يلحظ المتأمِّل للعلاقة بين نساء جبل صبر في اليمن[2] والعمل في المجال العام، مشاركة المرأة اليمنية الرجل في مسؤولية المحافظة على التكامل في العناية بالمتوافر من مقومات الحياة. وقد ساد هذا النوع من الحضور في فترات مختلفة من تاريخ اليمن القديم والحديث، قبل أن يصطدم بمتغيرات ورؤى فكرية، أدت أحياناً الى انتكاسه أو حتى الى انحساره.
أنساق البداية
تشير الدراسات الحضارية إلى المكانة العليا التي كانت تتمتع بها المرأة في بدايات الحياة الإنسانية، فهي التي اكتشفت الزراعة، فانتقلت بالحياة إلى الاستقرار، وإلى نوعٍ من التوزيع في أدوار العمل. فكانت الزراعة والمنزل مجال عملٍ خاص بها، بينما كانت عملية الصيد مقصورة على الرجل. وتُرجِع بعض الأبحاث سطوة الرجل بعد ذلك، ومنذ فترات تاريخية طويلة، الى تميّزه في القوة العضلية، وتحرره من مشقات الحمل والانجاب والعناية بالاطفال. وهذا مبحث طويل ليس هنا مجاله.
ما يهمنا هنا، هو ملاحظة أن المرأة الصبرية، استمرت في عملها خارج المنزل، وفي الأسواق العامة، وهذه ظاهرة يرى فيها بعض الباحثين استمر لبقايا سلطة "أمومية" لم تنقطع في هذا المكان من العالم.
مجتمع العمل الزراعي
العمل المركزي للمرأة اليمنية هو الزراعة. وهي اعتادت على ممارستها في شتى مراحلها، سواء بمعية الرجل أو بدونه. وأما العلاقة بين الإنسان والأرض، فقد تجاوزت في حياة الإنسان اليمني مسارها النفعي، إلى فاعليتها في تشكيل المدخل والبعد الأساسي لتكوين شخصيته، ونمط تفكيره، وعلاقاته الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية والحضارية بصفة عامة. ووقد فتح دور المرأة المحوري في العمل الزراعي، نافذة للحرية، وأتاح لها الخروج إلى الرجال، غير متحرِّجة من الحديث معهم بأريحية، سافرة الوجه. وهي الحال التي لا تزال سائدة في حياة المرأة الصبرية.
عمل المرأة في الأسواق العامة
لا يقف عمل المرأة الصبرية عند المجال الزراعي، بل يمتد إلى ممارستها عملية بيع المحاصيل الزراعية في أسواق مدينة تعز.
تتمتع المرأة الصبرية العاملة في الأسواق العامة بميزات كثيرة، منها ما يتعلق بمليها الى أكتساب ملكية العقارات والمباني ووسائل المواصلات... ولا نعني بذلك ممتلكاتها التي تأتي من طريق الوراثة، بل تلك التي تمثِّل ثمرةً لأعمالها في مجال البيع والشراء.
تشير بعض الكتابات التاريخية، إلى انتشار عمل المرأة في الأسواق العامة، في كثير من المناطق اليمنية. من مثل الإشارة إلى أن الشاب، الذي كان يرغب في الزواج من فتاة ما، كان يحرص على أن يطمئن إليها قبل التقدم لخطبتها، فيتّجه إلى السوق، ليراها في مكانها الذي اعتادت على الوجود فيه، أو يعترضها في طريقها عائدة من السوق أو ذاهبة إليها[3]. ومثل ذلك، هي الإشارة إلى شظف الحياة الريفية في شمال اليمن، وما ترتب على ذلك من ممارسة المرأة، علاوة على عملها الزراعي والمنزلي، العمل في البيع والشراء في الأسواق العامة[4] ،وهو ما لفت انتباه رحالة عربي، زار اليمن قبل ما يزيد على نصف قرن، فأشار إليه في كتابته عن رحلته إلى هذا البلد[5] .
