إعداد وتحرير: صباح جلّول
"نحن تحالف من الناس العاديين – منظِّمين وإنسانيين وأطباء وفنانين ورجال دين ومحامين وبحّارة - الذين يؤمنون بكرامة الإنسان وقوّة العمل اللاعنفي". هكذا يُعرّف منظّمو أسطول الصمود العالمي عن أنفسهم تحت عنوان "مَن نحن" على موقع الأسطول الرسمي. يتابعون تعريفهم الذاتي بربط جهدهم هذا بـ"عقودٍ من المقاومة الفلسطينية والتضامن الدولي"، شابكين حلقة عملهم بسلسلة المقاومات المختلفة التي عملتْ عبر سنوات طويلة، كلٌ من موقعها وبأدواتها الخاصة، على النضال من أجل التحرير ورفع الظلم. "على الرغم من انتمائنا إلى جنسيات وديانات ومعتقدات سياسية مختلفة، إلا أننا متَّحدون بحقيقة واحدة: يجب أن ينتهي الحصار والإبادة. نحن مستقلون، دوليون، وغير تابعين لأي حكومة أو حزب سياسي. ولاءنا هو للعدالة، الحرية، وقدسية حياة الإنسان". ينتهي التعريف هنا.
الطريق إلى غزّة.. أسطول ومسيرة وقافلة
12-06-2025
"مادلين" تتحدى الحصار
07-06-2025
وضعتْ غزّة كلّ مَن ليس يعيش الإبادة بداخلها أمام أسئلة كثيرة ومؤرّقة. لقد فشلنا في إيقاف أفظع المَقْتَلات وأكثرها وضوحاً وحضوراً، إذاً، لا بدّ أن هذا الفشل يقول شيئاً ما عـنّا – أكنا نُعرِّف عن أنفسنا كـ"أمّة" عربية (أو إسلامية كما يخصص البعض)، أو كجيران فلسطين من البلدان التي ما زالت على عداءٍ مع كيان الاحتلال، أو كبشر في مجتمع إنساني عالمي يتابع هذه الفظاعات يومياً على هاتف محمول، فتثير فيه غضباً وحزناً. أياً كنّا، فالأكيد أننا إزاء استمرار الإبادة الجماعية الأبشع، وأمام سقوط أجساد إخوتنا وأهلنا في غزة. لم نعد شهوداً "أبرياء" على المَقْتلة، كما لا يجوز لأحدنا أن يدّعي، ما لم نقم بمحاولات لإنهاء هذا الشرّ.
ستتم حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة عامها الثاني بعد نحو شهرٍ من الآن. هل تعلّمنا جماعياً شيئاً أو اثنين من هذين العامين القاسيين؟ هل نستطيع أن نفعل أكثر؟ هل ثمة جدوى في فعل أي شيء؟ أسطول الصمود المتجه إلى غزة الآن يهمس لنا من وسط البحر، بخفر وحذر: "نعم"، نستطيع أن نحاول، مجدداً، ثمّ مجدداً، مع مجموعة أكبر من البشر والتجهيزات.
يحمل القادمون بَحراً أملاً بكسر الحصار وإيصال المواد الإغاثية، ووجداناً إنسانياً جماعياً يرفض أن يتخلّى عن فكرة "بديهية" مفادها أنه من غير المسموح أن يُترَك بعضنا للفناء بينما يتابع بعضنا الآخر حياته دون شعور بأن ذلك يعنيه.


وهكذا، أتوا من 44 دولة حول العالَم. ورغم ابتذال هذا التوكيد، إلا أنه لا يضرّ أن نذكّر أنهم من أديان وأعراق ولغات وخلفيات مختلفة، تجمعهم قضية مُحقّة ومبادئ مشتركة. يتكوّن الأسطول من اتحاد أسطول الحرية، وحركة غزة العالمية، وقافلة الصمود، ومنظمة "صمود نوسانتارا" الماليزية، بالإضافة إلى بعثة باكستانية، وناشطات وناشطين مستقلين من مختلف الجنسيات.
انطلق يوم الأحد في 31 أب/ أغسطس 2025، مُبحراً بأكثر من 50 سفينة، انطلقت 20 منها من شواطئ برشلونة في إسبانيا، فيما أبحر أكثر من 700 شخص من بورتو مارغيرا إلى البندقية تضامناً مع أسطول الصمود العالمي.
ومنن المقرر أن ينضم إليهم أسطول الصمود المغاربي من الشواطئ التونسية يوم الأحد المقبل في 7 أيلول/ سبتمبر (بعد أن تأجلت انطلاقته المقررة أوّلياً في 4 أيلول/ سبتمبر، بسبب الظروف المناخية التي أخَّرت سفن الأسطول عن مسارها)، وذلك بمشاركة واسعة من المغرب والجزائر وتونس، على الرغم من محدودية الإمكانات.

