اليمن: كارثة البناء العشوائي في مجاري السيول

في الثالث والعشرين من آب/أغسطس الفائت، كانت منطقة الحسوة في مدينة عدن، على موعد مع كارثة أمطار غزيرة، وسيول جارفة قادمة من الأودية الشمالية في محافظتي عدن ولحج. كانت تلك السيول متدفقةً بقوة في مجرى وادي الحسيني، مجتاحةً منطقة الحسوة، في طريقها إلى البحر الأحمر عند سواحل خليج عدن. تعرضت أحياء منطقة الحسوة لأضرار بالغة، إذ غمرت المياه كثيراً من أحيائها السكنية غمراً كليّاً، بينما تحوَّل عددٌ من الأحياء الأخرى إلى بحيرات مغلقة على سكانها المحاصَرين فيها، وأجبرت ما يقارب 90 في المئة منهم على النزوح إلى مناطق آمنة.
2025-09-04

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
السيول تجتاح البيوت في اليمن

"طريقُ السّيل للسيل وإنْ طالَ أمَدُه"، مقولةٌ اعتاد اليمنيون على ترديدها، كلما طرأ موقفٌ يجرف فيه السيلُ كل شيء مستحدث في طريقه، إذ يُعبِّرون من خلال هذه المقولة عن حتمية مرور السيل من مجراه المعتاد، مهما تأخر زمنه، ومهما حدث في غيابه من استصلاح زراعي لمجاريه، أو استحداث أبنية عشوائية فيها.

تحظى هذه المقولة بحضور بارز في السنوات الأخيرة، تداعياً مع كثرة المواقف التي تستدعي استحضارها، لتستوعب التعبير عن مستجدات التغييرات المناخية في اليمن، وما يترتب عليها من هطول أمطار غزيرة ورياح عاصفة.

من تلك التغييرات المناخية، ما يتعلق بغزارة الأمطار والسيول الجارفة، التي يشهدها البلد منذ منتصف حزيران/يونيو الفائت، استمراراً إلى المنخفض الجوي شديد التعقيد، الذي مر به اليمن في الثلث الأخير من آب/ اغسطس 2025، وما أفضى إليه من آثار كارثية، شملت كثيراً من المناطق والمحافظات اليمنية، مخلِّفاً ضحايا وأسر فقدت المأوى. إذ تشير وسائل الإعلام إلى أن عدد ضحايا الأمطار والسيول في اليمن، خلال الأيام الأولى من هذا المنخفض، قد بلغ قرابة 15 شخصاً على أقل تقدير، مع أضرار كبيرة في كثير من المنازل والممتلكات[1].

كارثة منطقة "الحسوة"

في الثالث والعشرين من آب/أغسطس الفائت، كانت منطقة الحسوة في مدينة عدن، على موعد مع كارثة أمطار غزيرة، وسيول جارفة قادمة من الأودية الشمالية في محافظتي عدن ولحج. كانت تلك السيول متدفقةً بقوة في مجرى وادي الحسيني، مجتاحةً منطقة الحسوة، في طريقها إلى البحر الأحمر عند سواحل خليج عدن.

تتبع منطقة الحسوة إداريّاً مديرية البريقة، وسبق أن أعلنتْها الحكومة اليمنية رسميّاً في 2006 محمية طبيعية، كما منحتْها الأمم المتحدة عام 2014 جائزة "خط الاستواء"، تقديراً لما يُبذَل فيها من جهود ملموسة في حماية التنوع الحيوي، حتى انتقلت بها السيول الكارثية الأخيرة إلى حالٍ مغايرة، إذ أعلنتْها السلطة المحلية منطقة منكوبة.

كشفت الكارثة عن هشاشة البنية التحتية، التي لم تكن مستعدة بما يكفي من التجهيزات للتعاطي مع هذه الحال الطارئة، إذ لا مركز إنذار مبكر في المدينة، ولا لجنة طوارئ متخصصة في مواجهة الحالات المدارية والمنخفضات الجوية، ولا جهود رسمية مسْبقة، تتولى حشد إمكانيات الدفاع المدني والجهات المختصة، لتصفية مجاري الأودية من الأتربة والأشجار والعوائق، التي تعترض السيول فتتحول إلى كارثة مدمرة.

مرت عدة عقود على آخر مرة تعرضت فيها المنطقة لمثل هذه السيول الجارفة، وجاءت بعدها موجات متلاحقة من الجفاف، أغرت بعض المواطنين ببناء منازلهم في مجاري السيول، في ظل رقابة رسمية ضعيفة، وغياب المخططات العمرانية المبنية على دراسات جغرافية متخصصة.

