حاول الصهاينة غمر أشرعتها بجهاز كيميائي. لكن الكبسولة رجعت إلى البحر، ولم يتضرر طاقمها ولله الحمد.
أما "أوتاريا" فقد تلقت قنبلة صوتية عند منتصف ساريتها، شق صوتها الفضاء، لكن ظلت ساريتها شامخة. أما بقية السفن المتضررة فكان لكل واحدة منها قصتها وتفاصيلها.
عشر سفن وقلوب نابضة، واجهت النار بالصبر، والصخب بالحبور والسكينة. ومع بهجة صباح البحر، ومداعبة نسيمه للقلوب، استقبل الأسطول بُشرى، إذ التحقت به سفينة إيطالية طبية، أتت لتواكب الرحلة وتقدم الإغاثة لمن قد يتعرض لإصابات. وكان حضورها تجسيداً للطابع المدني السلمي للأسطول.
يظهر هذا الفيديو الاستهداف الاسرائيلي لإحدى سفن الأسطول:
الهجوم الصهيوني، وإن ظنه البعض مجرد حدَث عابر في عرض البحر، هو في جوهره انتهاك سافر للقانون الدولي ولجوهر الإنسانية. هو تعدٍ على مدنيين محميين بموجب المادة (51) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، وعلى عاملين إنسانيين تكفل لهم المادة (71) من البروتوكول ذاته الحماية والاحترام. والتعرض لقوافل المساعدات جريمة حرب نصت عليها المادة (18) كم اتفاقية جنيف الرابعة والمادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
الاعتراض والاعتقال والصمود في الأسر
قام الرفيق التونسي وائل نوار بفعل رمزي لطيف، حمل في طياته إعلاناً صاخباً للتمرد، إذ حلق شعره وهذّب لحيته، كمن يتطهر بطقس عتيق قبل دخول ساحة المعركة. نشر صورته على متن السفينة باسماً، وابتسامته في ظاهرها مزحة وتحمل في باطنها تحدياً صريحاً للقراصنة الصهاينة وللخوف وهواجسه. كان وائل بحركته يرسل رسالة للعدو بأنه جاهز لاعتراض المتوقَع كل حين.