من التحضيرات لانطلاق أسطول الصمود المغاربي في الشوارع الجزائرية: حملة تدعو لدعم الأسطول والمتابعة والتبرع. (الصور من صفحة أسطول الصمود المغاربي لكسر الحصار عن غزة،على فيسبوك).
كسابقيه من الأساطيل، يحمل أسطول الصمود العالمي مساعدات إنسانية من مواد غذائية وأدوية ومياه وحليب أطفال، بالإضافة إلى أطراف صناعية يحتاجها الآلاف في غزة. من أبرز الشخصيات المشاركة: الناشطة المناضلة السويدية غريتا ثونبرغ والممثل السويدي غوستاف سكارسغارد والممثل الأيرلندي ليام كانينغهام، ونواباً أوروبيين ورئيسة بلدية برشلونة السابقة آدا كولاو، والنائبة اليسارية البرتغالية ماريانا مورتاغوا، كما ترددت أخبار عن مشاركة الممثلة الأميريكة المعروفة بدعمها العلني لفلسطين، سوزان ساراندون.
في ما يلي لمحات من محطات مضيئة بارزة رافقتْ انطلاقة هذا الأسطول، وظهرت في مواقف المشاركين فيه، المتكلّمين بالنيابة عنا جميعاً...
غريتا ثونبرغ ومراسِلة "سكاي نيوز"
في المؤتمر الصحافي المنعقد قبيل إبحار أسطول الصمود من شواطئ برشلونة المشْمِسة، وبحضور آلاف الناس الذين احتشدوا لتشجيع أولئك الذاهبين في مهمة نحو المجهول، قالت غريتا ثونبرغ، بصراحة: "أنا أشعر بالرعب من أن الناس يستطيعون متابعة حياتهم اليومية متقبِّلين لهذه الإبادة. إبادة يشاهدونها مباشرة على هواتفهم المحمولة، ويتصرفون كأن شيئاً لم يحدث. لقد نُزعت الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين لدرجة بعيدة، إلى حدّ أن الناس يتكلمون عنهم بوصفهم أرقاماً وقرارات أمم متحدة، فقط لا غير."
تستفرد بها لاحقاً مراسلة "سكاي نيوز" بأسئلتها المستفِزّة: "لقد قال لنا جيش الدفاع الإسرائيلي بأنهم قد برهنوا التزامهم بإدخال المساعدات الإنسانية إلى الناس في غزة، فيما يردّون على الأسطول بالقول أنهم مستمرون بفرض الحصار البحري. سؤالي لكِ هو أن بعض الناس يتساءلون "ما الهدف؟". سيقومون بترحيلكم من جديد على الأغلب. هل هذا الموضوع ]الأسطول[ غَرَضه تحسين العلاقات العامة والدعاية أكثر مما هو تحقيق تقدّم ما؟".
تجيبها غريتا: "أولاً، ما علينا إيضاحه، هو أن إسرائيل، باستمرارها بإطباق حصار بحري على غزة، تكسر القانون الدولي. أما نحن فنحاول استخدام حقوقنا في الإبحار في المياه الدولية لإيصال المساعدات الإنسانية التي لا يحقّ لإسرائيل منعها من الوصول. ونحن نعلم يقيناً من المؤسسات الإنسانية العالمية بأن إسرائيل بالفعل تمنع المساعدات من الدخول. الناس يُقتَلون بالقنص (عندما يحاولون الوصول إلى المساعدات)."
لكنّ المذيعة لا تستسلم. تكرر بلا خجل أنها "تواصلت مع الجيش الإسرائيلي"، فقالوا لها أن المساعدات تدخل، وتضيف "الحقيقة أنكم لن تستطيعوا إدخال هذه المساعدات، فكيف يكون هذا الأسطول مفيداً للناس في غزة؟".
"وهذا خطأ مَن؟"، تجيب غريتا بسرعة. "ذنب مَن هذا؟ (...) السؤال الذي ينبغي أن نسأله ليس "لماذا تذهبون في هذه المهمّة؟" ولكن "لماذا هناك حصار؟ لماذا هناك حاجة لهذه المهمّة أصلاً؟ لماذا لا يوجد مساعدات تدخل؟ لماذا يُحرَم الفلسطينيون عَمداً من سبل الحياة؟ لماذا هم ممنوعون من إنتاج المواد الغذائية؟ لماذا هم ممنوعون من صيد السمك في بحرهم؟".
