لم يكن الاتحاد العام التونسي للشغل، منذ تأسيسه سنة 1946، مجرّد نقابة عمالية تُعنى بتحسين الأجور وظروف العمل، بل شكّل أحد الفاعلين الأساسيين في صياغة مسار الدولة الوطنية، وفي التفاوض على ملامح العقد الاجتماعي الذي وُضع بعد الاستقلال. وقد تجاوزتْ أدواره الطابع النقابي الصرف ليتحوّل، في مفاصل تاريخية حاسمة، إلى قوة سياسية ومجتمعية مؤثرة، سواء في مقاومة الاستعمار، أو في صراعات التنمية، أو في اللحظات المفصلية، من مثل انتفاضة الخبز عام 1984، أو الوساطة الرباعية بعد الثورة، التي منحته جائزة نوبل للسلام سنة 2015.
لكن هذا التاريخ الثري، المُشبَع بمعارك اجتماعية ونقابية كلاسيكية، يبدو اليوم مهدَّداً بتحوّل جذري، وربما بالاهتزاز. ليس فقط بفعل الأزمة الاقتصادية وتآكل الدولة الاجتماعية، بل أيضاً تحت تأثير تحوّلات أعمق في بنية العمل نفسه. فقد بدأ "عالم الشغل"، الذي كان يُبنى على العلاقة المباشرة بين العامل وربّ العمل، في التفكك التدريجي. أضحى الشغل أكثر هشاشة، أكثر فردانية، أقل استقراراً. لقد تراجع العمل الصناعي الجماعي المنظم لصالح أنماط تشغيل مرنة، مؤقتة، رقمية، بل ولا مادية أحياناً.
في هذا السياق، يُطرَح الذكاء الاصطناعي كأحد أبرز التحولات التكنولوجية، التي لا تمس أدوات الإنتاج فحسب، بل تعيد صياغة منطق العمل، وزمنه، ومكانه، ومقاييسه. خوارزميات تقييم الأداء، التشغيل عبر التطبيقات، تقنيات المراقبة الذكية، الأتمتة، منصات العمل عن بعد... كلها عناصر تُسهِم في نزع الطابع الاجتماعي من العمل، وتُضعف شروط التفاوض الجماعي، بل وتُهدد وظائف بكاملها بالزوال من دون ضمانات أو حماية.
تونس: الاتحاد العمالي كقوة توازن سياسية
12-03-2014
لقد ظهرت فئات جديدة من "البروليتاريا الرقمية"، عمّال غير مرئيين يؤدّون مهاماً مجزّأة عبر الشاشات، بلا عقود ولا حقوق ولا تمثيل نقابي. في المقابل، لا تزال النقابات – في أغلبها – أسيرة لنموذج صناعي تقليدي لم يعد يُطابِق واقع العمل المتحوّل. وهو ما يطرح تحدياً بنيوياً أمام الاتحاد العام التونسي للشغل: كيف يمكنه الاستمرار في لعب دور مركزي، وهو يفقد تدريجياً "مادته الأولية"، أي فئة الشغَّالين المنتظمة والموحّدة والمحمية قانونياً؟
هذه التحولات لا تعني فقط تراجعاً في نسبة التأطير النقابي أو ضعفًا في أدوات التعبئة، بل تفرض إعادة تعريف جذرية لوظيفة النقابة نفسها. هل تظل أداة دفاع طبقي تقليدية، أم تتحوّل إلى فاعل جديد يتدخّل في قضايا أوسع: العدالة الخوارزمية، الشفافية الرقمية، الحق في الحماية الاجتماعية خارج أطر التشغيل الكلاسيكي؟ وهل يمكن لنقابة نشأت من رحم المصنع أن تُعيد ابتكار ذاتها في زمن المنصة؟
المفارقة هنا صارخة: في الوقت الذي يتعمّق فيه تفكك العمل وتفردنه، وما يتبعه من تهميش وتفاوتات اجتماعية غير مسبوقة، تزداد الحاجة إلى أشكال تنظيم جماعي، تُعبِّر عن مصالح الشغالين. لكن، في الآن نفسه، تضعنا الرقمنة والذكاء الاصطناعي أمام واقع، تصير فيه أدوات التنظيم القديمة غير ملائمة، بل ربما عاجزة.
