"طاقات" غزّة: فرصةٌ خيرٌ وأبقى

كانت الحاجة بشكل أساسي هي لتوفير الكهرباء أوّلا والانترنت ثانياً، ليستطيع من نزحوا أكثر من مرة وفقدوا مصدر دخلهم وازدادت تكاليف حياتهم في ظلّ الإبادة، من إيجاد مكان يستطيعون فيه الحصول على ظروفٍ مناسبة بالحد الأدنى لترميم عملهم، واستعادة الاتصال ببعض الزبائن خارج غزة.
2025-08-08

شارك
صور من مركز "طاقات" في غزّة (عن موقع "طاقات" الالكتروني)
إعداد وتحرير: صباح جلّول

شباب وشابات ينتشرون في قاعة على مكاتب فُتحت عليها أجهزة اللابتوب أمامهم، يلبسون وتلبسن سمّاعات أذنين سميكة، لا يستمعون من خلالها إلى الموسيقى بالضرورة، وقد لا يكونون في اجتماع عبر تطبيق "زووم" طوال الوقت، إلّا أن السماعات تقيهم شيئاً من تشويش أصوات المسيرات الصهيونية، "الزنانات"، والضجيج العام، وأحياناً القصف. فهم وهنّ في حالة عمل في مكانٍ لا يشبه أي مكانٍ آخر: في غزّة.

"مساحة أمل وسط العتمة"، هكذا تصف مبادرة "طاقات" نفسها على موقعها الإلكتروني. في دير البلح وسط القطاع المحاصَر الذي تمارَس على أهله إبادة جماعية منذ عامين، أسس مهندس البرمجة شريف نعيم مركز طاقات في منتصف عام 2024، كمحاولة لتخصيص مساحة توفّر بعض الحلول للشباب الغزّيين العاملين بشكل حرّ أو مؤسسي الأعمال الصغيرة في مختلف المجالات.

كانت الحاجة بشكل أساسي هي لتوفير الكهرباء أوّلا والانترنت ثانياً، ليستطيع من نزحوا أكثر من مرة وفقدوا مصدر دخلهم وازدادت تكاليف حياتهم في ظلّ الإبادة، من إيجاد مكان يستطيعون فيه الحصول على ظروفٍ مناسبة بالحد الأدنى لترميم عملهم، واستعادة الاتصال ببعض الزبائن خارج غزة. في البداية، وفّر مشروع طاقات قاعة زوّدت بلوحي طاقة شمسية واتصال بالانترنت، وكان يكفي أن يأتي الشباب والشابات بأجهزتهم من لابتوب وسماعات وكابلات، وأحيانا بطاولات وكراسي بلاستيكية، ويجلسوا أينما اتفق كي يمارسوا أعمالهم. بعض الشابات كنّ يجلسن على الأرض أو على كنبة هنا أو هناك، المهم أن تتوفر الطاقة والنت ليستمرّ العمل، في جوّ تعاوني صار ينمو بدعم ومؤسسات فلسطينية في الخارج ومتبرعين آخرين. توسّعت المبادرة لتتنوع وظائفها، وتوفر صالات عمل إضافية وبعض المعدات الضرورية.

"حين يُذكر اسم "غزة"، تتبادر إلى الأذهان صور الحصار، الجوع، والحرب… مدينة تقف على حافة الحياة، منعزلة عن السوق العالمي"، يقول منشور على موقع طاقات، بعنوان "غزة تعمل للعالم: كيف تتحدى العقول الغزّية الحصار وتصل إلى السوق العالمي؟". ثمّ يتابع أن غزة تريد كتابة رواية أخرى " من الانقطاع إلى الإنتاج، من الحصار إلى العمل الحرّ، من التبعية إلى التصدير الرقمي". فغزّة التي تتجاوز نسبة البطالة فيها 80 في المئة بين الشباب، بلا كهرباء وبانترنت غير مستقر، بل معدوم في أحيان كثيرة، تعيش إبادة وحصاراً وتجويعاً وغلاء أسعار أوصل كثراً إلى الحافة، بلا أفق واضح لحلّ ممكن وقريب.. على خلفية كل هذا، تبدو مبادرة كهذه أعجوبة حقيقية وجوهرة نادرة ينبغي الحفاظ عليها.