لكنّ المراسِلة، بكل ما تقمّصها من أخلاق المؤسسات الإعلامية الغربية منذ بدأت تُغطي هذه الإبادة الجنونية، تكمل استغبائنا: "حسناً، نحن نعرف آراءكِ بخصوص أفعال إسرائيل، لكن ما هي آراؤك بخصوص حماس؟ ما زال لديهم رهائن حتى الآن". هنا، تبتسم غريتا وتغمض عينيها للحظة كأنها تفكّر "أها، الآن السؤال الذي أتت لتسأله فعلاً.." ثمّ، بصبر وتمالك شديدَين، تقول: "مجدداً. هناك إبادة تحصل. الفلسطينيون يعيشون تحت قمع خانق. وعندما يكون هناك قوة محتلة، فللناس الحقّ في المقاومة. وهذه ليست "آرائي". إنه القانون الدولي. أنا لا أدعم قتل المدنيين، لكن لنترجم ذلك على غزّة. كم من مئات الألوف قُتلوا وكم حُرموا من الكرامة والإحساس بالعدالة والحرية على يد إسرائيل؟"
تحتاج الناشطة البيئية والسياسية غريتا ثونبرغ لأن تتلفظ أمام هذه المراسِلة ببديهيات كثيرة، منها أنه "ليس معادياً للسامية أن نقول أنه ينبغي ألاّ يُقصَف الناس وألاّ يعيشوا تحت احتلال. أو أن نقول أن الجميع من حقهم أن يعيشوا بحرية وكرامة". هذا أقل ما يمكن لنا فعله.
ليام كانينغهام وفاطِمة أبو دقة
أما الممثل الايرلندي المشهور (بالأخص بدوره في مسلسل "لعبة العروش")، ليام كانينغهام، فشبّه الحصار الإسرائيلي بـ"حصار قروسطي"، مضيفًا: "استخدم البريطانيون أساليب مماثلة ضدنا (الإيرلنديين)، لكن ما يعانيه الفلسطينيون أسوأ بكثير. نشعر وكأننا نعيش داخل قلعة قبل 500 عام بسبب هذا الحصار (...) إنّ جُبن هؤلاء السياسيين يثير اشمئزازي".

وقد اختار في المؤتمر الصحافي المرافق لانطلاق الأسطول أن "يعطي المنبر لأحد الناس من غزّة"، حسب تعبيره. فالإبادة "ليست مسألة أرقام أو قرارات أمم متحدة. إنها مسألة تخصّ الناس"... "لذلك، أودّ أن أعرّفكم على فتاة صغيرة، اسمها فاطِمة[1]، وهي جميلة جداً." يدير كانينغهام هاتفه على الحضور ليلقوا نظرة على وجه طفلة لم تتجاوز السادسة، ويتابع، "فاطمة لديها صوتٌ رائع، سأترككم لتستمعوا إلى غنائها لبضعة دقائق".
يشغّل كانينغهام الفيديو لنسمع الطفلة تنشد:
"رحل الذين نحبهم... وقلوبنا تهواهمُ
رحلوا بدمعة حزننا... وبروحنا ذِكراهمُ"
"الإبادة من المسافة صفر" .. الآن!
06-03-2025
قاعدة بيانات "أول إبادة بالبث المباشر".. من كاميراتهم
24-04-2025
يوقف كانينغهام التسجيل، وبصوت متهدّج، ينبئ الحضور أن ما تفعله فاطمة لم يكن إلا تهيّؤاً "لجنازتها". فهذه الطفلة "توصي بتشغيل هذه الأغنية في عزائها، إذا توفيت. يسأل كانينغهام، "أي نوعٍ مِن العالَم هذا الذي انزلقنا إليه، حتى يقوم أطفال – ملائكة مثل هذه الطفلة – لا تتجاوز أعمارهم الخمس أو ست سنوات، بالتجهيز لجنازاتهم؟ أين يضعنا هذا؟ كيف سينظر أولادنا وأحفادنا إلى هذه المرحلة الفظيعة من تاريخ فصيلنا البشري؟ بأي عينٍ ننظر إلى أحفادنا عندما يسألوننا "كيف سمحتم لهذا بالحدوث؟".. إنه لأمرٌ مقزِّز أن يضطر طفلٌ – أو أي إنسان – لأن يوضَع في مثل هذا الموقف".
يُنهي بالقول، "لن أطيل هذه القصة أكثر.. فمنذ أربعة أيام، قُتِلت فاطِمة. قتلها الإسرائيليون. ثمّة مَن يُنشِد الآن هذه الأغنية فوق جثّة هذه الطفلة."
وسط وجوم خيّم على الحاضرين، يتابع: "ولهذا السبب فهذا الأسطول مهم. كان على الحكومات الأوروبية أن تصنع هذه المراكب. كان عليهم أن ينفوا ضرورة أن نقوم نحن بهذه الرحلة. إن حقيقة أنكم جميعاً هنا، وأن الأسطول سينطلق، ما هو إلا دليل على فشل العالَم في الالتزام بالقانون الدولي والإنساني. هذه مرحلة زمنية مشينة، مشينة تماماً، من تاريخ عالَمِنا. علينا جميعاً أن نشعر بالعار بشكل جماعي. وعلينا أن ننهض بأسرع وقت ونوقف هذا الأمر".