يُطرَح الذكاء الاصطناعي كأحد أبرز التحولات التكنولوجية، التي لا تمس أدوات الإنتاج فحسب، بل تعيد صياغة منطق العمل، وزمنه، ومكانه، ومقاييسه. خوارزميات تقييم الأداء، التشغيل عبر التطبيقات، تقنيات المراقبة الذكية، الأتمتة، منصات العمل عن بعد... كلها عناصر تُسهِم في نزع الطابع الاجتماعي من العمل، وتُضعف شروط التفاوض الجماعي، بل وتُهدد وظائف بكاملها بالزوال من دون ضمانات أو حماية.
تُطرح، إذاً، الإشكالية الجوهرية التالية : كيف يمكن للاتحاد العام التونسي للشغل، بوصفه فاعلاً تاريخياً وركيزة أساسية في تشكيل الدولة الاجتماعية التونسية، أن يعيد بناء مشروعيته وأدوات تدخّله في سياق تُعاد فيه صياغة معالم العمل، بفعل التحولات الرقمية والذكاء الاصطناعي؟ وهل ينجح في اجتراح أشكال جديدة من النضال والتنظيم، تتلاءم مع الاقتصاد المنصاتي والعمل غير المهيكل، أم أنه مهدَّد بالتحوّل إلى فاعل رمزي عاجز عن التأثير في شروط الشغل المتحوّلة؟
تفكك النموذج الكلاسيكي للعمل: من المصنع إلى المنصة
لم تكن النقابة، كما تشكّلت تاريخياً، سوى ابنة لعالم العمل الصناعي، ذاك الذي قام على انتظام العمال في وحدات إنتاج مغلقة، ووضوح العلاقة القانونية بين الأجير وربّ العمل، مما أتاح بناء أشكال جماعية للتفاوض والتعبئة. من ورشات أوائل القرن العشرين إلى خطوط إنتاج القرن الماضي، شكّلت علاقة الشغل لبّ المعادلة النقابية، وأنتجت ما سُمّي لاحقاً بـ "العقد الاجتماعي الكلاسيكي"، حيث العمل مقابل الأجر، والحماية مقابل الطاعة، والمطالبة مقابل التنظيم. غير أن هذا النموذج بدأ في التشظّي منذ الثمانينيات، تحت وطأة السياسات النيوليبرالية، وها هو اليوم يتفتّت على نحو أكثر راديكالية، بفعل صعود اقتصاد المنصات وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. ما يختفي هنا ليس فقط العامل بوصفه موقعاً إنتاجياً، بل أيضاً "فكرة الشغل" نفسها، كما تمثلّت تاريخياً: الشغل كهوية، كشكل من أشكال الانتماء الطبقي، وكحقّ اجتماعي.
تونس: جغرافيات الغضب والخوف من المستقبل
07-05-2018
سوق "سيدي بومنديل" في قلب تونس العاصمة
31-05-2018
في بلدان الجنوب، حيث هشاشة البنى القانونية والاقتصادية أصلٌ لا استثناء، تتجلّى هذه التحوّلات بشكل مضاعَف. فالسوق الشغلي في تونس مثلاً، لم يعرف يوماً تغطية شاملة أو نموذجاً صلباً للتنظيم النقابي، خارج القطاع العام وبعض قطاعات الصناعة. أمّا الاقتصاد غير النظامي، الذي يضم أكثر من نصف اليد العاملة، فقد بقي دوماً على هامش التمثيل. اليوم، مع صعود العمل الرقمي، تُزاحِم تطبيقات التوصيل و"الشغل بالقطعة" المنصاتي ما تبقّى من أنماط التشغيل التقليدية، فتُنتِج عمالاً "أحراراً" من دون ضمانات، ولا يتوافر لهم أيّ أفق لتنظيم جماعي. إننا بإزاء "بروليتاريا جديدة"، كما يسميها غاي ستاندينغ، لا تمتلك لا الأجر المستقر ولا هوية العامل، ولا أدوات النضال التي راكمتها الطبقات العاملة في السابق.