من صفحة "طاقات" على انستغرام

"غزة لا تنتظر المعونة، بل تنتظر من ُيؤْمن بقدراتها. المستقلّ الغزي لا يريد تعاطفاً، بل فرصة لإثبات كفاءته"... بهذه الكلمات المختصرة ولكن المعبّرة بشدّة، أوصلت طاقات رسالتها: لا يريد الشباب الغزّي مساعدات تهبط من السماء ولا صدَقات عشوائية، بل يريد "فرصة"، عملاً، وضعاً طبيعياً يستعيد فيه زمام المبادرة ويطوي صفحة الموت والجوع.

يوفّر موقع "طاقات" طرقاً واضحة وسهلة لتوظيف كفاءات من غزة، أو لعرض الشباب لكفاءاتهم بحثاً عن التوظيف عن بعد. يطالعك الموقع بخيارين: "انضمّ كمستقلّ" أو "وظّف الآن". الموقع مزوّد بعدّاد لساعات العمل المنجزة يومياً في مراكز طاقات، وللدخل الشهري الإجمالي الذي حصل عليه العاملون والعاملات من خلال التوظيف عبر الموقع، وقد جاوز 350 ألف دولار شهري حسب آخر تحديث لمجمل العاملين. كما أن "طاقات" تقدم بعض الورش والدورات التدريبية للشباب لتمكينهم من امتلاك مهارات معينة خصوصاً في سوق العمل بالتكنولوجيا وروافدها.

عن موقع "طاقات" الالكتروني

بالنسبة لهؤلاء الشباب، فالعمل الحرّ بات مركب نجاة "في بحر من الأزمات"، ومساراً مهنياً حقيقياً لا بديل عنه في الظروف الحالية في القطاع: "الشغل عن بعد ليس فقط حلاً مؤقتاً، بل فيه حياة وباب رزق، وهو وسيلة لأهل غزّة ليبقوا واقفين على أقدامهم في وقت الحرب". هكذا كان هذا المشروع لزوم الضرورة، كبر من لوح طاقة شمسية و بطّارية إلى صرح تدريبي ومساحات عمل لأكثر من 500 مستفيد.

في أحد مقاطع الفيديو التي شاركتها "طاقات"، يُطرح السؤال على العاملات والعاملين في "طاقات": "ممّ تعاني/ن أثناء العمل في غزة؟" تجيب إحدى الشابات: "ممّ لا أعاني أثناء العمل؟ الطريق طويلة، والحياة متعبة. أعمل تحت الضغط والخوف والتعب. في كلّ لحظة أفكّر هل سأنهي العمل الذي بين يديّ أم أن خبراً ما سيصلني عن شخص أحبه واستشهد؟ أهلي، أصحابي، ناسي...".

تعملن ويعملون في ظلّ إبادة وتجويع.. ويسقط منهم شهداء..

(الصورة عن صفحة "طاقات" على انستغرام)

شاب آخر يجيب: "المسافة إلى هنا 8 كيلومتر، ما من مواصلات والطرقات وعرة. أحياناً أمشي نصف الطريق". "يكفي الخوف الذي نعيشه على الطريق. قد نعود وقد لا نعود"، تضيف شابة. "الشغل بهيك أجواء مش بس إنجاز. هادا صمود حقيقي." تقول إحدى السيدات العاملات. يؤكد القائمون على المركز أن ضغط العمل في غزة ليس مهنياً فحسب، بل هو نفسي وعاطفي، خصوصاً عندما يفكر العامل بأن بيته وأهله في خطر. والآن مع اشتداد الجوع وعودة التهديد باحتلال مدينة غزة، يعود سؤال استدامة المركز وسبل النجاة.

