فصل الخريف في موريتانيا.. سياحة داخلية تحتاج إلى تطوير

هل يكفي مجرد إقامة فعاليات ثقافية، لترك بصمة حقيقية وراسخة ومستدامة في واقع المجتمعات المحلية؟ ثم أن المسافات الشاسعة التي تفصل بين المناطق السياحية، وحال الطرق السيئة، ونقص الخدمات الأساسية، تشكل عقبات حقيقية أمام السياحة الداخلية، كما لا تتوافر في المناطق السياحية في الداخل مرافق إقامة، ولا خدمات فندقية كافية وتنافسية، ولا استثمارات حقيقية تدعم هذا القطاع.
2025-08-25

أحمد ولد جدو

كاتب ومدون من موريتانيا


شارك
تظاهرة "أيام الرشيد الثقافية والرياضية"، والتي تعقد في مدينة الرشيد في ولاية تكانت وسط موريتانيا.

مع أول زخة مطر ترحم بها السماء أرض الداخل الموريتاني، تهفو الأرواح إلى مراتع الصبا، وتتعانق مع الطبيعة الأخاذة. تتبدل حال الريف، وتُزهرُ الأرض ويطيب الطقس وترتوي الأودية، ليصبح الداخل وجهة مفضلة لسكان العاصمة نواكشوط وغيرها من المدن الكبرى. ويحدث ذلك في الفترة ما بين منتصف تموز/ يوليو ومنتصف أيلول/ سبتمبر، أي ما يُعرَف محلياً بـفصل "الخريف"، الذي يمتد أحياناً حتى تشرين الأول/ أكتوبر، ويُحدِث ما يشبه هجرة جماعية من ضوضاء نواكشوط وضجيج المدن إلى مواطن الجمال النقي في الداخل الموريتاني، بحثاً عن متنفس طبيعي، وصفاء يبعث السكينة في النفس، وتتنافس كل عام مختلف الجهات على الأفضلية.

هذا العام، كان للخريف زخمه المألوف، وحظي بنقاش واسع، مُعَزَّز بالأخبار التي أفادت بأن رأس الدولة، محمد ولد الشيخ الغزواني، نبه أعضاء الحكومة في ختام اجتماعهم الرسمي، إلى أن قضاء كبار المسؤولين وأسرهم العطلة خارج البلاد أمر "غير مناسب". ودعاهم إلى قضاء عطلهم في البلاد، مع ذويهم، وأماكن سكنهم الأصلية. وتبع ذلك إعلان الحكومة عن خطوات في إطار دعم السياحة الداخلية، مما أثار تساؤلات عن جدية كلام ولد الغزواني وإعلان الحكومة.

نقاش حول السياحة الداخلية.. كنوز تنتظر الاستثمار

تحتضن موريتانيا كنوزاً من المناظر الطبيعية المتنوعة والتضاريس الباذخة، تتوزع على الولايات (المحافظات)، فنجد في آدرار شمالاً وتكانت في الوسط، الجبال الشاهقة، والوديان الغنية بواحات النخيل، والمواقع الأثرية، التي تروي قصصاً من لب التاريخ والعراقة. وفي الحوضين، الغربي والشرقي، المناظر الطبيعية النضرة، من جبال ووديان وبطاح بهية، وهي قِبلة للباحثين عن ذلك النسق، وكذلك عن اللحوم اللذيذة واللبن الطازج.

يحدث في فصل الخريف – بين تموز/ يوليو وأيلول/سبتمبر، ثم بعد ذلك في موسم "الكَيْطنة"، أي جني التمور، انتعاش وحراك حيوي، بفضل التدفق البشري الذي يُحيي الأسواق المحلية، ويساند الأيدي العاملة، ويزيد من حجم التبادل التجاري في المناطق الداخلية. وعلى الرغم من ذلك، تبقى الحركية محدودة، ودون المأمول، وهناك معيقات وتحديات جمة أمام تطور السياحة الداخلية

أما في الجنوب، فتبرز كيدي ماغا بوديانها المتدفقة وغطائها النباتي الوفير، الذي يجسد حلة خضراء بديعة للغاية خلال هذا الموسم. أما الترارزة فتحتضن حظيرة جاولينغ، المتفردة بكونها ملاذاً للطيور المهاجرة والحيوانات النادرة، وبحيرة جوخة وغيرها من المسطحات المائية المحاطة بالغابات الغنّاء.

وإلى جانب ذلك، تمتلك موريتانيا ساحلاً واسعاً، يمتد إلى مسافة 750 كيلو متراً على طول المحيط الأطلسي، ويُعد موطناً للحياة البحرية الفريدة. لكن ثقافة التصييف في البحر لا تنتشر بين المواطنين، وكثيرٌ منهم يُفضل في العطلة الصيفية الذهاب إلى المدن الداخلية، التي لا تطل على البحر، على أن مدينة نواذيبو الساحلية تظل مقصداً بديعاً وملاذاً ساحراً، بفضل طقسها المعتدل طوال السنة.