التحوّل هنا ليس فقط في شروط الشغل، بل في بنيته التحتية الرمزية أيضاً. فالعامل لم يعد مرتبطاً بجماعة مهنية محدّدة، بل بواجهة تطبيق، وبخوارزمية تحدد له السعر، والمدة، والتقييم. هذه الخوارزمية – كما نبّه أنطونيو كازيلي – لا تتصرّف فقط كأداة تقنية، بل كسلطة غير مرئية تحكم العلاقة الإنتاجية من دون أن تخضع لأي تفاوض. ما يضع النقابات في مأزق مزدوج: فمن جهة، يتفكّك "الموقع الكلاسيكي" للفعل النقابي (المصنع، المكتب، الورشة...)، ومن جهة أخرى، تُستبدَل سلطة ربّ العمل الواضحة، بسلطة خوارزمية لا يمكن مخاطبتها أو مساءلتها. فكيف لنقابة تقليدية، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، أن تتعامل مع صاحب عمل لا جسد له؟
شكّلت علاقة الشغل لبّ المعادلة النقابية، وأنتجت ما سُمّي لاحقاً بـ "العقد الاجتماعي الكلاسيكي"، حيث العمل مقابل الأجر، والحماية مقابل الطاعة، والمطالبة مقابل التنظيم. غير أن هذا النموذج بدأ في التشظّي منذ ثمانينيات القرن الفائت، تحت وطأة السياسات النيوليبرالية، وها هو اليوم يتفتّت على نحو أكثر راديكالية بفعل صعود اقتصاد المنصات وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. ما يختفي هنا ليس فقط العامل بوصفه موقعاً إنتاجياً، بل أيضاً "فكرة الشغل" نفسها، كما تمثلّت تاريخياً: الشغل كهوية، كشكل من أشكال الانتماء الطبقي، وكحقّ اجتماعي.
لم يعد العامل مرتبطاً بجماعة مهنية محدّدة، بل بواجهة تطبيق، وبخوارزمية تحدد له السعر، والمدة، والتقييم. هذه الخوارزمية – كما نبّه أنطونيو كازيلي – لا تتصرّف فقط كأداة تقنية، بل كسلطة غير مرئية تحكم العلاقة الإنتاجية من دون أن تخضع لأي تفاوض. فهل تنجح النقابة في اجتراح أشكال جديدة من النضال والتنظيم، تتلاءم مع الاقتصاد المنصاتي والعمل غير المهيكل، أم أنها مهدَّدة بالتحوّل إلى فاعل رمزي عاجز عن التأثير في شروط الشغل المتحوّلة؟
في مواجهة هذا التفكك، تبدو الأدوات النقابية الكلاسيكية غير ملائمة: الإضراب، التفاوض، الضغط الجماهيري... تفترض كلها وجود طرف واضح، ونسيج تضامني ثابت، وهو ما يغيب في عالم المنصات والعمل غير المهيكل. حتى الخطاب النقابي، الذي تَشكّل في سياق اجتماعي جماعي، يجد نفسه اليوم يواجه فردانية قسرية، تُحوِّل العامل إلى منافس لغيره، لا إلى شريك في الصراع. هذه الفردانية التي وصفتها دومينيك ميدا بأنها "تفكيك للخيال الاجتماعي"، تترك النقابات من دون روافع رمزية، تؤسس للانتماء أو للتعبئة.
