النزوح أو البقاء في غزة.. خياران لموتٍ واحد

نقف الآن جميعاً أمام خياريْن، أمام اللحظة الصعبة، بين موتٍ وموت. أسأل نفسي كثيراً على مدار الأسبوع الماضي الذي قضيته في القلق والتفكير والتأمل: لماذا عليَّ أن أعيش في أقلّ من عاميْن كُل هذه التفاصيل والاختيارات، ليس لشيءٍ إيجابي أو جيّد، وإنما لمجرد أن أعيش. تَكرار المشهد نفسه: إمّا البقاء وإمّا النزوح. مرّةً من غزّة حتى شرقها، ومرةً من الشرق إلى رفح، ومن رفح إلى مكانٍ آخر داخلها، ومرةً أُخرى من رفح إلى الوسط، حيث دُمّرت المدينة.
2025-09-03

المقداد جميل مقداد

كاتب وباحث من غزة


شارك
"الخيمة زميلة الفلسطيني". العزيز عاطف - فلسطين

تقول فيروز: "النهايات مش دايماً سعيدة". كثيراً ما كنتُ أستمع لصوتها وهو يُردد هذه الكلمات. أقول في نفسي: لماذا؟ أتخيّل أن النهايات غير السعيدة، هي تلك التي يفترق فيها الأحبة، وتنتهي القصص في نقطةٍ مأساوية، كما كُنا نراها في المُسلسلات قديماً. الآن يُمكن أن ننظر إلى القصّة بشكلٍ آخر. يُمكن تركيب الكلمات بطريقةٍ مُختلفة. ماذا عن المُدن؟ البلاد التي تهلك وتُباد وتنتهي، يراها عُشاقها تدريجياً تختفي؟. أليست هذه هي النهاية الحقيقيّة، التي يُقال عنها: "مش دايماً سعيدة"؟

تختفي غزّة الآن أمام أعيننا جميعاً. عيون أهلها، نحنُ، الذين نوضع في أصعب موقف، وعيون الناس المُشاهدين في مسلسل الموت الطويل المُمتد لأكثر من عاميْن.

أعيشُ في المناطق الغربية لمدينة غزّة، وعليَّ الآن المفاضلة بين خياريْن، كلاهما موت. إمّا الموت البطيء بالنزوح والهرب نحوَ جنوب القطاع، حيثُ يسعى جيش الاحتلال إلى إخلاء كُلّ السكان سعياً إلى تنفيذ عمليته العسكريّة، التي يُهدّد بها منذُ أكثر من شهر، وإمّا الموت السريع، بالبقاء في مكاننا. نُقصف أو نُحاصَر ونجوع، تُدمَّر البيوت فوقنا، وتقتلنا الروبوتات المتفجّرة، وتفسِّخُ أجسادنا.

نقف الآن جميعاً أمام خياريْن، أمام اللحظة الصعبة، بين موتٍ وموت. أسأل كثيراً على مدار الأسبوع الماضي الذي قضيته في القلق والتفكير والتأمل: لماذا عليَّ أن أعيش في أقلّ من عاميْن كُل هذه التفاصيل والاختيارات، ليس لشيءٍ إيجابي أو جيّد، وإنما لمجرد أن أعيش. تَكرار المشهد نفسه: إمّا البقاء وإمّا النزوح. مرّةً من غزّة حتى شرقها، ومرةً من الشرق إلى رفح، ومن رفح إلى مكانٍ آخر داخلها، ومرةً أُخرى من رفح إلى الوسط، حيث دُمّرت المدينة.

من السخرية أن الجيش الإسرائيلي، الذي يُدرك هذه الكارثة ويعرف أنها مشكلة، نشر مؤخراً خريطةً حدد فيها عدداً معيّناً من قطع الأراضي، لا تزيد على 7 قطع، قال إنه أجرى مسحاً لها، ويؤكد للناس أنّها مناطق صالحة ليعيشوا فيها. يُريد نقل أكثر من مليون شخص إلى أراضٍ صغيرة بسيطة، رُبما لن تتسع لربعهم، ويقول ذلك لكل العالم ببساطة وسهولة.

