يأكلُ الخوف قلبي. مرّ حوالي عشرة أيام على إعلان الجيش الإسرائيلي عن قرار إخلاء مدينة غزّة، واعتبارها "منطقة قتال خطيرة". لا نزال جميعاً هُنا.
الليالي صعبة جداً. نمنا الليلة الماضية بشكلٍ شبه جيّد. لا يخلو النوم من تقطعاتٍ كبيرة ومتكرّرة، مع كلّ لحظة نسف وانفجارٍ هائل، أو مع قذائف المدفعيّة، أو أيّة غارة أُخرى. الليلة التي سبقتها، كانت أصعب، أو رُبما كلتا الليلتيْن بنفس الصعوبة، إلّا أنَّ التجربة الأولى دائماً أكثر وطأة.
الليلة قبل الماضية، كانت مليئة بعمليات النسف في المناطق الشمالية والجنوبيّة للمدينة. انفجاراتٍ هائلة لم يحدث أن عِشنا مثلها. تبدأ القصّة بضوءٍ أحمر ناري هائل يخترقُ سوادَ الليل، ثمَّ اهتزاز المبنى والأرض من تحتِنا، قبل مجيء الصوت الضخم للتفجير. يُنفِّذ الجنود الإسرائيليون عمليات النسف هذه منذ أسابيع طويلة في المدينة. يتقدّم "روبوت متفجّر"، إلى المناطق التي يرغبون في مسحها، وينفجر بعد ساعات.
غزة: لن ننسى ولن نسامح
26-06-2025
و"الروبوت" عبارة عن آلية لم يعُد استعمالها صالحاً أو ضرورياً، يُبقيها الاحتلال لاستخداماتٍ أُخرى مثل هذه. يجعلها مليئة بأطنان المُتفجّرات، وينسفها في المناطق السكنية. الهدف تدمير أكبر قدر من المنازل ومسح المنطقة بالكامل، سعياً إلى تفريغ مساحة كبرى أمام الجنود والآليات. بدأ تطبيق هذه الطريقة في رفح بعد احتلالها العام الماضي، ومع نجاحها، نقلها الاحتلال إلى مناطق شمال غزّة، ثُم يبدأ الآن في تطبيقها بيننا.
نعم، يأكلني الخوف. لا أُنكر ذلك، والعديد من الشباب والرجال الذين التقيت بهم، قالوا إنّ الليالي الماضية كانت مُخيفة. أصوات الانفجارات غير معهودة، والقصف لا يُشبهه شيء. لكن خوفي الأساسي ليسَ على نفسي ولا من الانفجارات. هذه المرّة قررتُ البقاء قدرَ الإمكان في مدينة غزّة وعدم مُغادرتها. في المرّة الأولى، قبلَ عاميْن، غادرتَ زوجتي بانياس وابنتي سلوان المدينة أوّل أيام قرار الإخلاء، كان لها مكانٌ في رفح. الآن لا مكانَ لنا في أية بُقعة، وعلينا البحث طويلاً عن بيتٍ قد تكون تكلفته بآلاف الدولارات، أو أرضٍ تتسعُ لخيمة، وقد تكون تكلفتها أيضاً آلافاً هي الأُخرى.
بقيتُ في المرة الأولى في غزّة قرابة الشهر، قبلَ مُغادرتها إلى الجنوب. كانت الليالي التي بقينا فيها صعبةً، وفي النهاية غادرنا تحتَ وطأة القذائف ورصاص الطيران المسيّر. حينها كانت العديد من مناطق المدينة غير مُحتلة، ولم يتقدّم الجيش سوى في المنطقة الغربية التي نتواجد فيها، ما أعطى الناس هامشاً للمناورة، بالذهاب إلى أحياء: الشيخ رضوان والتفاح والصحابة، ومناطق وسطَ المدينة. هذه المرّة يتقدّم الجيش من المناطق الشرقية حتى الوسط، وصولاً إلى الغرب. لا يبدو الآن أنَّ للناس مجالاً للمناورة، للتنقّل بينَ مكانٍ وآخر. لن نلعبَ لُعبة القط والفأر من جديد. هذا ما يقوله أغلبُ الذين بقوا في المدينة سابقاً.
حمل كثيرٌ من الناس أغراضهم إلى جنوب القطاع، الأغطية والفراش، الأبواب، الشبابيك، الشاشات، وكُلّ ما يملكون. الهدف: ألّا نخرج من المدينة بما نلبس. يذهبون بأغراضهم ثُمَّ يعودون بأنفسهم، يقرّرون البقاء حتى آخر لحظة مُمكنة طالما أنّ البقاء في البيت لا يزال مُمكناً. وهذا نتيجةً للتجربة الطويلة من النزوح وتكرار مشاهده. فبدلًا من النزوح وتأسيس حياةٍ جديدة والبحث عن مستلزماتها التي ستكون مُكلفة بشكلٍ كبير، يأخذ الناس حياتهم معهم، ويُغيّرون المكان. ويا ليتَ تغيير المكان سهل، فالمكان في كلّ نزوح ليس مكاناً، ولا يتعدّى أن يكون محاولة أُخرى للعيش في جحيمٍ صغير، يكبُر ويكبُر في كلّ لحظة من النزوح.