وعلى الرغم من هذا السياق المعقّد، فإن التحدي اليوم ليس فقط في الدفاع عما تبقّى من شروط الشغل، بل في ابتكار مفردات جديدة للنقابة نفسها: نقابة لا تكتفي بتمثيل الأُجراء، بل تتجه إلى تمثيل من لا يُمثلهم أحد، من عمّال غير نظاميين، ومشتغلين بالمنصات، ومؤقتين، وعاطلين... إنها نقابة يجب أن تتجاوز موقعها التاريخي، لتدخل زمن "النضال ما بعد المصنع"، بكل ما يحمله من غموض، ومخاطرة، واحتمال.
الذكاء الاصطناعي كعامل إعادة تشكيل للقوة العاملة
في قلب المشهد الاقتصادي والاجتماعي التونسي الراهن، يبرز الذكاء الاصطناعي كـ "صورة مستقبلية"، تُستحضَر في نقاشات النخب السياسية والاقتصادية والإعلامية، من دون أن يتجلّى بعد كاستراتيجية متكاملة، أو كأداة فعلية ضمن السياسات العمومية. هذه المفارقة - التي تشكل أحد أبرز التحديات المعاصِرة لعالم العمل وللنقابات - تستدعي قراءة نقدية متأنية، تنطلق من تحليل شامل لأبعاد الذكاء الاصطناعي، وتأثيراته العميقة في إعادة تشكيل القوة العاملة والعلاقات الاجتماعية.
صار الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل آلية شمولية جديدة تحكم سوق العمل عبر تقييم مستمر، ومراقبة غير مسبوقة للعامل، تقضي على الخصوصية وتفكك أشكال التضامن. في تونس، التي تعاني من هشاشة واسعة في منظومة الحماية الاجتماعية وانعدام تكافؤ الفرص، يصير هذا النموذج غاية في الخطورة، إذ يضع العامل في مواجهة لا متكافئة، مع قوى تقنية، تفوقه قدرةً على الدفاع عن حقوقه. فالخوارزميات لا تنقل فقط تقييم الأداء، بل تعيد إنتاج التمييز والإقصاء داخل سوق العمل.
هذه الإشكالية تزداد تعقيداً في ظل غياب استراتيجية وطنية واضحة للذكاء الاصطناعي في تونس، على الرغم من بعض النقاشات المتفرقة، وهو ما يكشف عن أزمة سياسية عميقة في العلاقة بين الدولة والمجتمع. ففي الوقت الذي يضغط فيه "الرهان على النجاعة الاقتصادية" كمدخل لإصلاح الاقتصاد الوطني، لا يُقابَل هذا الضغط برؤية اجتماعية أو نقابية تستوعب تداعيات التكنولوجيا على العمّال. ومن هنا يظهر المأزق المزدوج: الذكاء الاصطناعي يُطرَح كحافز لتحسين الإنتاجية والتنافسية، في حين تُغيب أبعاد العدالة الاجتماعية وسياسات الحماية، مما يجعل العامل التونسي على وشك أن يتحول إلى ضحية لا تُذكَر في معادلة "التحديث التكنولوجي".
يأتي هذا المأزق في سياق يشهد اضطرابات متراكمة في سوق العمل، حيث تفتقر نسبة كبيرة من القوى العاملة إلى الضمانات الأساسية، بل يظل القطاع غير الرسمي هو الأوسع، بما يحمله من هشاشة وانعدام استقرار. وفي هذا الإطار، يُعزى إلى الذكاء الاصطناعي والقوى الرقمية القدرة على تحويل العمل إلى مهمة مجزأة ومنفصلة، تفقد من خلالها طابعها الاجتماعي وخصوصيتها النقابية. وبالتالي، يُفرَض على الاتحاد العام التونسي للشغل تحدٍّ كبير في تمثيل هذا العالم المتحول، الذي يظل في تونس أقل تنظيماً، وأبعد عن أطر الحماية القانونية من مثيلاته في دول أكثر تطوراً.
