إعداد وتحرير: صباح جلّول
هناك عائلة في نابلس، آمنة في بيتها فجراً، يداهمها جيش الاحتلال الإسرائيلي، يقلب البيت، مع أوامر صريحة للمغادرة على الفور، وبالقوة. لساعات، يتكرر العدوان في بيوت كثيرة بآهليها. "اطلعوا برّا"، يقول البرابرة لأهل البيت، لأهل المدينة، لأهل فلسطين. تنزح العائلات قسراً، وقهراً، وبدون أغراضها. يدخل الجنود البرابرة، يعيثون خراباً وإفساداً، يعبثون - كما عبثوا ببيوت غزة وصوّروا قذاراتهم فيها – ويعتقلون من شاؤوا.
هذه العربدة الممتدة في الضفة الغربية بلا لاجِم، لا يستغربها أحد، لأنّ ما حدث ويحدث في غزّة فاق أسوأ التوقعات، وهو قدّ مرَ حتى الآن واستمرّ، فلماذا لا تستمرّ فظاعاتٌ أقلّ منه، وهي "تترقّى" كل يوم إلى فظاعات أكبر؟
هكذا صحَتْ نابلس صباح الأربعاء في 27 آب/ أغسطس على اقتحامات قوات الاحتلال الإسرائيلي. بيوتٌ ومحال تجارية، وحتى المدرسة والمتحف، أبوابها مخلّعة، وقد حلّ بها خرابٌ متفاوت. صحتْ المدينة على آليات عسكرية تجوب شوارع البلدة القديمة، ترهيباً واعتقالات واعتداءات خلّفت عشرات الجرحى.
ليست تلك سِوى آخر فصول الحرب اليومية على الضفة الغربية التي شهدت مدنها وبلداتها اقتحامات متكررة. كانت اقتُحمت رام الله قبل نابلس بيوم، وحوصر مواطنون فلسطينيون عُزّل في محل صرافة، حيث رُميت عليهم قنابل صوتية. اعتقل شبان في الخليل وبيت لحم، ودوهمت بيوت في بلدات متنوعة. وفي قرية الجبعة جنوبي الضفة الغربية، أخطر الاحتلال الأهالي بهدم أكثر من 250 غرفة زراعية، كما محال تجارية في غيرها من البلدات.
كذلك أعاد الاحتلال اعتقال الأسير المحرر في المرحلة الثانية من صفقة تبادل الأسرى، محمد العارضة، أحد أبطال عملية نفق الحرية. اعتقلوا طفلاً أمام عدسات كاميرات الصحافة، واعتدوا على الصحافيين في الضفة (هذا بعد أن قتلوهم جماعياً في غزة، وأمام الكاميرات أيضاً، عندما كانوا يؤدون عملهم في مستشفى كمال عدوان).
والعدوان لم يتوقف على مخيمات جنين وطولكرم منذ أشهر، حيث تَعدّ المخيمات مئات الشهداء والجرحى فيها. ولم يسلَم المسجد الأقصى من الاقتحامات الاستفزازية – المحميّة والمتكررة...
في قرية قواويس في مَسافر يطّا المهددة بالاحتلال، هجمت قطعان المستوطنين الصهاينة على أهالي البلدة، واعتدوا عليهم برشّ رذاذ الفلفل الحار داخل المنازل المأهولة، مسببين إصابات خصوصاً لدى الأطفال والمسنين. حطّموا شبابيك البيوت وزجاج السيارات، وانهالوا بالهراوات على رؤوس المواطنين والمتضامنين معهم، الذين خرجوا للوقوف في وجههم، فأصيب عدد منهم بإصابات وكسور وجروح في الرأس، في حين رفضت الشرطة الإسرائيلية الحضور إلى المكان (طبعاً).

وماذا يوقفهم عن فعل ذلك، وقدّ تضاعفت جرأتهم مع إجرامهم، في كنف رئيس حكومة إبادي وفي ظل صمت وغض بصر لا يمكن وصفه إلا بأنه متواطئ، من الجيران العرب لفلسطين، ومن أوروبا شرعة حقوق الانسان، ومن ترامب الولايات المتحدة الامريكية المؤيد علناً ورسمياً لهذه العدوانات. مضى وقت كاف لردود فعل مغايرة، لم تحدث. وهذا له معناه الجلي. يصرّح نتنياهو: "وعدتُ قبل 25 عاماً بأننا سنرسّخ جذورنا، وقد فعلنا ذلك معاً. وقلت إننا سنمنع قيام دولة فلسطينية، ونحن نفعل ذلك معاً"، مضيفاً أنه "أقرب من أي وقت مضى لتطبيق السيادة على الضفة". هذا حديث نتنياهو في معرض احتفاله بالمصادقة على بناء 17 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية، يوم الثلاثاء في 26 آب/ أغسطس.
هل من مخرج لفلسطين من الإبادة نحو السيادة؟
28-07-2025
وقبلها، وعلى مدى ثلاثة أيام متواصلة، عبث البرابرة بقرية المغيّر. دخل الجيش فاقتلع نحو 10 آلاف شجرة زيتون. نعم، 10 آلاف، بعضها يتجاوز عمرها قرناً من الزمن، بحجّة أنها تمثّل "تهديداً أمنياً". لثلاثة أيام، حاصروا القرية، جرّفوا أرضها الخصبة، واعتدوا على أهلها. عملٌ ممنهجٌ ومدروس هدفه دفع الأهالي إلى خارج القرية ومحوها ووضع اليد عليها، لأنها ذات موقع استراتيجي يسمح لهم بالاستيلاء على المزيد من القرى والبلدات. يقول أهالي القرية أن ستة من سكانها قد استشهدوا في هجمات متعددة للجيش والمستوطنين في الفترة الأخيرة، وجُرح واعتُقل العشرات، ونزحت بعض العائلات قسرياً.


في أحد مقاطع الفيديو، تقف سيّدتان فلسطينيتان من قرية المغيّر تواجهان شباباً ومراهقين من المستوطنين الذين يقدمون ليهوشوا على الأهالي ويعتدوا عليهم. يقف مستوطن شاب أمام امرأة قد تكبر جدته سناً ليصرخ بها "اسكتي!" ويقطع طريقها، أما هي، فتميل برأسها وتلوّح بيديها ساخرة من حركاته المبالغ بها. وعندما يكرر إهاناته، تبصقّ في وجهه، فيحدّق بها مذهولاً. عندما تنصرف السيدة عنه، يحوّل اهتمامه إلى سيدة فلسطينية أخرى، تكتفي بالابتسام في وجهه، كأنها تجده مهرجاً خفيف العقل، أحمق التصرف، إلى حدّ أنه يبدأ هو الآخر بالابتسام ببلاهة، كأنه لا يفهم معنى هذا المشهد العجيب، ومقدار انحطاطه فيه. الصورة قاتمة على امتداد الضفة، مدنها وقراها، عدا بصقة تلك السيدة ومثيلاتها..
في خلفية هذا المشهد، يعلو نباح كلاب المستوطنين الذين أُحضِروا للترهيب.
يعلو نباحهم، ويقولون "نأخذ غزة، نأخذ الضفة، نقضم هنا، نبلع هناك"، وتعلو معها أصوات الزنّانات وهدير الطيران الحربي وقرقرة بطون الجوعى في غزة. تدور سلاسل الجرافات فوق آلاف الأشجار المعمّرة، تفتح طريقاً لـ"إسرائيلهم" الجديدة، محمولة على أكف المجرمين التي تغرف دماء، فدماء، فدماء.