لكنّ أهمية المبادرة والمركز تكمن أيضاً في إتاحتها شيئاً شبيهاً بالـ"أجواء طبيعية" للعمل ولو قليلاً، ولو أن كل شيء في غزة بات "غير طبيعي" وشديد التعقيد والصعوبة، إلا أن مجرد وجود مكتب وزملاء وأجواء تشجِّع على الانهماك بالعمل هو شيء من إنجاز، ودافع للشباب الطموح الذي ملّ البطالة والدوران في حلقات مفرغة.

مقالات ذات صلة

على صفحته على فيسبوك، كتب مطور البرمجيات المتخصص ومؤسس "طاقات"، شريف نعيم، عن رؤيته لهذا المشروع الذي يعني له الكثير: "هناك أشياء نصنعها في الحياة تشبه الأبناء... نراها تولد بفكرة، ثم تكبر خطوة بخطوة، ونمنحها من وقتنا وقلبنا أكثر مما نمنح لأنفسنا. طاقات، ليست مجرد مساحة عمل. هي حلم صغير بدأ في زوايا العقل، ثم خرج إلى النور، وكبر أمام عينيّ يوماً بعد يوم. تابعتُ خطواتها الأولى بتردد وفرح، ثم رأيتها تتعثر وتقف، تتعلم وتنمو، تُلهِم وتُلهَم. اليوم، أنظر إلى طاقات كما ينظر الأب إلى ابنه الذي أصبح يمشي بثقة، يتحدث بلغته الخاصة، ويصنع له مكاناً في هذا العالم... وأشعر بالفخر. طاقات تحتضن المستقلين، المبدعين، الطامحين في غزة... وتمنحهم بيئة تحترم أحلامهم وتدفعهم للأمام. وما زلت مؤمناً أن هذا المشروع الصغير سيترك أثراً كبيراً. ادعموا طاقات بزيارتكم، بكلمة طيبة، أو بمشاركة صفحتها مع من تعتقدون أنهم بحاجة لمساحة تشبههم"...

في الصور والفيديوهات التعريفية، يلاحظ المشاهِد أن المركز مزيّن بلوحات تحمل عبارات تشجيعية، تحاول بثّ الحماس والفخر في نفوس العاملين: "لا أبرح حتّى أبلُغ" أو "لا تستسلم، أنتَ غزّي". هي عبارات قد يبدو من الصعب التمسك بها في الأيام الحالكة، لكن على الغزيّ أن يحاول ما بوسعه في هذه الأيام حتى لا يفقد آخر خيط للأمل.

في فيديو تعريفي بالمركز، يقول شريف نعيم: "في كل زاوية من زوايا طاقات، هناك قصة، وهناك شخصٌ يسعى، وهناك أملٌ لا ينطفئ".

مقالات من فلسطين

مساعدات ل"إنقاذ الحرب"

لا أستطيع أن أرى في هذا المشهد، وهذه المساعدات، إلّا أنها إنقاذ للحرب، إنقاذ لكلّ الأطراف. أولاً لإنقاذ الحرب من فكّ الاعتراض الدولي والأصوات المستنكِرة، ثانياً لإنقاذ إسرائيل من جريمة...

هل من مخرج لفلسطين من الإبادة نحو السيادة؟

فلسطين في مرحلة حرجة ومصيرية، تتطلب تكاتف الجهود والمبادرة الخلاقة والجريئة، وليس الاختباء والانتظار. قد يتيح توسيع المبادرة الاقتصادية الفلسطينية، وربط تدويل مصالح الاقتصاد الفلسطيني (حتى ولو بالارتهان للاقتصاد العالمي)...

سقط العالَم إنْ سقطَت غزّة

2025-07-24

غزّة تُجوَّع. لا وقتَ لتمنيق الكلام. غزّة كلها جائعة: أكثر من مليوني إنسان منهَك الجسد والروح، جائعون. إنه ذلك النوع من الكوارث المفتعَلة الشريرة الذي يتطلب منا أن نفقد عقلنا...