"ما الذي بينك وبين الله يا بان؟"

السؤال الأكثر ترديداً على منصات التواصل الإجتماعي في العراق، منذ تفجُّر حادثة الطبيبة الراحلة بان زياد هو: "ما الذي بينك و بين الله يا بان، الذي جعل موتك يُطلِق فينا هذا الغضب الكامن ضد كل ما عانيناه من مظالم؟". فلربما قررت بان فعلاً إنهاء حياتها بنفسها، ولربما كانت قضيتها هي مجرد انتحار، غير إنها، مهما كانت حقيقة الأمر، وبدون أن تعلم، كشفت عن إجماع شعبي بأن الحق سيضيع بالسكوت عما يحدث وبأن ما خفي كان أعظم.
2025-08-19

ديمة ياسين

كاتبة صحافية، من العراق


شارك
الطبيبة العراقية الراحلة "بان زياد طارق"

أغلق القضاء العراقي يوم 18/ 8 / 2025 قضية الطبيبة العراقية بان زياد طارق، التي فجّرت كثيراً من مشاعر الغضب في الشارع العراقي، ووصلت أصداؤها إلى مواقع التوصل الاجتماعي العربية أيضاً. أدى الغضب الشعبي إلى مسيرات ووقفات احتجاجية في عدة مدن عراقية، مطالبة بالكشف عن ملابسات القضية وإجابات واضحة من الجهات المعنية، حيث يبدو أن لا أحد من المسؤولين في البلاد كان يتوقع ردود الأفعال الشعبية الكبيرة فيما يتعلق بهذه القضية، فظهروا متخبطين في تصريحاتهم، مما أثار مزيداً من الشكوك والتحليلات الطوعية في الشارع، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.

بطلة القضية هي الدكتورة بان زياد طارق، طبيبة شابة متخصصة في الأمراض النفسية والإدمان، تعمل في عيادة نفسية في مدينة البصرة، حاصلة على البورد العربي في الطب النفسي، لديها قناة توعية نفسية على تطبيقي تيك توك وإنستغرام، يتابعها من خلالها الآلاف، ولها لقاءات دورية في قنوات راديو محلية للتحدث في المجال نفسه.

تغيبت الدكتورة بان زياد عن عملها في العيادة يوم 4 / 8 / 2025، على غير عادتها، ليُفجأ زملاؤها بخبر انتحارها الذي أكدته أسرتها. إلا إن تفاصيل الواقعة أثارت شكوك جميع من عرفوها، خاصة بعد أخبار عن رفض أسرتها تشريح الجثة، وإصرارهم على تسلمها ودفنها في الحال. اشتدت حالة الغضب الشعبي مع تسريب صور وفيديوهات، من دائرة الطب العدلي في مدينة البصرة، كشفت عن المعاينة الأولية لجثة الطبيبة، وقد زادت تفاصيلها البشعة من غموض الحادث.

تكهنات و تحليلات وإشاعات

بمجرد مرور بضع ساعات فقط على الحادثة، ظهر ذوو الضحية في فيديوهات ومن بعدها على وسائل الإعلام، مؤكدين أن ما حصل هو مجرد حالة انتحار إثر تأزم حالة د. بان النفسية "بسبب ضغوطات العمل"، كما صرحت والدتها مراراً. وسارع محافظ البصرة، أسعد العيداني، إلى إطلاق تصريح يؤكد فيه أن ما حدث هو حالة انتحار. لم تقنع هذه التصريحات الشارع العراقي، سواء من جمهور عادي أم من ناشطين وناشطات في مجال حقوق الإنسان والمرأة، أو حتى من أصحاب الخبرة في مجال الطب النفسي أو الطب التشريحي. فترددت أسئلة كثيرة، من مثل: ما سبب وجود آثار كدمات متفرقة على الجثة، ورضوض حول الرقبة. وكيف بإمكان من تحاول الانتحار تقطيع ذراعيها الاثنتين بطريقة طولية عميقة إلى حد بروز العظم؟ وكيف لها وبعد أن قطعت ذراعيها بهذا العمق أن تمسك المشرط وتقطع يدها الأخرى؟ وكيف استطاعت وبيد مقطعة أن تكتب بدمها عبارة "أريد الله" على الباب حيث وُجدت الجثة؟ إضافة إلى أخبار ترددت عن وجود قَطع في المنطقة التناسلية، وأنها وُجدت محشية بالقطن، والذي قد يكون سببه محاولة إيقاف الدم من قبل من وجد جثتها من أسرتها.