كلنا نتخيّل أن الحياة يُمكن أن تكون صعبة. لكن هل بهذه الصعوبة؟ تتكرّر المشاهد بطريقة بشعة جداً. يتكرّر القلق والخوف والتفكير. تكرار، تكرار، وتكرار. تغفو للحظة على فراشك، بعد الهدنة، فتظُن أنّ كلّ هذا انتهى الآن. الموت أقلّ، والنزوح رُبما صار فكرة مستبعَدة. تمضي الأشهر، فيعود الشبح نفسه من جديد، بطريقة أصعب، شبح كبير، خوف، تهديد، غارات في كُل مكان، مدفعية تقصف، عمليات نسف، قلق، نوم متقطّع، استيقاظات متكرّرة على صوت الطيران، واهتزاز البيت من عمليات النسف، والقلق الذي يأكلُ الأجساد ببطء.

أعيش الآن غرب المدينة، وجيش الاحتلال يتقدّم من شرقها وشمالها إلى قلب المكان. يحاول الآن دفع الناس إلى النزوح إلى جنوب القطاع. المساحة في الجنوب ضيّقة جدًا، حيث يوجد جيب ساحلي صغير، يمتد من مخيم النصيرات ثم مدينة دير البلح وحتى مواصي خانيونس، وهي بقايا مُدن، وليست مدنًا بأكملها. النصيرات مخيم صغير جداً، يتكون من شارع واحد، ودير البلح مدينة ريفية نقول عنها: "شارعين بس"، ومواصي خانيونس أرض قاحلة جرداء، أراضٍ صحراوية من الرمال التي اختلطت بالصرف الصحي على مدار سنتيْن من الحرب، ولم تعد صالحة للحياة. لكن على الرغم من ذلك، هناك من يعيش فيها. 

في هذا الجيب، يعيش النازحون من رفح، ومن خانيونس، ومن المناطق الشرقية لمحافظة وسط القطاع، وجزء غير بسيط نازح من محافظتي غزة والشمال، بعضهم فضّل عدم العودة بداية العام إلى الشمال، وبعضهم نزحَ لاحقاً. فأين سينزح مليون و200 ألف شخص؟ هؤلاء نحن. أين سنذهب؟

من السخرية أن الجيش الإسرائيلي، الذي يُدرك هذه الكارثة ويعرف أنها مشكلة، نشر مؤخراً خريطةً حدد فيها عدداً معيّناً من قطع الأراضي، لا تزيد على 7 قطع، قال: إنه أجرى مسحاً لها، ويؤكد للناس أنّها مناطق صالحة لعيشوا فيها. يُريد نقل أكثر من مليون شخص إلى أراضٍ صغيرة بسيطة، رُبما لن تتسع لربعهم، ويقول ذلك لكل العالم ببساطة وسهولة. 

فنّدتْ كثيرٌ من المؤسسات ووسائل الإعلام هذه الخريطة، فبعض المناطق التي وردتْ فيها، تقع ضمن مناطق يصنفها جيش الاحتلال بـ"غير الآمنة" أو "حمراء" في خرائطه، وكل من يدخلها يتعرض لخطر الاستهداف المُباشِر، وبعضها الآخر منطقة زراعية فيها مزروعات تصعب إزالتها، خاصّة في ظلّ معاناة طويلة من الجوع، ومحاولة بعض الناس الاعتماد على الزراعة للأكل، والبعض الآخر فيه مكب نُفايات - يُريدونا أن نعيش بين النفايات! -، وغيرها هي مناطق مليئة بالركام والدمار، تصعب إزالتها مع عدم وجود مُعدات، إذ يمنعها الاحتلال منذُ بداية العام.

هذا لو قرّرنا أننا سنقبل بالواقع على الرغم من سوئه، وأننا سنحاول تنفيذ ما يحاول الاحتلال ترويجه. لكن الكارثة الأكبر، التي يعرفها العالم كله، أن كلّ النازحين في هذه المناطق، يعيشون في خيام ومخيمات وفي الشوارع. خيمة في الشارع، معها حمام بدائي يتم إنشاؤه بسرعة، وخرطوم للصرف الصحي يؤدي إلى الأرض، ويزيد من كارثة التلوث والأمراض. ويتكرّر النموذج في مئات وآلاف الخيام، في كل المناطق التي تعيش هذه الحال.

العالم يتعامل مع حياتنا في الخيمة كأنّها "شيء طبيعي مفروغ منه"، فيحاول تحسين طبيعة هذه الحياة. مثلًا: يتحدث عن رفض النزوح وخطورته، لأنّ الناس لا يملكون تكلفة النزوح، التي زادت على 1000 دولار للسيارة الواحدة، أو على تكلفة استئجار أرض للنزوح فيها، والتي تزيد على المبلغ ذاك، أو حديثه عن إيجارات المنازل، التي تفوق الألفي دولار أحياناً، عدا حديثه عن عدم توافر المعدات والموارد والخيم والشوادر. بطريقة أُخرى، هو يقول: إنه يقبل نزوح الناس، ويقبل عيشهم في خيمة، فهذا أمر مفروغ منه، لكنهُ يريد تحسين الظروف.. الحقيقة أنّ حياة الخيمة بكلّ ما فيها، لا تقترب من الحياة البشرية وليس لها معها أيّة صلة. حياة لا تعني سوى الذُل وامتهان الكرامة وقتل روح الإنسان ببطء.