وتكمن في هذه الإشارات إحالة على أن هناك عوامل مختلفة، أدت إلى انحسار عمل المرأة اليمنية من الأسواق العامة، من أهمها بعض الرؤى الفكرية، التي تعيب عمل المرأة خارج المنزل أو تُجرِّمه، متناسية أن اليمن هو مكان مملكة سبأ الاسطورية وملكتها، بلقيس. وقد تأقلمت الثقافة الاجتماعية مع تلك الرؤى، في كثير من المناطق اليمنية، ولكن لم يكن من السهل فرضها على سكان جبل صبر، لأسباب مختلفة، من أهمها أن المرأة الصبرية كانت قد حققت تقدماً ملموساً، واكتسبت ثقة عالية في نفسها، كما نالت ثقة الرجل في نطاق عائلتها، وفي المجال الاجتماعي العام، بل في نظر بعض زائري اليمن، الذين أعجبوا بنساء الجبل العاملات في أسواق المدينة، فقال أحدهم في إشارته إليهن، إنهن يتمتعن بحرية أكبر من غيرهن من نساء الشرق، من حيث الألفة والسهولة في تعاملهن مع المتسوّقين[6].
الحق في الملكية
تتمتع المرأة الصبرية العاملة في الأسواق العامة بميزات كثيرة، منها ما يتعلق بمليها الى تملُّك العقارات والمباني ووسائل المواصلات... ولا نعني ممتلكاتها التي تأتي من طريق الوراثة، بل تلك التي تمثِّل ثمرةً لأعمالها في مجال البيع والشراء.
تضمّنت الحضارة اليمنية القديمة صوراً تجسد هذه النزعة. فكان "للمرأة اليمنية حق التملك"[7]، والحق "في ممارسة الأعمال التجارية، وعقد الاتفاقيات والمعاملات"[8]، وامتلاك المال والعقارات والعبيد، سواء في وجود زوجها، أو في غيابه، أو بعد موته.
المكانة
يستند عمل المرأة الصبرية، إلى المكانة التي تتمتع بها، والنفوذ الذي تملكه في عائلتها، والاحترام والتقدير الذي يحظى به عملُها[9]. كما أنها تتمتع بثقة عالية في نفسها، تُمكِّنها من فرض احترامها في الأسواق العامة. ولم يغب عن ذاكرتي موقفٌ، مررتُ به في إحدى أسواق المدينة، التي تتواجد فيها بائعات القات الصبري، إذ لاحظتُ إحداهنّ وهي تمارس مهنتها بثقة وحزم، وإلى جانبها رجلٌ يعمل مساعداً لها، عرفتُ فيما بعد أنه زوجها. اقتربَ منه شخصٌ، يبدو أنه ممن له علاقةُ عملٍ معهما، طلب منه مبلغاً من النقود التي لم تسددها زوجته، اعتذر الزوج مُعلّلاً ذلك بأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلّا بعد أن يتلقى توجيهاً مباشراً منها. تحدث الرجل معها، فالتفتتْ إلى زوجها موجِّهة إيّاه بإشارة واحدة، فنفّذ التوجيه على الفور، دافعاً للرجل مستحقه المالي. وعلى ذلك، فإن هذه الحال لا تشمل المجتمع الصبري كله، إذ تجد فيه من لا يقبل بعمل زوجته في الأسواق العامة، ويصرُّ على بقائها في المنزل، متولّياً هو هذه المهمة.
ونلحظ وجود ظواهر مشابهة تخص النساء في مناطق يمنية أخرى، من مثل ما ورد في إشارة الكاتبة البريطانية نوكس ماور، إلى أنها في أواخر خمسينيات القرن الفائت، زارت منطقة الحوطة (في محافظة لحج جنوب اليمن)، وصادفت فيها نساءً راعيات يحملن العصي، سألت عنهن، فقيل لها أنهن أيضاً يضربن أزواجهن بتلك العصي! كما تُلحظ حرية المرأة وتكريمها في بعض مناطق المَهْرة، حد أن يقوم الزوج نفسه بخدمتها، أو أن يُسمّى الرجل باسم أمه. ويلحظ وجود أسماء النساء في سلسلة الأنساب، لا سيما أن في النقوش اليمنية القديمة[10]. وهو ما يظهر في حال المرأة الصبرية. فعلى نسبة الابن الصبري إلى أبيه في السجلات الرسمية، إلّا أن الوسط الشعبي ينسبه إلى أمه.
