تزامنا مع انطلاق أشغال تمديد خط القطار فائق السرعة (البُراق) من القنيطرة (غرب المغرب) إلى مراكش في نيسان /أبريل 2025، تصاعد النقاش حول التفاوت التاريخي، في تطوير شبكة السكك الحديدية بين شمال المغرب وجنوبه. إذ حظيت المناطق الشمالية والغربية منذ الحقبة الاستعمارية بالأولوية في مد الخطوط الحديدية. بينما ظلت مناطق الجنوب (وخاصة مناطق سوس والجنوب الشرقي) خارج الحسابات التنموية عقوداً طويلة، إذ لم يصلها القطار، بالرغم من الوعود المتكررة بربطها بالشبكة. ويُنظر إلى هذا التأخر والتأجيل في ربط الجنوب بالسكك الحديدية، بوصفه أحد نتاجات الإرث الاستعماري، الذي رسّخ هوة مجالية استمرتْ إلى ما بعد الاستقلال.
السكة في خدمة المستعمِر
ظهرت أولى خطوط السكك الحديدية في المغرب نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين. لكن البداية الفعلية والرسمية لها كانت عام 1911، وارتبطت آنذاك بالأهداف العسكرية والاستراتيجية للقوى الاستعمارية (الإسبانية والفرنسية). إذ شُيِّد جزء كبير من هذه السكك خلال فترة "الحماية الفرنسية" (1912–1956)، بغرض نقل الموارد إلى الموانئ. وركَّزت الإدارة الاستعمارية على ربط المدن الرئيسية والمناطق الغنية بالموارد في الشمال والوسط، مثل خط طنجة - فاس الذي اكتمل سنة 1927، وخط الدار البيضاء – فاس -وجدة الذي ربط شرق المغرب بغربه، إضافة إلى خطوط فرعية نحو مناطق استخراج المعادن والفوسفات (من مثل: خط ابن كرير- خريبكة الذي أنجز في العام 1925 لخدمة مناجم الفوسفات).
احتجاجاتُ الجبلِ تكشف الفجوة بين مَغربَيْنِ
14-08-2025
ورث المغرب شبكة سكك حديدية محدودة إبان استقلاله، تمتد من مراكش جنوباً إلى وجدة شرقاً عبر محور ساحلي - داخلي يمر بالدار البيضاء والرباط وفاس. ولم تنْصب جهود توسيع السكك سوى على تحسين الخطوط القائمة، وربط بعض الفروع الجديدة في الشمال والوسط. فعلى سبيل المثال، أُنجز ربط مينائي آسفي والجرف الأصفر بخطوط سككية لنقل المعادن والمواد الخام. لكن المناطق الواقعة جنوب مراكش، وعلى رأسها مدينة أكادير، ظلت خارج التغطية السككية بشكل تام.
القطار السريع لا يزال متأخراً
يبدو أن المخطط السككي المستقبلي للمغرب طموح نوعاً ما، على الرغم من التأخر الذي يعتريه. فالبلد يهدف إلى إحداث 1300 كيلو متراً من الخطوط فائقة السرعة و3800 كيلو متراً من الخطوط التقليدية، ما سيمكِّن من ربط 43 مدينة بالقطار بدلاً من 23 حالياً، وتوسيع التغطية السكانية من 51 في المئة إلى حوالي 87 في المئة. ويُشكِّل القطار فائق السرعة مراكش - أكادير (التي جي في) واحداً من أبرز المشاريع التي تندرج ضمن هذه الخطة.
بيد أنه لا يزال هذا المشروع السككي (مراكش - أكادير) حبيس الدراسات التقنية، إذ تم إنجاز دراسة أولية سنة 2025، امتدت طوال ثلاثة أشهر، خلصت إلى تقديرات أولية للكلفة وتحديد الخطوط الكبرى للمسار. وتشير المعطيات إلى أن المسار المقترح، الممتد على حوالي 240 كيلو متراً عبر جبال الأطلس (مقارنة بـ260 كلم عبر الطريق السريع)، سيتطلب إنجاز أنفاق وجسور لعبور التضاريس الجبلية. كما أن هذا المشروع لا يزال في طور إعداد وتنفيذ قوانين ومراسيم نزع الملكية، التي نجحت في نزع ملكية قطعة أرضية تبلغ مساحتها حوالي 16 هكتاراً في الحي المحمدي بأكادير، بغية تشييد محطة القطار فائق السرعة.
ركَّزت الإدارة الاستعمارية على ربط المدن الرئيسية والمناطق الغنية بالموارد في الشمال والوسط، مثل خط طنجة - فاس الذي اكتمل سنة 1927، وخط الدار البيضاء – فاس -وجدة الذي ربط شرق المغرب بغربه، إضافة إلى خطوط فرعية نحو مناطق استخراج المعادن والفوسفات (من مثل: خط ابن كرير- خريبكة الذي أنجز في العام 1925 لخدمة مناجم الفوسفات).