تعرضت أحياء منطقة الحسوة لأضرار بالغة جراء تلك السيول الجارفة، إذ غمرت المياه كثيراً من أحيائها السكنية غمراً كليّاً، بينما تحوَّل عددٌ من الأحياء الأخرى إلى بحيرات مغلقة على سكانها المحاصَرين فيها. وتحت وطأة الكارثة، أطلق السكان نداءات استغاثة طلباً للمساعدة والإنقاذ من السيول التي تدفقت إلى منازلهم بكثافة، وأجبرت ما يقارب 90 في المئة منهم على النزوح إلى مناطق آمنة. بينما لم تظهر إحصائية دقيقة عن الأضرار البشرية، سوى ما ورد في تصريح للشرطة، أعلنت فيه عن عثورها على جثة مواطن من قاطني تلك المنطقة توفيَ غرقاً في مياه تلك السيول.

مقالات ذات صلة

تنوّعت صور الكارثة، إذ جرفت السيول عدداً من المركبات والسيارات، وأتلفت البضائع في كثير من المحلات التجارية، وأحدثت شللاً شبه كاملٍ لحركة السير في شوارع المنطقة وتقاطعاتها الرئيسة. كما تسببت في قطع إمدادات مياه الشرب عن كثيرٍ من مناطق مدينة عدن، بعد أن طالت الأضرار جزءاً من الخط الواقع بين مدينتي الشعب والحسوة، وفقاً لما ورد في تصريح المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي بمحافظة عدن، الذي أعلنت فيه عن توقف تموين المياه، بسبب تعرض الخط الرئيس لأضرار السيول الجارفة([2]).

السلطة وهشاشة البنية التحتية

كشفت الكارثة عن هشاشة البنية التحتية، التي لم تكن مستعدة بما يكفي من التجهيزات للتعاطي مع هذه الحال الطارئة، إذ لا مركز إنذار مبكر في المدينة، ولا لجنة طوارئ متخصصة في مواجهة الحالات المدارية والمنخفضات الجوية، ولا جهود رسمية مسْبقة، تتولى حشد إمكانيات الدفاع المدني والجهات المختصة، لتصفية مجاري الأودية من الأتربة والأشجار والعوائق، التي تعترض السيول فتتحول إلى كارثة مدمرة.

وبذلك، فقد جاء التعاطي الرسمي مع هذه الكارثة متّسقاً مع حاله تلك، إذ قامت فرق الدفاع المدني بإخلاء المنكوبين، واضطرت السلطات إلى فتح المدارس الحكومية لاستقبالهم، كما وجهت نداءً عاجلاً إلى المنظمات الدولية، للمساعدة في توفير ما يحتاجون إليه من مأوى ودعم لوجستي ومواد غذائية. كذلك، قام محافظ محافظة عدن بزيارة لهؤلاء المتضررين، واستمع إلى احتياجاتهم العاجلة، مؤكداً حرص السلطة المحلية على تقديمها، من خلال التنسيق مع الجهات ذات العلاقة. كما دفعت السلطة المحلية بعدد من المعدات الثقيلة إلى مجرى السيل، لفتح مجرى المياه، وتخفيف أضرار الكارثة([3]).

الجفاف والبناء العشوائي

أعادت كارثة منطقة الحسوة إلى أذهان المعمِّرين من أبنائها مشاهد مماثلة لها، إذ أكّدوا أن مثل هذه الأحوال المأساوية، كانت تحدث قبل ما يقارب نصف قرن. من مثل تلك الفيضانات التي تعرضت لها المنطقة نفسها عام 1982، واستقرت في ذاكرتهم الشعبية حدثاً مذهلاً، لم يتكرر إلا الآن.

مرت فترة زمنية طويلة على آخر مرة تعرضت فيها المنطقة لمثل هذه السيول الجارفة، وجاءت بعدها موجات متلاحقة من الجفاف، أغرت بعض المواطنين ببناء منازلهم في مجاري السيول، في ظل رقابة رسمية ضعيفة، وغياب المخططات العمرانية المبنية على دراسات جغرافية متخصصة. وبذلك، تشكّلت كتلٌ من البناء العشوائي، الذي استوى مدناً سكنية في مجرى الوادي الكبير في منطقة الحسوة. وحينما شملتها التغييرات المناخية الأخيرة، استعادت هذه المنطقة مناخها الممطِر، بغزارةٍ فاضتْ سيولاً جارفة، تدفقت في مجاريها المعتادة، فاصطدمت بتلك المساكن العشوائية.

تحذيرات ولا مبالاة

على الرغم من أن هذه المأساة كانت مسبوقة بتحذيرات من كارثة قادمة، إلّا أن تلك التحذيرات لم تحظَ بما يكفي من الاهتمام والاستعداد لمواجهة الكارثة. فقبل سنوات أطلق عدد من المختصين والخبراء التحذيرات من مخاطر البناء العشوائي في مجاري السيول، وبوجه خاص في مرتفعات شبه جزيرة عدن التاريخية، التي تشمل مديريات: صيرة، والمعلا، والتواهي. وشبه جزيرة عدن الصغرى، التي تشمل: مديرية البريقة، والوادي الكبير بمساحته المنبسطة في منطقتي الحسوة والشعب.

