أيامٌ قليلة قبلَ السابع من أكتوبر. عامان مرّا على الحرب الطاحنة التي أهلكتنا. لا أقول أهلكتنا فقط. بل استنزفت كلّ ما في أرواحنا، ولم تُبقِ فينا حياً إلّا أجسادنا التي تعملُ بشكلٍ تلقائي، من دون معرفةٍ بدورها أو طريقها. أعيشُ الآن النزوحَ الخامس، ورُبما أكثر. لا أعُدّ، فللحياة الجديدة التي خلَقتها الحرب، سمةٌ أساسيّة، عنوانٌ رئيسي: النزوح. وللنزوح شكلٌ لا يعرفهُ الناس بغلافه الخارجي، فهم يظنُّونه مجرّد حياة عاديّة، أو استثناء وطريقاً إلى السلامة من الموت المُتحقق، فيما تكون حقيقته الأساسية، موتٌ آخر أكثر بطئاً.
من جديد، غادرنا المدينة على مضض، بعد عودتي إليها بداية العام بفرحٍ وشوقٍ كبيريْن. غادرتها وقد تبدّلتْ مشاعري. الشوق تحولَ إلى قهر، والفرح تحوّل إلى حزنٍ قاتم استعرَ في النفس كالنار، أحرقها، فلم يبقَ منها سوى قشرة تذوب في الألم بمرارة كبيرة مع الوقت. النزوح ساعة رملية تسير ببطء، تنقسم فيها حبّات الرمل إلى ذراتٍ صغيرة، تتناقط كلّ ذرة في الساعة، مع كلّ يوم من أيام البُعد عن المدينة والبيت.
يأكلني الخوف
20-09-2025
هذه قصتي
01-10-2025
الأيام الأخيرة قبلَ النزوح كانت صعبة. أرهقنا القصف المكثّف الذي لم يتوقّف للحظة، حتى بدا عدّ الانفجارات في الساعة الواحدة صعباً. النوم صارَ خياراً سيئاً. بعضنا كان ينام ويهرب من الألم بنومه، فلا يسمع ولا يرى، ولا يشعر. بعضنا مثل أُمي التي تسهرُ الليل خوفاً وقلقاً، لا تعرفُ النوم، تعيشُ الوقت كلّه حتى الصباح مكلومةً، تضعُ يدها على خدّها، وتخاف. صرتُ أستيقظُ مع الفجر، الاستيقاظَ النهائي. تبدأُ دقات قلبي بالخفقان السريع، لا أعرفُ شكلاً لألمٍ أصعب من هذا الألم، قلق يستمرّ حتى الصباح، ربما حتى عندما تمر ساعة أو نصفها من الهدوء والاستقرار، قبل أن يعود القصف ليشتدّ.
حتى اليوم الأخير، لم يرغب والدي في الخروج. سبعون عاماً كانت صلبة وعنيدة في عقله، أكثر من أربعين عاماً من العمل والجدّ، في تأسيس البيت وبنائه، وتأسيس بيوت أبنائه، ثم تأسيس مطبعته الشهيرة في مدينة غزّة "مطبعة دار المقداد"، ولاحقاً الاهتمام بها وجعلها من أشهر مطابعها. لم تكُن أشياء عابرة يتركها ويرحل، ولا أشكّ في أنه يستذكر تجربة والده وأهله عام ثمانيةٍ وأربعين.
لم يكُن الرحيل خياراً سهلاً ولم يبدُ شيئاً جيداً، إلا أن الخيارين الوحيدين المتوافرين كانا: البقاء والموت، أو الرحيل والنجاة المؤقتة. ولأجل الأطفال، تتحول النجاة ولو بالقليل، إلى فرصة رُبما لعودة أُخرى إلى الحياة، ومحاولة الاستمرار فيها.