التكلفة الإجمالية لهذا المشروع عالية جداً، تصل إلى حوالي 50 مليار درهم مغربي (حوالي 5 مليار دولار)، وهو ما دفع السلطات إلى التفكير في صيغ تمويل مبتكَرة تقوم على شراكات بين القطاعين العام والخاص. وقد شدد المكتب الوطني للسكك الحديدية على أن الشروع في التنفيذ يبقى رهيناً بإيجاد حلول مالية كفيلة بتغطية هذا الاستثمار الضخم.
على الرغم من حضور هذه الخطوات التقنية والقانونية البطيئة، إلا أن الجدولة الزمنية لمشاريع السكك في البلد لا تزال تُرجِئ الربط الفعلي للجنوب. فملف الترشيح المشترك لكأس العالم 2030 (الذي سيستضيفه المغرب مع إسبانيا والبرتغال)، أظهر أنه بحلول ذلك العام، سيتم تمديد شبكة القطارات السريعة إلى مدن مثل فاس ومراكش، وربط مدن جديدة من قبيل تطوان ومكناس بخطوط عادية أو سريعة، بينما لا يتضمن أي مشروع لربط أكادير بالقطار قبل 2030. وهذا يعني أن أكادير سيتم ربطها بهذا القطار في السنوات التي ستلي تظاهرات المونديال، أي أنها ستظل حتى ذلك الحين، تعتمد على الطريق السريع والمطار كسبل عملية للربط بباقي المناطق.
التضاريس هي السبب؟
في العقود الماضية، تم تبرير تأخر إنشاء القطارات إلى الجنوب بصعوبة التضاريس، فعبور القطارات إلى هذه المناطق الزاخرة بالجبال والهضاب العصية ليس كعبورها في السهول الغربية والشمالية الأقل حدة من مثيلاتها في الجنوب. وهذا ما يجعل إنجاز خط قطار فائق السرعة بين مراكش وأكادير مشروعاً معقداً ومكلفاً من كافة النواحي.
يحتاج هذا المسار إلى أنفاق طويلة، لتقليل الانحدار إلى المستوى المسموح به للقطارات السريعة، وإلى جسور عالية لعبور الأودية، علاوة على إنشاء منشآت إسمنتية لحماية الخط السككي من السيول الموسمية، فضلاً عن صعوبات الحصول على التراخيص البيئية وتسوية الملكيات العقارية. في هذا السياق، أشارت بعض التقديرات الصحافية إلى أن المشروع قد يتطلب حوالي 37 كيلو مترا من الأنفاق. أما الجنوب الشرقي فمشكلته مضاعَفة، إذ يحضر مشكل العامل العمراني والسكاني، لأن مدن هذه المنطقة متباعدة وكثافتها السكانية ضعيفة مقارنة بالشمال والغرب.
لكن التحديات لا تقف عند حدود التضاريس. إذ إن الهندسة المالية بدورها أصعب، كلما زادت كيلومترات الأنفاق والجسور التي تزيد من كلفة الإنجاز. لذا تمنح الجهات المموِلة والمقرِضة الأولوية لمشاريع ناجعة، مثل المحاور السككية المتمركزة في الشمال والغرب، لأنها تخدم مناطق ذات ثقل اقتصادي وسكاني، وتحقق عوائد أسرع، عكس مشاريع الربط بالمناطق الجنوبية الموسومة بالتعقيد.
السكك تُمَدّ حيثما وُجدت المصالح
يبدو أن مسارات السكك الحديدية في المغرب لا تستهدف تحقيق العدالة المجالية والمناطقية، بقدر ما تسير خلف المال والمصالح الاقتصادية وتَركُّز نشاطاتها. ولفهم هذا السياق، يمكن الاستدلال هنا بتجربة ميناء طنجة. ففي أقل من عقدين، تحوّل إلى أكبر ميناء للحاويات في إفريقيا، التي تجاوزت حركة نشاطاته من 8.6 ملايين حاوية سنة 2023 و10 ملايين سنة 2024. لذا كانت مسألة ربط هذا الميناء بشبكة سككية قوية خياراً لا يقبل التأخير أو التأجيل، لأن الميناء لم يعد مجرد منفذ بحري عادي، بل تحول إلى منصة وطنية ودولية للتصدير واللوجستيك، فصارت سياسات النقل الداخلية تولي أولوياتها لخدمته وخدمة المحاور المنتجة صناعياً.
يبدو أن المخطط السككي المستقبلي للمغرب طموح نوعاً ما، على الرغم من التأخر الذي يعتريه. فالبلد يهدف إلى إحداث 1300 كيلو متراً من الخطوط فائقة السرعة و3800 كيلو متراً من الخطوط التقليدية، ما سيمكِّن من ربط 43 مدينة بالقطار بدلاً من 23 حالياً، وتوسيع التغطية السكانية من 51 في المئة إلى حوالي 87 في المئة. ويُشكِّل القطار فائق السرعة مراكش - أكادير (التي جي في) واحداً من أبرز المشاريع التي تندرج ضمن هذه الخطة.