بطلة القضية هي الدكتورة بان زياد طارق، طبيبة شابة متخصصة في الأمراض النفسية والإدمان، تعمل في عيادة نفسية في مدينة البصرة، حاصلة على البورد العربي في الطب النفسي، لديها قناة توعية نفسية على تطبيقي تيك توك وإنستغرام، يتابعها من خلالها الآلاف، ولها لقاءات دورية في قنوات راديو محلية للتحدث في المجال نفسه. 

تزامن ذلك مع أخبار متضاربة عن اختفاء الأداة الحادة، التي اسْتُخدِمت في قطع اليدين، والتلاعب بكاميرات المراقبة، وقيام أفراد من الأسرة بتنظيف مكان الحادث من الدم، ونقل الجثة من المكان الذي وجدت فيه، قبل الاتصال بالشرطة.

حامت الشكوك والتكهنات الشعبية/ غير الرسمية حول شقيقها، الذي أخذ البعض على عاتقهم تحليل حساباته الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي، والتكهن بأن الشاب لديه ميل إلى ممارسة العنف، وأنه شارك صوراً ولوحات ومقاطع من أفلام وروايات تطابق في وصفها حالات مشابهة لما حدث مع شقيقته. وكان هناك كثيرٌ من القصص والشائعات المتدَاولة، سواء كانت تكهنات بإدمانه للمخدرات أو باشتراك ابن خاله في "الجريمة"، التي رجح البعض أن يكون سببها مشاجرة مع بان حول تعاطيهم للمخدرات في المنزل، حيث تواجدت معهم لوحدها من دون أهلها، الذين كانوا على ما يبدو، في سفر، ولم يصلوا إلا بعد الحادث بساعات. بينما وجه البعض أصابع الاتهام إلى زوجة الخال، التي قامت بتنظيف مكان الحادث واستبدال ملابس بان، قبل الاتصال بالشرطة، وذلك، بحسب ما ادّعى هؤلاء، لحماية ابنها وشقيق بان الأصغر.

توسعت بعد ذلك دوائر الاتهام غير الرسمية لتتجه إلى شكوك وتكهنات حول كون ما حدث ليس قضية عنف منزلي، بل تصفية سياسية طالت الطبيبة الشابة. وأن تمسك ذويها بقصة الانتحار يأتي من كونهم تحت التهديد من قبل جهات سياسية متنفذة. وربط الناس بينها وجريمة قتل الأستاذة الجامعية في جامعة البصرة الدكتورة سارة العبودة، على يد زميلها ضرغام التميمي. فالتميمي، شقيق زوجة محافظ البصرة، أسعد العيداني، صورته كاميرات المراقبة أثناء قيامه بإطلاق النارعلى زميلته وقتلها عام 2024، وأُلقي القبض عليه بعد ساعات من ارتكابه للجريمة، وتمت محاكمته، ويقبع حالياً في السجن. وقد أثارت هذه القضية ضجة إعلامية في وقتها، بعد الكشف عن ملابساتها، واتهام المتورطين فيها بممارسة التهديد والضغوط على ذوي الضحية للتنازل عن حق ابنتهم. الربط بين القضيتين حدث عندما ظهرت النائبة في البرلمان العراقي رحاب العبودة، وهي قريبة الأستاذة الجامعية المغدورة، في لقاء تلفزيوني على القناة الأولى العراقية، لتعلن عن أن لديها معلومات تفيد بأن الطبيبة بان زياد كانت "رئيسة لجنة البت في الصحة النفسية للمجرم ضرغام"، بحسب ادّعاء النائبة العبودة، وأن الطبيبة بان زياد كانت قد أصدرت تقريرها بسلامة الصحة العقلية لضرغام التميمي، على الرغم من تعرضها لضغوط وتهديدات من دوائر مقربة من المتهم، في إشارة منها إلى المحافظ وزوجته. وادعت بأنه كانت هناك محاولات حثيثة لإخراج ضرغام التميمي من القضية بحجة عدم سلامة قواه العقلية أثناء ارتكابه الجريمة. ربطت النائبة رحاب العبودة بأن ما حدث للطبيبة بان زياد، كان مخططاً له أن يُصوَّر على أنه انتحار للتشكيك في حالتها النفسية وقواها العقلية، مما يمكِّن الجهات الرسمية من الطعن في التقرير الذي كتبته عمّا يخص حالة ضرغام التميمي العقلية وقت ارتكابه للجريمة، خاصة وأن قضية الأستاذة الجامعية لا تزال تحت بند الاستئناف. إلا إن المركز الأعلامي لديوان محافظة البصرة سارع إلى نفي علاقة الطبيبة بان زياد بلجنة فحص السلامة العقلية لضرغام التميمي، وطالب وسائل الإعلام بتوخي الحذر في نقل المعلومات.