ومثل ذلك، هي الوثيقة التي قدمتْها وزارة الزراعة والري إلى الجهات الرسمية، في أيلول/ سبتمبر 2023. تلك الوثيقة المعنونة بـ"تفادي الكارثة"، المتضمِّنة تحذيراً من تكرار كارثة مدينة درنة الليبية في مدينة عدن، للتشابه بين حالي المدينتين، في عشوائية البناء في مجاري السيول. كما اقترحت التنسيق مع السلطات في محافظتي عدن ولحج، لتجنب المخاطر والعمل على تفادي الكارثة[4].

التحذيرات المستندة الى دراسات علمية دقيقة، لم تلقَ أذناً صاغية. وعلى ذلك، لا تزال هذه التحذيرات قائمة، ومُعزَّزَةً بتحذيرات جديدة من القادم، الذي سيكون أكثر سوءًا ودماراً، إن لم تتُخذ الإجراءات اللازمة، الكفيلة بمواجهة ما يُتَوَقّع حدوثه من كوارث مشابهة، ذات ارتباطٍ مباشر بتداعيات التغييرات المناخية في اليمن.

وفي السياق التحذيري نفسه، تأتي الدراسة العلمية، المعنونة بـ"النمذجة الهيدرولوجية لتقييم مخاطر السيول وتخفيف حدّتها باستخدام تقنيات الاستشعار عن بُعد ونظم المعلومات الجغرافية ــ دراسة حالة محافظة عدن"، التي نفّذتْها الهيئة اليمنية للمساحة الجيولوجية والثروات المعدنية في عدن، بالتنسيق مع السلطة المحلية وتحت إشراف وزارة المعادن[5].

شملت تلك الدراسة مديريات عدن كافة، وحذّرت بوضوح من سيناريو كارثي قادم، استناداً إلى تحليلها للخصائص المورفومترية والهيدرولوجية لأحواض التصريف، كما قدّرتْ أحجام السيول وتدَفُّقَ الذروة وزمن وصولها. وقدمت مقترحات علمية، للحد من المخاطر في الأودية المشمولة بالدراسة، لا سيما الوادي الكبير في منطقة الحسوة.

كل تلك التحذيرات لم تلق أذناً صاغية، فكانت الكارثة المأساوية في منطقة الحسوة. وعلى ذلك، لا تزال هذه التحذيرات قائمة، ومُعزَّزَةً بتحذيرات جديدة من القادم، الذي سيكون أكثر سوءًا ودماراً، إن لم تتُخذ الإجراءات اللازمة، الكفيلة بمواجهة ما يُتَوَقّعُ حدوثه من كوارث مشابهة، ذات ارتباطٍ مباشر بتداعيات التغييرات المناخية في اليمن.

______________________

  1. سمير حسن، "يمنيون للجزيرة نت: سيول اليمن غير مسبوقة وهي الأشد منذ عقود". الجزيرة نت، 25 أغسطس/ آب 2025، متاح على الرابط:

    https://shorturl.at/R7x55 

  2. "سيول الحسوة تتسبب بتوقف تموين عدن بالمياه من حقل بئر أحمد". صحيفة الوطن العدنية، 23 أغسطس/ آب 2025. متاح على الرابط:

    https://al-wattan.net/news/293879

  3. محمد ماش، "بعد كارثة السيول في الحسوة.. دفع معدات ثقيلة لفتح السيل وإنقاذ المتضررين في عدن". موقع بوابة عدن. 24 أغسطس/ آب 2025. متاح على الرابط:

    https://aden-gate.net/?p=44890

  4. بديع سلطان، "كارثة الحسوة بعدن.. السيل لا ينسى مجراه". موقع المشاهد، 25 أغسطس/ آب 2025. متاح على الرابط:

    https://almushahid.net/132422/

  5. "عدن.. سيول جارفة تغمر منازل الحسوة وتجبر السكان على الإخلاء". موقع يمن مونيتور. 23 أغسطس/ آب 2025. متاح على الرابط التالي:

    https://www.yemenmonitor.com/Details/ArtMID/908/ArticleID/148275

مقالات من اليمن

نساء "جبل صبر" في اليمن

حافظت الثقافة الاجتماعية السائدة في جبل صَبْر، على تقبّلها لعمل المرأة، وعدم النظر إليه نظرة انتقاص أو دونية، بل والاعتراف بدوره الأساسي في العائلة. وهن يتملكن الاراضي والعقارات، ليس وراثة،...

للكاتب نفسه

نساء "جبل صبر" في اليمن

حافظت الثقافة الاجتماعية السائدة في جبل صَبْر، على تقبّلها لعمل المرأة، وعدم النظر إليه نظرة انتقاص أو دونية، بل والاعتراف بدوره الأساسي في العائلة. وهن يتملكن الاراضي والعقارات، ليس وراثة،...

مطاعم بكادر نسائي في اليمن

بعد اندلاع الحرب في 2015، وبسبب الواقع اليمني الجديد المنهك بصعوبات المعيشة، انتقلت النساء بصناعاتهن المنزلية إلى الفضاء العام، فانتشرت محلات نسائية خاصة بتلك الاعمال، ومنها صناعة المنتجات الغذائية. فمن...