قررتُ إخراج بعض أغراضي الأساسية إلى الجنوب. فراش وأغطية ومخدّات، وبعض الملابس الأساسية الثقيلة للشتاء، فأنا صاحب تجربة نزوح، أعرفها وأعرف سوء الحياة في خيمة بلا ملابس ولا أغطية. لم يكُن أهلي قد قرّروا تنفيذ فكرتي، ففضلوا البقاء في المدينة كما المرة الأولى، لكنهم كانوا يدركون في داخلهم، كما يُدرك كلّ أهل المدينة، أنّ تجربة البقاء هذه المرّة مختلفة. انتقلَ أهلي في المرة الأولى إلى أحياءَ أُخرى وتوفّرت لهم بيوتٌ يسكنونها لدى أقاربنا، حتى غادرَ الاحتلال حيّنا فعادوا إلى البيت، إلا أن الخيارات التي أُتيحت بدايةً لم تكن الآن موجودة، فقد احتل الجيش أحياء الشيخ رضوان والمناطق الشرقية من المدينة، وضغط عليها من الجنوب أيضاً نحو الوسط، فيما كان يتقدّم نحونا من الجهة الشماليّة، ليدفع الجميع نحو نطاقٍ ضيّق، يصعب فيه التنقل من حيٍ إلى آخر، ويفرض علينا خياراً واحداً يُريده: مغادرة غزّة إلى الجنوب.
حتى اليوم الأخير، لم يرغب والدي في الخروج. سبعون عاماً كانت صلبة وعنيدة في عقله، أكثر من أربعين عاماً من العمل والجدّ، في تأسيس البيت وبنائه، وتأسيس بيوت أبنائه، ثم تأسيس مطبعته الشهيرة في مدينة غزّة "مطبعة دار المقداد"، ولاحقاً الاهتمام بها وجعلها من أشهر مطابعها. لم تكُن أشياء عابرة يتركها ويرحل، ولا أشكّ في أنه يستذكر تجربة والده وأهله عام ثمانيةٍ وأربعين. حينَ قررنا الخروج، وأكدنا ألّا فرصة غير ذلك، بدأ يداهمني شعورٌ آخر يضاربُ ألم الخوف، شعور القهر الذي سيعيشه والدي من حياة الخيمة. ربما أنا جربتها، ربما تحمّلتها وصبرتُ، لكن كيف يتحمّلها هو؟
انهارت كلّ خيارات البقاء في ليلةٍ واحدة، وحين كنّا لا نعرف مكاناً نخرجُ إليه، لا نستطيع الحصول على بيتٍ يأوينا أو حتى أرضٍ نعيشُ فيها وتتسع لخيمنا. استطعتُ في لحظة الوصول إلى أرض في بلدة الزوايدة وسط قطاع غزّة، طلبَ صاحبها مبلغاً خيالياً لقاء ذلك، يُقدّر بحوالي 1500 دولار أمريكي، ليس لحياةٍ آدميّة، إنما لوضع خيمٍ والعيش فيها، بشكل الحياة البدائي. وفي الليلة الأخيرة كان كلُّ شيءٍ صعباً. لم ننم لحظة. طيران "كواد كابتر" يُطلق النار تجاه المنازل والنوافذ، المدفعية تقصف المخيم الذي نعيش فيه بشدّة، والطيران الحربي يدمّر ما تبقى من عماراتٍ سكنية ومنازل، ويقصفُ الناس داخل بيوتهم الآمنة. استيقظنا لنُقرر ضرورة الرحيل.
لم يكُن الرحيل خياراً سهلاً ولم يبدُ شيئاً جيداً، إلا أن الخيارين الوحيدين المتوافرين كانا: البقاء والموت، أو الرحيل والنجاة المؤقتة. ولأجل الأطفال، تتحول النجاة ولو بالقليل، إلى فرصة رُبما لعودة أُخرى إلى الحياة، ومحاولة الاستمرار فيها.