وتظهر في حياة المرأة اليمنية عامة، والمرأة الصبرية على وجه خاص، أحوالٌ تمكّنها من استعادة بعضٍ من مكانتها القديمة، التي تحلّ من خلالها محل الرجل، في إدارة شؤون حياة أسرتها. من مثل الأحوال التي ترتبط بوفاة عائل الأسرة أو مرضه، أو هجرته الخارجية. وقد ورد في مسلّة حمورابي، إشارة إلى أن للمرأة حق الحلول محل الرجل إن تنازل هو لها بذلك، أو ترملت أو طال غياب زوجها عنها[11].
خصوصية الجغرافيا
تمثّل طبيعة جبل صبر وتضاريسه عوامل مباشرة، فاعلة في استمرار محافظة المرأة الصبرية على عملها الزراعي ومن ثم التسويقي. فمن خصائص الطبيعة ذات التركيب الجبلي شديد الانحدار والتضرُّس أنها تُغري أهلها بالتمرّد، والرفض، الذي يطال أيضاً السلطات الحاكمة. وقد احتفظت التدوينات التاريخية والمحكي الشعبي، بكثيرٍ من صور ذلك التمرد على السلطات، من مثل أحداث أيلول/ سبتمبر عام 1919، وأحداث أيار/ مايو عام 1920.
وإلى ذلك، فإن لهذا الجبل أهميته الاستراتيجية، المتمثّلة في إطلالته على مدينة تعز، وإشرافه على كثير من المناطق والطرق الحيوية، سواء المحيطة به أو البعيدة عنه، ناهيك عن كثافته السكانية. كل ذلك جعله محط اهتمام السلطات السياسية التي تعاقبت على اليمن. إذ لم تتهاون هذه السلطات مع أية محاولة من محاولات تمرد أهل الجبل عليها، واتّبعتْ سياسة التضييق على الرجال، فراقبت تفاصيل حياتهم وتنقلاتهم، حد خشيتهم على أنفسهم. وهذه الحال ساعدت على استمرار حيويّة دور المرأة، في التنقل بين المدينة والجبل، مطمئنّةً إلى الحماية التي تحظى بها في الأعراف والتقاليد السائدة.
تُلحظ حرية المرأة وتكريمها في بعض مناطق المهرة، حد أن يقوم الزوج نفسه بخدمتها، أو أن يُسمّى الرجل باسم أمه. ويلحظ وجود أسماء النساء في سلسلة الأنساب، لا سيما أن في النقوش اليمنية القديمة . وهو ما يظهر في حال المرأة الصبرية. فعلى نسبة الابن الصبري إلى أبيه في السجلات الرسمية، إلّا أن الوسط الشعبي ينسبه إلى أمه.
يتّجه الشباب إلى التعليم الجامعي، وتسهم نساء الجبل إسهاماً مباشراً في تحفيز أبنائهن ودعمهم والإنفاق على تعليمهم، بفضل ما يكسبنه من استمرارهن في مزاولة أعمالهن في أسواق المدينة. كما يحظى موقفهن هذا بنوعٍ من تواطؤ الآباء ومباركتهم الضمنية، إذ ليس في مستطاعهم تحمل نفقات تعليم أبنائهم، فيتركون ذلك لنسائهم. ويشمل هذا التحفيز الفتيات، إذ يلتحق كثير منهن بالتعليم الجامعي، مستندات إلى دعم أمهاتهن.