التكلفة الإجمالية لتوسعة مشروع القطار فائق السرعة عالية جداً، تصل إلى حوالي 50 مليار درهم مغربي (حوالي 5 مليار دولار)، وهو ما دفع السلطات إلى التفكير في صيغ تمويل مبتكَرة تقوم على شراكات بين القطاعين العام والخاص. وقد شدد المكتب الوطني للسكك الحديدية على أن الشروع في التنفيذ يبقى رهيناً بإيجاد حلول مالية كفيلة بتغطية هذا الاستثمار الضخم.
يُؤكّد هذا المعطى مع صعود صناعة السيارات، التي صارت القطاع الصناعي الأول في المغرب وإفريقيا. إذ تنتج مصانع "رونو" بطنجة و"ستيلانتس" بالقنيطرة و"سوماكا" بالدار البيضاء مئات الآلاف من المركبات سنوياً، أغلبها يُوجَّه إلى أوروبا عبر ميناء طنجة المتوسط. ففي عام 2024 وحده، صُدّر أكثر من 600 ألف مركبة عبر هذا الميناء. خلقت هذه الدينامية طلباً متنامياً على النقل السريع، سواء لنقل اليد العاملة أو لربط المنصات الصناعية بالموانئ، ما جعل الاستثمار في السكك داخل هذا المحور مضمون العائد للجهات المموِلة.
ونتيجة لذلك، تتضح العلاقة الوثيقة بين تمركز النشاط الاقتصادي وحضور القطار السريع، فَحِينَ يسود قطاع نشط ومربح، يصبح من السهل إقناع المؤسسات المقرِضة والمانحة بتمويل البنية التحتية التي تخدمه. ولهذا أسهمت هذه الجهات، مثل البنك الأوروبي للاستثمار والبنك الدولي وبنك التنمية الألماني، في تمويل توسعة الشبكة في محور طنجة – القنيطرة - الدار البيضاء، حيث تتركز المصالح الصناعية والتجارية.
وليس مفاجئاً أن نرى فرنسا تسارع خطاها إلى تمويل التوسعة السككية عبر قرض بقيمة 780 مليون يورو، لاقتناء 18 قطاراً فائق السرعة من Alstom Avelia Horizon، من أجل تمديد الخط إلى مراكش قبل مونديال 2030، كآلية لضمان استمرار نفوذها التاريخي – الاقتصادي، بغية مواجهة منافِسين محتملين مثل الصين.
أغادير المغربية بعيداً عن نظرة السائح
09-08-2017
ساحة الفْنا بمراكش: الفضاء الساحر
11-12-2013
غير أن اختيار مراكش كوجهة لاحقة للقطار السريع لم يكن بدافع تركز الاقتصاد الصناعي فيها، بقدر ما كان لدوافع رمزية وسياحية. فهي، مثل شقيقتها مدينة أكادير، سياحية بامتياز. لكن وزنها مختلف عنها، إذ لا تزال مراكش العاصمة السياحية الأولى للمغرب، تستقطب ملايين الزوار على مدار العام، بفضل تنوع أنشطتها السياحية والثقافية، فيما تغلب على أكادير سياحة موسمية شاطئية وأخرى جبلية، تجعل الطلب عليها أقل قليلاً من مراكش. وإلى جانب هذا البُعد السياحي، تحمل المدينة الحمراء رمزية خاصة في المخيال الجمعي المحلي والدولي، إذ تُعتبر المدينة التي طالما قُدِّمت كمرآة بغرض تسويق المغرب أمام العالم، بما تختزنه من تاريخ عريق، ورأسمال رمزي، جعل ربطها بالقطار السريع خطوة تحمل بعداً يتجاوز الحسابات الاقتصادية.

بيد أن هذه المبررات تظل غير مقنعة تماماً، لأن منطقة سوس التي تُسَيِّرُها مدينة أكادير، تملك أيضاً ثقلها الفلاحي باعتبارها سلة غذاء للمغرب ولدول أجنبية. وهذا المعطى يستلزم على نحو مُلح وغير قابل للتأجيل مَدَّها بشبكة سككية تسهم في تسريع وتكثيف ودعم سلاسل التوريد للمنتجات الفِلاحية إلى مختلف مناطق البلاد، وتسهل من عملية توزيعها على الموانئ الكبرى، كمينائَي طنجة والدار البيضاء، المرتبطين بهذه الشبكة السككية، التي من المفروض أن تشمل جل مناطق ومدن المغرب على حد سواء، بما في ذلك مدن الجنوب الشرقي، التي ليست أفضل حالاً من أكادير ومنطقتها، إذ تئن من ضائقة التهميش المستمر، وكأنه قَدر محتوم عليها، أو – ربما - كأن الدولة حكمت عليها، بالمؤبد في قفص "المغرب غير النافع".