***
انقطع الانترنت منذُ الأمس عن المدينة. وبذلك نحنُ معزولون عن العالم، نسمع الانفجارات وأصوات القصف ولا نعرف ما يحدُث. كلما قرأت يومياتٍ عن الحرب، تذكّرتُ يومياتي هذه.
غزة فوق العالم
09-09-2025
لا حديث عن انتهاء الحرب، لا أحد يتحدّث عن المفاوضات. يرفض الإسرائيليون الذهاب إلى جلسات التفاوض قبلَ بدء العملية في غزّة. العملية بدأت. ترفض حماس التفاوض في هذا الوضع. الأمريكيّون يتحدثون عن محاولاتٍ لاستئناف المفاوضات. الحديث عن أسبوعيْن. يُذكرني ذلك من جديد بخطة احتلال رفح وتدميرها، بدأت العملية ثم عادَ الحديث عن المفاوضات، انتهت العملية ومُسِحت رفح من الخريطة، وصارت تحتَ السيطرة الإسرائيليّة، ولم تتقدّم المفاوضات شبراً.
ما يقهرني أن لا أحد يتحدّث معنا. يخرُج غازي حمد -أحد قادة حماس - الأمس في أول تصريحٍ ولقاءٍ له بعد محاولة اغتياله مع بعض قادة حماس في قطر الأسبوع الماضي، ليقول إن نتنياهو يُحارب الأمّة، ويُطالِب الدول العربية بأن يكون لها موقف. غازي حمد لا يعرف أنّ القمة في الدوحة عُقدت الاثنين الماضي، على بُعد أمتارٍ من مكان تواجده؟ وما النتيجة؟ لا نتائج، الشجب والاستنكار. هل لا نزال نُناشِد الأمة العربيّة؟
لا يتطلّب الموقف الحالي أيّة مُناشدة، ولا استجداء للعرب أو للأمة الإسلامية. ليسَ من المنطقي أصلا أن نُناشد، بعد السنتيْن اللتين قُتل فيهما أكثر من 60 ألفاً، ومُسحت المدن وارتُكبت فيها أبشع المجازر. لو كان من الممكن أن يتحرّكوا لتحرّكوا.
المرّة هذه تتطلّب موقفًا جريئًا، ليس استسلامًا كما أسماهُ باسم نعيم، إنما محاولة إنقاذ أخيرة للشعب، فهذه المقتلة ليس مثلها أيّة مقتلة أُخرى. لا بيروت ولا دير ياسين ولا حتى جنين. لكن من سيتخذه؟ ما أراه أنه يتم التضحية بالشعب في غزّة مقابل مطالب ومواقف سياسيّة غير مُجدية، ولن تُقدّم للناس شيئًا، وحتى زوالها لن يؤخّر أيضًا.
يرفض الإسرائيليون الذهاب إلى جلسات التفاوض قبلَ بدء العملية في غزّة. العملية بدأت. ترفض حماس التفاوض في هذا الوضع. الأمريكيّون يتحدثون عن محاولاتٍ لاستئناف المفاوضات. الحديث عن أسبوعيْن. يُذكرني ذلك من جديد بخطة احتلال رفح وتدميرها، بدأت العملية ثم عادَ الحديث عن المفاوضات، انتهت العملية ومُسِحت رفح من الخريطة، وصارت تحتَ السيطرة الإسرائيليّة، ولم تتقدّم المفاوضات شبراً.
يقهرني ألّا يتحدث أحد معنا عن المفاوضات. ألاّ أحد يُطمئِن الشعب. العملية تمشي. الدبابات صارت على دوار "الصاروخ"، وهو آخر نقطة في حيّ الشيخ رضوان. وفي دقائقَ قليلة قد تكون بيننا.
هل من مخرج لفلسطين من الإبادة نحو السيادة؟
28-07-2025
لكن وعلى الرغم من ذلك، لا يزال الأمل موجوداً. لا أستطيع تفسير علاقتي مع الأمل. رُبما هو مثلَ الوحي للنبي، يؤمِن به ولا يعرف متى يأتي. الأمل ينقطع عنّا وينعدم، لكننا نؤمن به، نقول إنه موجود، لا نراه، لا نعرف كيفَ يأتي. نقول موجودٌ، لا يُنقذنا، لا يوقِف كل ما يحدث، لكن نقول إنهُ موجود. أينَ الأمل؟ لا نراه. لكنني أُدرك أنّ الأمل هو ما يجعلنا فعلاً أحياء. فلو لم يكُن الأمل، لما تحمّلتُ الخيمة تسعة أشهرٍ، على أمل العودة، وما تحمّلتُ الحرب سنتيْن على أمل انتهائها وتأسيس الحياة من جديد، ولولاه ما تحمّلتُ هذا الموت والخوف، على أمل انتهائهما في أية لحظة.
قد يكون الأمل أحياناً ضرباً من ضروب الخيال. لكننا لولا الأمل، لكُنا قتلنا أنفسنا قبلَ الحرب، منذُ وقتٍ طويل. والأمل الغائب، هو قدرُنا الذي ننتظرُه.