أما من الناحية السياسية، فتكمن إحدى أبرز مشكلات العصر، في غياب الشفافية والرقابة والمساءلة عن عمليات التقييم الذاتي، التي تقوم بها تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يَحول دون حماية فعالة للعمال من الاستغلال أو الإقصاء. هذا الواقع يتناقض مع الخطابات التي تروِّج للذكاء الاصطناعي، باعتباره رافعة للنمو والنجاعة الاقتصادية، من دون فتح نقاش جاد حول أفق العدالة الاجتماعية وأدوات التفاوض التي يجب أن تواكب هذا التحول. وفي تونس، حيث تغيب هذه الحوارات على مستوى السياسات العمومية، تجد النقابات نفسها مضطرة إما إلى اللحاق بالركب من دون أدوات كافية، وإما إلى الانكفاء على مطالب تقليدية في ظل واقع رقمي متغير.
في وقت تُحمّل فيه النقابات عبء الدفاع عن حقوق العمال، في وجه تحولات تكنولوجية غير مسبوقة، تعاني هذه النقابات نفسها من أزمة داخلية في التمثيل والتنظيم، ناتجة عن تقلص قواعدها التنظيمية وتراجع قدرتها على التعبئة، في سياق هشاشة مجتمعيّة وسياسية عميقة.
يبرز تناقض مؤلم بين الطابع العالمي للعمل الرقمي، ومحدودية النقابات في التحرك ضمن حدود جغرافية وإدارية ضيقة. فالعمل اللامادي يخلق سوقاً عابرة للحدود، وهو ما يتطلب تطوير شبكات تعاونية ونقابية تتجاوز الإطار الوطني التقليدي. هذا النقص في الفعل النقابي الدولي يُعمِّق الشعور بالعزلة ويُضعِف إمكانية التفاوض، في ظل قوى رأس المال الرقمية العابرة للحدود.
في السياق التونسي، يتجسد هذا التناقض في واقع أن النقاش حول الذكاء الاصطناعي يبقى محدوداً في الأوساط الحضرية والمراكز البحثية، ولا يعكس أولويات أو احتياجات غالبية الشغالين، خاصة في القطاعات الأكثر هشاشة. كما أن ضعف التمويل البحثي والتقني، إضافة إلى قلة الاستثمارات في السياسات الاجتماعية، يكرِّس فجوة بين التقدم التقني المحتمَل والتخلف المؤسساتي، في مجال الحماية والتمثيل. هذا الأمر يطرح سؤالاً محورياً عن مدى قدرة الاتحاد العام التونسي للشغل على استشراف هذه التحولات، وتطوير أدواته التنظيمية والتفاوضية، لمواجهة ما يسمى بـ "البطالة التقنية"، أو الإقصاء المنهجي، الذي قد يصيب قطاعات واسعة من العمال.
وهنا تكمن المفارقة الأكبر: في وقت تُحمّل فيه النقابات عبء الدفاع عن حقوق العمال، في وجه تحولات تكنولوجية غير مسبوقة، تعاني هذه النقابات نفسها من أزمة داخلية في التمثيل والتنظيم، ناتجة عن تقلص قواعدها التنظيمية وتراجع قدرتها على التعبئة، في سياق هشاشة مجتمعيّة وسياسية عميقة. وفي تونس، يتعقد هذا الأمر بسبب غياب دعم حكومي واضح، لتطوير سياسات عمل شاملة، تجمع بين التحول التكنولوجي والحماية الاجتماعية، ما يجعل الدور التاريخي للاتحاد العام التونسي للشغل أكثر تعقيداً وأهمية في الوقت نفسه.
في هذا الصدد، لا يمكن النظر إلى الذكاء الاصطناعي في تونس كفرصة فحسب، بل كاختبار حقيقي لقدرة المجتمع والمؤسسات النقابية على التكيف مع متغيرات عالم العمل، وعلى إعادة تشكيل خطاب نضالي يتجاوز الدفاع عن المكتسبات التقليدية، ليشمل مشروعاً جديداً للعدالة الاجتماعية الرقمية. وإذا لم يتم تجاوز هذا المأزق الاستراتيجي والسياسي، فإن ما يُصوَّر كقوة تقدم، قد يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج الهشاشة الاجتماعية، ولتوسيع الهوة بين قوى الإنتاج ورأس المال، ولتدمير أي أفق للتفاوض الاجتماعي الديمقراطي.