عمال موانئ جنوى: "سنغلق أوروبا"
"أريد أن يكون هذا الأمر واضحاً للجميع. فعلاً، للجميع. بحلول منتصف أيلول / سبتمبر تقريباً، ستكون هذه القوارب والسفن قد وصلت قرب شواطئ غزّة، إلى المنطقة الحساسة. إذا حدث وفقدنا الاتصال برفاقنا لبرهة، ولو لـ20 دقيقة فقط، سنقوم بإغلاق أوروبا بأكملها. لقد كتبتها على يدي كي لا أنسى أن أقولها. معاً، مع نقابتنا، واتحاد كل عمّال الموانئ الذين معنا، ومدينة جنوى بأكملها. من هذه المنطقة، هناك 13 إلى 14 ألف حاوِية بضائع تتجه إلى إسرائيل. لن يصل لهم مسمارٌ واحد، سنعلنُ إضراباً عالمياً. سنقطع كل شيء، سنغلق كل الطرق، سنغلق المدارس، سنغلق كل شيء. الرفاق والرفيقات الذين أبحروا يجب أن يعودوا بدون خدشٍ واحد، وأن يصل كل ما يحملون من الناس إلى الناس (في غزة) حتى آخر صندوق. وهذا كلّ ما لديّ لأقوله".
في مقطع فيديو انتشر بشكل واسع على الإنترنت، يخطب عامل ميناء إيطالي بحشد جماهيري متضامِن مع غزة. كلّما ازدادت لهجته حسماً وشِدة، ارتفعت أصوات الحضور تأييداً. لقد وعدوا أنهم سيغلقون أوروبا. لم يعد أحدٌ بالعصيان، بإغلاق دولنا العربية، حتى اللحظة....
مانديلا الحفيد: "لا حرية لنا بلا الفلسطينيين"
وهذه لمحة أخرى في المقلب الآخر من العالَم. من جنوب أفريقيا، حيث ينضم ماندلا مانديلا، حفيد نيلسون مانديلا، رفقة عشرة جنوب-أفريقيين، مبْحرين ضمن أكبر أسطول مدني لكسر الحصار عن غزة. ما موقفه إلا استكمال لموقف جده، الذي قال يوماً: "نعلم جيداً أن حريتنا لا تكتمل إلا بحرية الفلسطينيين".
في كلمة له الأحد الماضي، يوم انطلاق الأسطول، قال ماندلا مانديلا مخاطباً الحشود في جوهانسبرغ، ومرتدياً قميص المنتخب الفلسطيني لكرة القدم: "نحن فخورون، أيها الرفاق، بأننا استطعنا تعبئة عشرات القوارب للتحرك نحو غزة، بأشخاص من 44 دولة، اجتمعوا معاً. هدفنا ببساطة هو إنهاء الحصار وكسره على غزة. إننا نحمل مساعدات إنسانية يحتاجها الفلسطينيون بشدّة. ملايين في غزة يجوّعون حتى الموت. مَن هم الذين يؤبِّدون العنف؟ مَن هو الطرف الذي يشكّل تهديداً، ليس فقط على الفلسطينيين، ولكن عليكم وعليّ وعلى المجتمع الدولي بأكمله؟ هناك فقط تهديد واحد: إسرائيل الفصل العنصري ونتنياهو ونظامه".

أخيراً..
أمام هذه المواقف المضيئة والشجاعة والواعية والمتواضعة أيضاً – حيث يُقرّ المشاركون أن مجهوداتهم هي أقل ما يمكن فعله لكي لا نتحول إلى متواطئين - لا يجوز لنا إعلان اليأس. هذا ما ندين به لمن بقي يحلم بحياة كالحياة في غزة، يرابط أو ينزح من مدينته التي تُفجِّرها الآن، في هذه اللحظة، روبوتات متفجرة غبية، تحاول إنهاء آخر معاقل الحياة في القطاع، وانتزاع فتيل الأمل الأخير في القلوب. لا يجوز إلا الدفع قُدماً. لنذكِّر أنفسنا أن هذا الأسطول هو جهدٌ شعبي، لا حكومي. من الناس ولهم. وهو الأضخم في تاريخ الأساطيل المدنية لفكّ الحصار. إذاً، لنطالب أنفسنا بالمزيد من هذا الجهد على صعد شتى. براً، بحراً، بكل الطرق. يجب أن تقف هذه الإبادة بأي ثمن...
-
الشهيدة الطفلة فاطمة أبو دقّة. ↑