انطلقت السيارات والشاحنات أفواجاً، قسّمنا أنفسنا، نحنُ الذين يُقدّر عددنا بأكثر من خمسين شخصاً، نصفنا من الأطفال، وبدأنا نُدرِك أن الوداع قد حان. قتلَنا القهر. بدأت السكاكين تخترقُ قلوبنا ونحنُ نودع البيت، الذكريات، والحياة فيه.
كانت غزّة تغيب، ومن فوقها غمامةٌ سوداء، نتيجة القصف الذي لم يتوقف، ومشاعر أهلها الذين كانوا يموتون في كل خطوة، يُدركون فيها أنّ المدينة صارت بعيدة، وأنّ غزّة ليست الآن سوى سرابٍ، لا نعرفُ كيفَ سنعودُ إليه.
احتجنا إلى الرحيل من المدينة، ونحنُ نُقدّر بعشر عائلات، حوالي أربع شاحناتٍ كبيرة، تقلُ أغراضنا، فتجربة النزوح تُعلِّم الإنسان. بدلاً من النزوح والبحث عن احتياجات الحياة، يتحوّل نقل الحياة بكلّ ما فيها إلى خيارٍ مُفضّل للمواطن الغزّي. على مدار سنتيْن أسس بعض الناس حياتهم أكثر من مرة في كلّ رحيلٍ ونزوح، واضطروا إلى الاستغناء عن أغراضهم، لكنهم هذه المرة، أخذوا أغلب ما يحتاجون للاستمرار في الحياة، إلّا البيت.
لطالما كنتُ أشاهد الشاحنات التي تنقل عفش الناس وأغراضهم وحياتهم، تمتد طابوراً طويلاً في شوارع المدينة وعلى طريق الرشيد الساحلي الممتد نحو الجنوب، هل كلّ هذه الأغراض ستعوّض عن البيت؟ عن شعور الأمان فيه؟ رُبما فقد كثيرٌ من الناس بيوتهم، ربما فقدنا الكثير، لكن فكرة الوجود في المدينة، في الحي، بينَ الناس، في منطقتك، ولو بخيمة، تُعطيك شعوراً بأنّك في مكانك، ولطالما فضّل الاحتلال قهرنا مئات المرات، لنُجرب مرارة الرحيل والابتعاد عن البيت والمدينة، فكان خيار الترحيل، هو الأوّل.
انطلقت السيارات والشاحنات أفواجاً، قسّمنا أنفسنا، نحنُ الذين يُقدّر عددنا بأكثر من خمسين شخصاً، نصفنا من الأطفال، وبدأنا نُدرِك أن الوداع قد حان. قتلَنا القهر. بدأت السكاكين تخترقُ قلوبنا ونحنُ نودع البيت، الذكريات، والحياة فيه. لم نعرف: هل يهتم الشخص فينا بمشاعره وقهره، أو ينقل تركيزه إلى غيره. هل أتأمّل والدي السبعيني الذي يحينُ شهر ميلاده بعد أسابيع، وهو يُغادر كلّ ما بناه، أو أتأمل طفلتي التي تودّع بيتها وتظنُ أنها ذاهبة في رحلة.
في الأيام التي سبقت ذلك، كنّا نجهز شنط النزوح، وكلما شاهَدَت "سلوان" إحدى هذه الحقائب، ظنّت أننا سنُسافر، وهي تعتقد أن السفر الذي وعدناها طويلاً به قد حان، لترى العالم، وجدّيها والديْ أُمها في مصر.
غزة فوق العالم
09-09-2025
كنّا نودع المدينة، ونستقبلُ بدلاً من حُبها، قهرنا الذي انزرعَ على طول الطريق في قلوبنا. كانت غزّة تغيب، ومن فوقها غمامةٌ سوداء، نتيجة القصف الذي لم يتوقف، ومشاعر أهلها الذين كانوا يموتون في كل خطوة، يُدركون فيها أنّ المدينة صارت بعيدة، وأنّ غزّة ليست الآن سوى سرابٍ، لا نعرفُ كيفَ سنعودُ إليه.