ومع اتساع رقعة الاتهامات والتكهنات في هذه القضية، أدلى عدد من النواب في البرلمان العراقي بآرائهم في وسائل الإعلام، وما حصلوا عليه من معلومات من مصادرهم الخاصة، عن قضية الطبيبة بان زياد. إذ قام النائب عدي العوادي بتوجيه كتاب إلى محكمة تحقيق البصرة، أوضح فيه أن لديه معلومات عما توصل إليه فريق الأدلة الجنائية في الحادث، وأن من ضمن ما توصلوا إليه هو تعطيل كاميرات المراقبة عمداً من أمام بيت الطبيبة قبل وأثناء وقوع الحادث، وتأكيد رواية الكدمات والإصابات الموجودة على جسد الطبيبة. في حين سارع النائب مصطفى سند إلى التشديد على أن معلوماته هو تؤكد أن الكاميرات لم تعطل بل أُفرِغتْ من قبل الجهات المعنية، وأن الحادثة هي انتحار تعود أسبابها إلى قضايا خاصة، وأكد أنه لا يريد الخوض فيها احتراماً لخصوصية الأسرة.

هناك كثير من القصص والشائعات المتدَاولة، سواء كانت تكهنات بإدمان شقيقها الأصغر للمخدرات أو باشتراك ابن خاله في "الجريمة"، التي رجح البعض أن يكون سببها مشاجرة مع بان حول تعاطيهم للمخدرات في المنزل، حيث تواجدت معهم لوحدها من دون أهلها، الذين كانوا على ما يبدو، في سفر، ولم يصلوا إلا بعد الحادث بساعات.

توسعت دوائر الاتهام غير الرسمية، لتتجه إلى شكوك وتكهنات حول كون ما حدث ليس قضية عنف منزلي، بل تصفية سياسية طالت الطبيبة الشابة. وأن تمسك ذويها بقصة الانتحار يأتي من كونهم تحت التهديد من قبل جهات سياسية متنفذة. 

في خضم كل هذه الآراء المتضاربة، وازدياد السخط الشعبي، وتبادل الاتهامات السياسية، كانت هناك مطالب شعبية بتدخل الحكومة المركزية في بغداد، وحتى المطالبة بتدخل رئيس الوزراء محمد شياع السوداني شخصياً، للدفع نحو تحقيق نزيه في الحادث، والكشف عن حقيقة ما جرى. و فعلاً شكلت 3 لجان في بغداد، لجنة طبية وأخرى أمنية ولجنة ثالثة مشرفة على اللجنتين. و بعد التأخر عن موعد الإعلان عن النتائج لمدة يوم واحد، أعلن التقرير القضائي يوم 18/ 8/ 2025 عن أن الطبيبة بان زياد طارق أقدمت على الانتحار بقطع شرايين يديها، وأن الكدمات التي وُجدت على جثتها هي من أثر سقوطها أرضاً أو نتيجة لمحاولة تحريك الجثة من قبل ذويها بعد وفاتها، وأن الخط الذي استُخدم لكتابة عبارة "أريد الله" على الباب كان مطابقاً لخطها. كما لم يخْلص التقرير إلى وجود أي اعتداء جنسي من أي نوع.