ووائل مناضل يكره القوالب الجاهزة والسلوك النمطي، مناضل غير نسقي، يطل ببساطة لافتة: قميص قطني قصير وسروال رياضي قصير أيضاً، وروح صبي مشغوف بعوالم "الأنمي"، إذ يزخرف قمصانه برموزها، في حالة إعلان أن الطفولة والبراءة لا تتناقضان مع الثورة والجسارة والصلابة، بل هما رافداها الأهم.
ووراء ذلك المظهر المرح صلابة لا تلين، وجذوة "جيفارية" الروح، تعتقد أن الحرية ممارسة حياتية يومية قبل أن تكون شعارات أو هتافات. ومنذ أيام التحضيرات في ميناء سيدي بو سعيد كان وائل نوار شعلة متقدة، صوته يملأ الآفاق، وحماسه ينبه النشطاء. وهو على ظهر سفينة "دير ياسين"، ازداد اتقاده، الذي يرافق خليلي محمد فال، كأنهما جناحان في طائر يحلق نحو غزة.
وكان توقع وائل الذي تجهز له صحيحاً. فمع أول ساعات يوم الأربعاء في مطلع الشهر الجاري، تبدت إرهاصات المواجهة، حيث أطلقت سفن القراصنة الصهاينة تشويشاً مكثفاً على أجهزة سفن الأسطول، وتم اعتراض السفينة "ألما" التي تقود الأسطول من دون اقتحامها، وكان ظنهم أن الأسطول سيتوقف إذا عُطِّلت مقدمته. لكن بقية السفن أعادت تشكيل نفسها حول سفينة "سيريوس" وتابعت التقدم، فتوجه القراصنة إلى اعتراضها، ليتضح لهم أن الأسطول لا ينكسر، وأنه يملك قدرة البحر عل التجدد، إذ لا تنتهي موجة إلا بدأت أخرى بعدها. كان العدو يختبر إرادة الرفاق، فجاء جوابهم: حتى لو أوقفتم سبعاً وأربعين سفينة، فإن الثامنة والأربعين ستظل تواصل إبحارها نحو غزة.
وحين فُعِّلت حالة الطوارئ ارتدى الرفاق سترات النجاة، وكانت الخطوة في ظاهرها إجراء احترازياً، لكن عيني نظرت لها كاستعداد لمواجهة الغرق كما لمواجهة الأسر، للموت كما للحياة. وكان رفيقي محمد فال قد أرسل لي حينها كلمات قليلة، لكنها كافية، إذ قال: "مستمرون حتى كسر الحصار، فلا وجهة غير غزة". كان حديثه مقتضباً لكنه شاسع العمق، ومع خيوط الصباح الأولى، خفت مطاردة القراصنة، في حركة تخبر بأنهم تركوا المعركة مؤقتاً ليعودوا بعدها بجولة أشرس.
الهجوم الصهيوني، هو في جوهره انتهاك سافر للقانون الدولي ولجوهر الإنسانية. هو تعدٍ على مدنيين محميين بموجب المادة (51) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، وعلى عاملين إنسانيين تكفل لهم المادة (71) من البروتوكول ذاته الحماية والاحترام. والتعرض لقوافل المساعدات جريمة حرب نصت عليها المادة (18) كم اتفاقية جنيف الرابعة والمادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
في شرفات السفن، وبين أصوات المحركات وأزيز الريح، يظل الفرح حاضراً، فرح ليس عابراً ولا ساذجاً، بل فرح بالجماهير التي ترى ذاتها في الأسطول. فالرفاق يتابعون الأخبار الواردة من اليابسة، التي تفيد بمسيرات في تونس ووقفات في موريتانيا وهتافات في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وكل صورة وصوت يهتف، يتحول إلى وقود للسفن وطاقة للرفاق.
حدث الاصطدام في اليوم التالي، فقد انقض الكيان المتربص على سفينة "دير ياسين"، وبقية نشطاء الأسطول، اعتقلوا الصديق محمد فال، وساقوا موكب النشطاء.
لقد حدث ما توقعنا، واعتقل محمد فال، ولكن للأسف وحده، فكان المأمول هو أن أكون شريكه في الزنزانة أو في كسر الحصار، كما كنا شريكين في حِمل الأسفار، إذ تجاورنا في مقاعد الطائرة واشتركنا الغرفة، وتقاسمنا لهيب الشغف، وما هو أعمق: إذ تشاركنا الصلاة والحبور.
كم تجاذبنا أطراف الحديث حول تلك اللحظة المؤجلة، نرتب الكلمات ونعد الأوراق، ونفكر في أيها علينا توقيعه وأيها نمتنع عنه؟
أسطول الصمود: لم تنتهِ المهمّة
09-10-2025
حرمت أنا من شرف الإبحار، ولم يبق في المقدمة غير محمد فال، وصار يمثلني، وينوب عن روحي التي حُرمت من المسير، بل أصبح هو صوت الصحافة الحرة التي تجمعنا، ووجه موريتانيا في طلائع الأسطول، بعد أن مَنعت أعطال السفن بقية أعضاء الوفد من إكمال الرحلة. فقد تعطلت الكثير من السفن وفقد ركابها فرصة مواصلة الإبحار، لكن محمد فال استكمل رحلتنا وحمل حلمنا، وأبحر نحو الهدف السامي، وهو مستحق لذلك الشرف.
الرفيق حر
استقبلتُ يوماً جديداً بعين ترقب خيوط النور، هنا، على رصيف الانتظار الطويل الذي يفصلني عن غزة الحرة. كنت أترقب مصير محمد فال ورفاقه، فكان الفرح نهاية ترقبي، فقد أُعلن يوم السبت، الرابع من أكتوبر، عن تحرير محمد فال وبعض من أقمار العزم، وعاد الى وطنه. خاض محمد فال ورفاقه أياماً عصيبة في سجن الاحتلال، وهم اليوم أحرار، ولكل منهم حكايته، وكان كل يوم لهم في السجن تتجسد فيه فكرة أن انتهاك حقوق الإنسان من قبل الكيان عقيدة قوامها الطغيان وليست مجرد هواية.

لكن النور رغم خفوته يشع من عيون من قدموا من أصقاع الأرض، ليقولوا: "لا للإبادة الجماعية".
ومن بين حكايات صمود الأقمار، التي تستحق أن تُروى، ما حدث عند دخول وزير داخلية الكيان الغاشم إلى ميناء أسدود، وبدأ في توجيه كلامه البذيء تجاه النشطاء وتهديدهم، إذ خرج له صوت هادر ينادي بالحرية لفلسطين، وفي خضم ذلك قام البطل التونسي مهاب السنوسي برفع علم فلسطين الذي كان يخفيه في ثيابه رافضاً أن ينحني للعسف. كانت حركة عميقة، صفعة للتجبر في وضح النهار، ما جعل عناصر شرطة الاحتلال يعتدون عليه.
وأنا كرفيق عن بعد، حين رأيت صورة التونسي محمد مراد وهو يلوح بعلامة النصر، مبتسماً في وجه جنود الاحتلال، أدركتُ تماماً حقيقة المشهد. لقد ابتسم للظالم ابتسامة تعكس رباطة جأش لا حد لها، وكأنه يخبر قوات الاحتلال بأنه لا يخافهم.

وهناك بالتأكيد قصص أخرى لم تجد حظها من التوثيق، تحكي شجاعة الرفاق، ومنهم محمد فال. فبالتأكيد حكايته تستحق أن تروى بتفاصيلها الدقيقة. وأنتظر أن يكمل هو ما نقص في هذه اليوميات ويحكي قصته، ويستمر النضال.
1. نشرت هذه الحلقات على صفحة السفير العربي في "فيسبوك" ما بين 20 أيلول / سبتمبر و4 تشرين الأول / أكتوبر 2025.