وإلى جانب موسم الخريف، هناك موسم "الكَيْطنة"، أي موسم جني التمور، خاصة في ولايتي آدرار وتكانت، وما يميز الموسم من تقاليد متفردة وتنشيط اقتصادي واضح. وهذا الموسم يُنتظَر أيضا بفارغ الصبر في موريتانيا، ويمتد عادةً من منتصف حزيران/ يونيو حتى منتصف آب / أغسطس، ويُعرف بأنه أحد أهم المواسم السياحية الثقافية والشعبية الداخلية، وخلال هذه الفترة، تقوم العائلات بهجرة داخلية كبيرة، مغادرة المدن مثل نواكشوط للالتقاء في الواحات. وهدفهم هو الاستمتاع بجو السكينة والهدوء، وتناول أصناف التمور المختلفة، وإعادة الاتصال بعمق بتقاليد الأجداد، وتجربة نمط حياة أكثر ريفية.

يحدث في فصل الخريف، وكذلك في موسم "الكَيْطنة"، انتعاش وحراك حيوي، بفضل التدفق البشري الذي يُحيي الأسواق المحلية، ويساند الأيدي العاملة، ويزيد من حجم التبادل التجاري في المناطق الداخلية. وعلى الرغم من ذلك، تبقى الحركية محدودة، ودون المأمول، وهناك معيقات وتحديات جمة أمام تطور السياحة الداخلية، مثل ضعف البنية التحتية في الداخل التي تُلقي بظلالها على هذه التجربة، وضعف التنمية المحلية بشكل عام في الدولة. فالمسافات الشاسعة التي تفصل بين المناطق السياحية، وحال الطرق السيئة، ونقص الخدمات الأساسية، تشكل عقبات حقيقية أمام السياحة الداخلية، كما لا تتوافر في المناطق السياحية في الداخل مرافق إقامة، ولا خدمات فندقية كافية وتنافسية، ولا استثمارات حقيقية تدعم هذا القطاع.

مهرجانات الصيف: هل تكفي للتحول؟

قبل أيام، أعلن الناطق باسم الحكومة، عن أن جميع عواصم الولايات الموريتانية ستشهد في الفترة ما بين الثاني من آب/ أغسطس والثاني من أيلول/ سبتمبر 2025 تنظيم العديد من الأنشطة الثقافية والسياحية، إلى جانب تنظيم 40 مهرجاناً ثقافياً. جاء ذلك خلال تعليقه على نتائج اجتماع مجلس الوزراء، مؤكداً أن تنظيم هذه التظاهرات الثقافية يأتي استجابة لتوجيهات الرئيس بقضاء العطل في الداخل. مشيراً إلى أن عدة قطاعات حكومية قامت بعقد شراكات، مثل وزارات الثقافة والتجارة والسياحة والبيئة والداخلية، بهدف إنجاح الموسم السياحي.

تحتضن موريتانيا كنوزاً من المناظر الطبيعية المتنوعة والتضاريس الباذخة، تتوزع على الولايات (المحافظات). فيحدث ما يشبه هجرة جماعية من ضوضاء نواكشوط وضجيج المدن إلى مواطن الجمال النقي في الداخل الموريتاني، بحثاً عن متنفس طبيعي، وصفاء يبعث السكينة في النفس. وتتنافس كل عام مختلف الجهات على الأفضلية.

تمتلك موريتانيا ساحلاً واسعاً، يمتد إلى مسافة 750 كيلو متراً على طول المحيط الأطلسي، ويُعد موطناً للحياة البحرية الفريدة. لكن ثقافة التصييف في البحر لا تنتشر بين المواطنين، وكثيرٌ منهم يُفضل في العطلة الصيفية الذهاب إلى المدن الداخلية، التي لا تطل على البحر. على أن مدينة نواذيبو الساحلية تظل مقصداً بديعاً وملاذاً ساحراً، بفضل طقسها المعتدل طوال السنة. 

إن هذا الإعلان الحكومي، الذي يلوِّح براية التجديد والاحتفاء بالسياحة الداخلية، ويرنو إلى دعم التنمية المحلية، يفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات جوهرية وملحة عن جدوى هذه المهرجانات ومثل هذه التصريحات. فهل يكفي مجرد إقامة الفعاليات الثقافية، لترك بصمة حقيقية وراسخة ومستدامة في واقع المجتمعات المحلية؟ لذلك تتسرب هواجس مشروعة، تُشير إلى أن التجارب السالفة لم ترقَ إلى مستوى التطلعات الشعبية. فمهرجانات كـ "مدائن التراث"، وهو المهرجان الذي يُعقد كل سنة بشكل دوري في واحدة من المدن التاريخية الموريتانية، وإن كانت تنتعش في أيامه الأماكن المستضيفة، إلا أنها غالباً ما تُحاط بسجالٍ واسع حول التكاليف المرتفعة، وتُوجّه إليها اتهامات بأنها قد تكون بوابات لهدر المال العام، بل لنهبه.

وهنا يكمن المحك الحقيقي. فالمطلوب هو ألا تصير هذه المهرجانات الصيفية المزمع إقامتها مجرد حيلة موسمية أو مناورة أخرى، للنهب بثوب التنمية والإنعاش الاقتصادي. فالنجاح الحقيقي لمثل هذه المبادرات والخطط التنموية لا يُقاس بعدد المهرجانات أو مستوى الإنفاق عليها، بل بمدى قدرتها على خلق تنمية محلية مستدامة. وهذه التنمية يجب أن تتجسد في تحسين جلي ومحسوس في البنية التحتية، وفي الارتقاء بالواقع الاقتصادي للمواطنين، وفي صناعة فرص حقيقية وجدية ومستدامة، تُبعد شبح الخطابات والأنشطة العابرة.

مقالات من موريتانيا

للكاتب نفسه