على الرغم من ذلك، بدا التقرير مستنداً في معظم نتائجه إلى شهادات ذويها وبعض من زملائها من الأطباء، في إنها كانت تعاني من اضطرابات نفسية أدت إلى انتحارها، مع غياب أي إثبات أو تقارير طبية تؤكد ذلك. جاء تقرير القضاء العراقي خاذلاً وغير مقنع لكثيرين، وقد ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقات تترحم على الطبيبة بان، وتتهم القضاء العراقي بخذلانها والتنازل عن حقها.

وعلى الرغم من إغلاق القضاء العراقي للقضية، وبغض النظر عن نتائج التحقيق، وعما إذا كانت الطبيبة الشابة قد عانت من اضطرابات نفسية فعلاً، أدت بها إلى الانتحار بهذه الطريقة التي بدت كأنها طقوسية نوعاً ما، وبغض النظرعن كل ما تمّ تبادله من تحليلات واتهامات وآراء، فإن هذه القضية كشفت، وبشكل لا يقبل الشك، عن أزمة ثقة حقيقية بين الجهات المسؤولة، ومن ضمنها جهات القضاء العراقي، وبين المواطن العراقي على كل المستويات الاجتماعية والتعليمية. وعن إحساس هذا المواطن بعدم الأمان وشكّه المستمر في أن هناك مؤامرات وصفقات مستمرة تُحاك في أقبية الحكومة على حساب دمه ودماء أبنائه وبناته. فلا تزال أشباح حوادث تماهت مع ما تردد وجاء في قصة الطبيبة بان، حدثت ولا تزال تحدث... من قضايا عنف أسري، أو قضايا قتل راحت ضحيتها نساء وفتيات، كثيراً ما سُجِّلت أنها قضايا انتحار، وأطلق سراح المتهمين بها، وطويت صفحتها بكل سهولة وبدم بارد في أحيان كثيرة، مما جعل الشارع العراقي، خاصة النساء، يشعرن ليس فقط بانعدام الثقة بل وبالتهديد أيضاً من قبل الجهات نفسها التي من المفترض أن توفر لهم الحماية.

بدا تقرير اللجنة الرسمية المشكِّلة في بغداد، بعد الضغوط الشعبية المطالبة بها، مستنداً في معظم نتائجه إلى شهادات ذويها وبعض من زملائها من الأطباء، في إنها كانت تعاني من اضطرابات نفسية أدت إلى انتحارها، مع غياب أي إثبات أو تقارير طبية تؤكد ذلك. جاء تقرير القضاء العراقي خاذلاً وغير مقنعٍ لكثيرين، وقد ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقات تترحم على الطبيبة بان، وتتهم القضاء العراقي بخذلانها والتنازل عن حقها.

على الرغم من إغلاق القضاء العراقي للقضية، وبغض النظر عما إذا كانت الطبيبة الشابة قد عانت من اضطرابات نفسية فعلاً، أدت بها إلى الانتحار بهذه الطريقة "الطقوسية"، فإن هذه القضية قد كشفت عن أزمة ثقة حقيقية بين الجهات المسؤولة من جهة، ومن ضمنها القضاء العراقي، وبين المواطن العراقي، من جهة ثانية، وعلى كل المستويات. يشعر المواطن بعدم الأمان ويشكّ دائماً في أن هناك مؤامرات وصفقات تُحاك في أقبية الحكومة على حساب دمه ودماء أبنائه وبناته. 

يبقى السؤال الأكثر ترديداً على منصات التواصل الاجتماعي في العراق، منذ تفجُّر حادثة الطبيبة الراحلة بان زياد هو: "ما الذي بينكِ و بين الله يا بان، الذي جعل موتك يُطلق فينا هذا الغضب الكامن ضد كل ما عانيناه من مظالم؟". فلربما قررت بان فعلاً إنهاء حياتها بنفسها، ولربما كانت قضيتها هي مجرد انتحار، غير إنها، مهما كانت حقيقة الأمر، وبدون أن تعلم، كشفت عن إجماع شعبي بأن الحق سيضيع بالسكوت عما يحدث وبأن ما خفي كان أعظم.

مقالات من العراق

للكاتب نفسه

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...