إشكالية التمثيل النقابي في عصر العمل اللامادي
في عصر العمل اللامادي، تواجه النقابات تحدياً جوهرياً في تمثيل شرائح متنامية من العمال الذين يرفضون، أو لا يجدون أنفسهم، ضمن تعريفات "الطبقة العاملة التقليدية". هؤلاء هم مبرمِجون، مطورو ذكاء اصطناعي، عاملون عن بُعد، ومشتغلون في الاقتصاد الرقمي المرن، الذين غالباً ما يعملون بشكل مستقل أو ضمن بيئات عمل متغيرة وغير مستقرة. هذا التحول في طبيعة العمل يطرح إشكالية مركبة تتعلق بكيفية قدرة النقابات، وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل، على تجديد خطابها التنظيمي، وسياسات تمثيلها بما يتناسب مع هذه التحولات العميقة.
المفارقة الأولى، تكمن في أن هذا النوع من العمل اللامادي يرتكز على مهارات عالية، وتعقيدات تقنية تجعل من فكرة التنظيم الجماعي التقليدي أمراً بعيد المنال. فالمبرمِجون والعاملون عن بعد لا يشتركون بالضرورة في الأطر نفسها، أو في المصالح المباشِرة التي كانت تجمع العمال في المصانع أو المواقع التقليدية. علاوة على ذلك، غياب الروابط الجغرافية والثقافية المشتركة، يُضعِف من فرص بناء هوية نقابية موحدة، ويطرح تحدياً على النقابات في كيفية إرساء آليات تمثيل، تناسب خصوصية هذا القطاع المتغيِّر والسريع.
لكن المفارقة الأعمق تكمن في أن التكنولوجيا، التي من المفترض أن تفتح آفاقاً جديدة للاتصال والتنسيق، ليست بالضرورة أداة تُسهِّل العمل النقابي أو التمثيل الجماعي. فالتقنيات الرقمية تُستخدم أحياناً كوسيلة لتفكيك الروابط الاجتماعية التقليدية، وتحويل العمل إلى مهام منفصلة ومجزأة، ما يجعل من صعوبة التفاوض الجماعي وتوحيد المطالب أمراً ملموساً أكثر من أي وقت مضى. كما أن طبيعة العمل عبر المنصات والتوظيف المؤقت، تؤدي إلى تهميش عددٍ من العاملين خارج إطار الحماية القانونية والاجتماعية، في سياق لا تواكب فيه القوانين المحلية هذا الواقع الجديد.
في هذا السياق، يواجه الاتحاد العام التونسي للشغل، كشريك تاريخي في الدفاع عن حقوق العمال، اختباراً حقيقياً في مدى قدرته على إعادة تعريف دوره. فبينما ظل الاتحاد يرتكز تاريخياً على نماذج نضالية وتنظيمية تستجيب لقطاع صناعي تقليدي، فإن بيئة العمل اللامادي الجديدة تتطلب أدوات أكثر مرونة، ومقاربات تنظيمية مبتكَرة تواكب الواقع المتبدل. لكن ضعف الموارد، والتشريعات التي لم تواكب التغيرات التقنية، بالإضافة إلى غياب استراتيجيات واضحة لتعزيز التمثيل الرقمي، تجعل من مهمة الاتحاد أكثر تعقيداً.
بات الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل آلية شمولية جديدة تحكم سوق العمل، عبر تقييم مستمر ومراقبة غير مسبوقة للعامل، تقضي على الخصوصية وتفكك أشكال التضامن.