كما أن من عوامل استمرار عمل المرأة الصبرية في الأسواق العامة، مستوى النجاح الذي تحرزه في عمليات البيع والشراء، والعائد الكبير الذي تجنيه. وتتضافر في تشكيل هذا العامل عددٌ من الاسباب، منها أن اضطلاع المرأة الصبرية بعملية البيع والشراء يعني نوعاً من التأكيد غير المباشر أن البضاعة مجلوبة من جبل صبر، لا من أمكنة أخرى. ومنها ما يتعلق بمركزية الأنوثة، ودورها في جذب المشترين المتواجدين في المدينة، أو القادمين إليها من محيطها الريفي، فجميعهم لم يعتادوا على الشراء من النساء، ولا على أريحية الحديث معهن، لذلك يُقبلون بُكثرةٍ، على الشراء من نساء الجبل المنتشرات في أسواق المدينة.
ثم تأتي رغبة الأجيال الجديدة في تجاوز واقع الجبل البائس، والاندماج في حياة المدينة. إذ يتّجه الشباب إلى التعليم الجامعي، فيتأهلوا إلى سوق العمل بطبيعته الحديثة. وتسهم نساء الجبل إسهاماً مباشراً في تحفيز أبنائهن ودعمهم والإنفاق على تعليمهم، بفضل ما يكسبنه من استمرارهن في مزاولة أعمالهن في أسواق المدينة. كما يحظى موقفهن هذا بنوعٍ من تواطؤ الآباء ومباركتهم الضمنية، إذ ليس في مستطاعهم تحمل نفقات تعليم أبنائهم، فيتركون ذلك لنسائهم.
نساء "جبل صبر" في اليمن
04-08-2025
ولا يقتصر هذا التحفيز على الشباب، بل يشمل الفتيات، إذ يلتحق كثير منهن بالتعليم الجامعي، مستندات إلى دعم أمهاتهن، فكان لذلك تأثير سلبي على عمل المرأة الصبرية في الأسواق العامة، من زاوية انخفاض رفد هذا العمل بدماء جديدة، إذ يُلاحَظ أن الفئة الغالبة عليه هي فئة كبيرات السن، مع نسبة محدودة من الفتيات والشابات، اللواتي لا ينخرطن في هذا العمل إلّا لأنهن مضطرّات إليه، ليواجهن به مسؤوليتهن في إعالة أسرهن، بعد وفاة العائل أو مرضه. أو لأنهن لم يجدن مَنْ يتكَفّل بدعمهن وتشجيعهن على الالتحاق بالتعليم الجامعي.
- فتحي عبد العزيز الحداد، "المرأة في اليمن القديم". مرجع سابق، ص432. ↑
- ابن المجاور، "صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز". تحقيق: أوسكر لوففرين ليدن، 1951، جـ2/ ص192،191. ↑
- محمد مصطفى الشعيني، "اليمن الدولة والمجتمع". النهضة، 1975، ص81. ↑
- نزيه مؤيد العظم، "رحلة في بلاد العربية السعيدة". مطبعة عيسى الحلبي البابي، جـ1/ ص89. ↑
- أدولف دافريل، "الجزيرة العربية المعاصرة". ترجمة: الشيخ أحمد المُنى. تحقيق وتعليق: إبراهيم بن محمد البطشان. إي كتب، 2022، ص125. ↑
- فتحي عبد العزيز الحداد، "المرأة في اليمن القديم". أعمال ندوة "المرأة عبر العصور"، مركز الدراسات البردية والنقوش، جامعة عين شمس، في الفترة 22 ــ 24 نوفمبر 1999، ص27. ↑
- جواد مطر الحمد، "الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في اليمن القديم". ط1، دار الثقافة العربية، الشارقة، 2003، ص255. ↑
- مجلة اليمامة، المملكة العربية السعودي، العدد (1821)، 28 أغسطس 2004. ص33. ↑
- فتحي عبد العزيز الحداد، "المرأة في اليمن القديم". مرجع سابق، ص432. ↑
- عبد الله معمر الحكيمي، "في علم الاجتماع والانثربولوجيا". مركز منار للدراسات الاجتماعية، صنعاء، 2017، جـ2/ ص110. ↑