لو قرّرنا أننا سنقبل بالواقع على الرغم من سوئه، وأننا سنحاول تنفيذ ما يحاول الاحتلال ترويجه... لكن الكارثة الأكبر، التي يعرفها العالم كله، أن كلّ النازحين في هذه المناطق، يعيشون في خيام ومخيمات وفي الشوارع. خيمة في الشارع، معها حمام بدائي يتم إنشاؤه بسرعة، وخرطوم للصرف الصحي يؤدي إلى الأرض، ويزيد من كارثة التلوث والأمراض. ويتكرّر النموذج في مئات وآلاف الخيام، في كل المناطق التي تعيش هذه الحال. 

أقف شخصياً أمام مُفترق طرق، بين رغبتي في البقاء، وعدم قُدرتي على تكرار مُسلسل النزوح، وتأسيس حياة جديدة في مكانٍ آخر، حياة تقوم على البدائية البحتة. النزوح المُذل والمُهين، الذي يفترض منكَ أن تعود إلى الدائرة نفسها، والسؤال نفسه: "وين نروح؟".. وسؤالٌ آخر: كيف يُمكن أن تتسع حقيبة لكلّ تفاصيل البيت؟ ماذا نأخذ؟ كيف نحملها؟ وهل سنعود؟ هذه الأسئلة، هي الأسئلة الوجوديّة بالنسبة إلى الإنسان الغزّي اليوم، ولا شيءَ غيرها في ذاكرته.

ولا نزال لا نعرف مصيرنا حينَ نُقرر البقاء ورفض النزوح. فما حدث في حي الصطفاوي وحي أبو إسكندر قبل أسبوع، أكبر مثال للواقع. دخلت الدبابات وقصفت المكان فوق الناس، وأجبرت من بقي على لملمة أغراضه والهرب. يحاول الناس الآن في غزة فرض واقع آخر، فيما يدعو الاحتلال إلى الهرب نحو جنوب القطاع، فيُغادر الأغلب إلى المناطق الغربية، ويمتدون نحو الشمال بدلاً من الجنوب، في مناطق قاحلة وسيئة ومدمّرة أيضاً، لكنهم على الأقل يقولون: لا نزوح إلّا في داخل غزّة، وليس إلى الجنوب. فهم يعرفون احتمالات هذا النزوح الطويل، الذي بقينا فيه لأكثر من عامٍ، ننتظر عودتنا وزوال ممر "نيتساريم" في كانون الثاني/ يناير الماضي. 

وفي المقابل، ينزح عدد آخر من الناس جنوباً، فالخوف والهرب هُما مصيرنا، يبحث بينهما الناس عن محاولة قصيرة للأمان... وجميعنا يعرف، أن الموت هنا وهناك، لكن احتمالاته في كلّ مكان تبدو أحياناً أضعف أو أقلّ.. ورُبما هو تأجيلٌ مؤقّت للموت فقط.

مقالات من فلسطين

وفي الضفة الغربية..

2025-08-28

وماذا يوقفهم عن فعل ذلك، وقدّ تضاعفت جرأتهم مع إجرامهم، في كنف حكومة اسرائيلية إبادية رسمياً وعلناً، وفي ظل صمت وغض بصر من الجيران العرب لفلسطين، لا يمكن وصفه إلا...

مخيم جنين بين نزوحين

موقع "حبر" 2025-08-21

نزح حوالي 22 ألفًا من أهالي المخيم نحو قرى المدينة، بحيث بات المخيم اليوم فارغًا من السكان. يسكن حوالي أربعة آلاف منهم في منطقة برقين، ومثلهم تقريبا في سكنات الجامعة...

للكاتب نفسه

مساعدات ل"إنقاذ الحرب"

لا أستطيع أن أرى في هذا المشهد، وهذه المساعدات، إلّا أنها إنقاذ للحرب، إنقاذ لكلّ الأطراف. أولاً لإنقاذ الحرب من فكّ الاعتراض الدولي والأصوات المستنكِرة، ثانياً لإنقاذ إسرائيل من جريمة...