إشكالية التمثيل النقابي في هذه الظروف تطرح أيضاً تساؤلات عن الهوية الطبقية، في زمن يختلط فيه العمل الرسمي مع العمل الحر وغير المنتظم، ويصبح فيه العامل فرداً منعزلاً أكثر منه عضواً في جماعة متماسكة. وتصبح بذلك الخطابات النقابية التقليدية التي ترتكز على التضامن الطبقي الجماعي، أقل قدرة على التعبير عن مطالب هذه الفئات الجديدة. يضاف إلى ذلك أن غالبية العاملين في هذا القطاع، لا ينتمون إلى طبقات اجتماعية موحَّدة، بل هم مجموعة متباينة من الخبرات والتطلعات، مما يعمق من تعقيد بناء خطاب نقابي موحد وجذاب.
في الوقت نفسه، يبرز تناقض مؤلم بين الطابع العالمي للعمل الرقمي، ومحدودية النقابات في التحرك ضمن حدود جغرافية وإدارية ضيقة. فالعمل اللامادي يخلق سوقاً عابرة للحدود، وهو ما يتطلب تطوير شبكات تعاونية ونقابية تتجاوز الإطار الوطني التقليدي. لكن على الأرض، تعاني النقابات التونسية، مثلها كمثل العديد من نظيراتها في بلدان الجنوب، من ضعف قدراتها على بناء مثل هذه الشبكات أو الانخراط الفعال في الفضاءات الرقمية العالمية. هذا النقص في الفعل النقابي الدولي، يُعمِّق الشعور بالعزلة، ويُضعِف إمكانية التفاوض في ظل قوى رأس المال الرقمية العابرة للحدود.
إضافة إلى ذلك، تبرز مفارقة أخرى تتعلق بالطابع التكنولوجي نفسه: ففي حين يُعزى إلى الذكاء الاصطناعي وتقنيات الاتصال الحديثة إمكانية تمكين العمال، من تنظيم أنفسهم بشكل أكثر ديمقراطية ومرونة، فإن هذه التقنيات تُستَخدم في كثير من الأحيان كأدوات لمراقبة العمال، وتفكيك التنسيق الجماعي، وفرض شروط عمل أكثر قسوة. بهذا المعنى، تتحول التكنولوجيا إلى سلاح مزدوج، يتطلب من النقابات أن تكون أكثر وعياً وحذراً، وأن تعيد التفكير في استراتيجياتها، لتوظيف هذه الوسائل في دعم التنظيم وليس تفكيكه.
أمام هذه التحديات المعقدة، يبقى السؤال المركزي مطروحاً بقوة: كيف يمكن للنقابات، وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل، أن تنجح في تجديد خطابها التنظيمي، وتطوير آليات تمثيل تعكس خصوصيات عالم العمل اللامادي؟ وكيف يمكنها أن تبني تحالفات جديدة، وتستخدم التكنولوجيا لصالح العمال بدلاً من أن تكون أداة تهميش؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة لا تنحصر في مجرد تعديل تكتيكات العمل النقابي، بل تتطلب رؤية استراتيجية شاملة، تجمع بين فهم عميق للتحولات التقنية والاجتماعية، وبين تمسك قوي بقيم العدالة الاجتماعية والتضامن.
في المحصلة، تعكس إشكالية التمثيل النقابي في عصر العمل اللامادي أزمة أوسع، تعيشها النقابات التقليدية في مواجهة عالم عمل متغير، يتسم بالمرونة والتجزئة والعولمة الرقمية. وفي ظل هذه المفارقة، تبقى قدرة النقابات على التكيف والابتكار هي المعيار الحقيقي لبقائها وفعاليتها في الدفاع عن حقوق أجيال جديدة من العاملين، يحكمهم زمن جديد تتشابك فيه التكنولوجيا والاجتماع والسياسة، بشكل لم يعد يترك مجالاً للتقليدية وحدها.
مراجع:
Casilli, Antonio En attendant les robots : Enquête sur le travail du clic. Paris, Seuil, 2019
Méda, Dominique Le travail: Une valeur en voie de disparition ? Paris, Aubier, 1995
Standing, Guy. The Precariat: The New Dangerous Class. London, Bloomsbury Academic, 2011