سيصدر بيان لاستذكار القتلى وتضحيات هذا "المكوِّن" الأصيل، وستتعالى الأصوات والوعود، وستُعقد تجمعات تذكيرية بالإبادة ليوم واحد. سيُحْرف مسار النهر ليروي عطش الإيزيديين في جبل شنكال، ليومٍ واحد، في الثالث من آب/ أغسطس، ثم يعود النهر إلى مجراه.
سيرفع النازحون في المخيمات مطالبهم مكتوبة باللون الأحمر على القماش الأبيض: حرِّروا المخطوفات. يا للغرابة، نازح يطالبُ بتحرير مخطوفة!
سيذهب آخرون من مجمّعات شنكال السكنية - الذين تفتقر مناطقهم للخدمات الصحية، وتبعد عنهم المدارس والمراكز الامتحانية ومنظومات الإطفاء - ينظِّمون وقفة عند نصب الإبادة الجماعية، ويطالبون بمراسم دفن محترمة للقتلى، وتعويض الضحايا، وإعادة المخطوفات. مواطن يعيش بين الخراب يطلب دفناً محترماً للموتى!
سيقْلبون الطاولة على أنفسهم مرة أخرى بطريقتين: الأولى هي التوقع، رفع سقف التوقعات وانتظار المستحيل. الثانية هي الانتظار: انتظار أن يتغير الماضي، على الرغم من أن الحاضر والمستقبل زمنان غارقان في بول نساء مخطوفات، في قاعة كبيرة في تلعفر، بانتظار اقتيادهن إلى أمراء داعش.
"شنكَال"؟
23-12-2024
لطخة تلوث بلد الحضارات
24-03-2024
تقول امرأة إيزيدية في لقاء تلفزيوني: "كنا مسجونين في غرفة، أراد ابني الأصغر - لا يزال مخطوفاً - الخروج إلى الساحة ومعرفة ما الذي يفعلونه بهم، أمرته بعدم الخروج، لكنه خرج. عاد وقال: خوخي - اسم الأم - إنَّهم يأخذون الأطفال، ويضربون الأمهات اللاتي يرفضن أن تؤخذ أطفالهن". تسأل المذيعة عن عمر ابنها حينذاك. "كان عمره 11 سنة، قال لي: خوخي، إذا أرادوا أخذنا، لا تقولي لا، كي لا يضربونك!"، وتنهمر دموعها. "إمّا أن أموت، أو يعود لي ابني، ويطلب مني نسيان ما جرى. لن أنسى! جاؤوا وأخذوا ابني الجالس قربي، ولم أستطع الرفض".
تقول امرأة أخرى في لقاء تلفزيوني: "حين أخذوا سُعاد – ابنتها - رفضتُ وقلتُ والله لن تأخذوها، صوَّبوا سلاحاً نحو رأسي وضربوني، ضربوها ونتفوا شعرها، فقدتْ وعيها وأخذوها. الأمر صعب!"، وتبكي.
لا أعرف مخزون الأمهات الإيزديات الثكالى من الدمع، لكنني أعرفُ أنهن سيصنعن نهراً ثالثاً إلى جانب دجلة والفرات، لكنه لن يصب في الخليج العربي، سيصب في جبل شنكال، حيث أناس ناموا في الحُفر وعلى الحجارة. سيروي عطشهم، ويعينهم على رحلتهم سيراً إلى سوريا.
إلى شنكال
"ماالذي تنتظره من زياراتك؟ إنَّكَ تبحث عن إبرةٍ ناريةٍ وسط كومة من القش، ولما ستعثر عليها، ستحرقُ القش وتحرق نفسك وقلوبنا"، يقول لي أبي.
كل مرة أعود فيها، أقول إنها الأخيرة. أقرر ألا ألتفتَ إلى المقابر الجماعية وعظام القتلى المجهولين المتروكة فيها. هذه المرة انتفض هيكلٌ عظمي من حفرة هائلة اكتظت فيها الجثث جنوب شنكال، انتزع فمي وارتداه، استعار لغتي، ونقر بعظمة السبابة على وجه النهار، يسرد قصةً نعرفها، ولا نسمعها.
"انتظرتُ إحدى عشرة سنةٍ شخصاً يمرُّ بي، حَسِبتُ أن العالم الآخر هو هذه المقبرة الجماعية: أنا واعٍ لموتي وموت الآخرين حولي، وكلٌ منهم واعٍ لموته وموت الآخرين حوله. لم يكن هناك يوم قيامةٍ ولا حساب ولا عقاب. لقد عاقبونا أحياءً، وليس لدى السماء أي حق في طرح أي سؤالٍ عليّ! ولدتُ في جنوب شنكال. ومنذ سبعة آلاف سنة وأجدادي يبنون في هذا البلد. هدموه على رؤوسنا".
لا أعرف مخزون الأمهات الإيزديات الثكالى من الدمع، لكنني أعرفُ أنهن سيصنعن نهراً ثالثاً إلى جانب دجلة والفرات، لكنه لن يصب في الخليج العربي، سيصب في جبل شنكال، حيث أناس ناموا في الحُفر وعلى الحجارة. سيروي عطشهم، ويعينهم على رحلتهم سيراً إلى سوريا.
"لم يكن هناك سماء، لم يكن هناك جنةً، اختبرتُ الجحيمَ على يد جنود الله وراياتهم السود. باع جنَّته للمجاهدين مقابل اغتصاب سبية أو اثنتين. وطفل يفجر نفسه أو طفلين. ورجل يُذبح لأنّه أبى نطق الشهادة، أو رجلان. وعجوز تدفن لأن أعضاءها التناسلية لم ترضِ المقاتلين. وأطنان من اللحم الشنكالي الطازج تُحلّل وتباع في أسواق النخاسة. باعَ لهم كل ما يمكن بيعه".
بلد الجدائل المقصوصة
03-03-2025
فتاة كقصبة ال"بامبو"
29-09-2024
"هل سألتم يوماً إذا ما كان الموتى يحلمون؟ أو يهرعون ليلاً خوفاً من كوابيسهم؟ ماذا لو كانت الأصوات التي تُسمَع ليلاً في المقابر هي لكائنات كابوسية؟ بالنسبة إلينا، في هذه المقبرة الجماعية، نسمع كوابيس الموتى وأحلامهم: امرأة تحلم أنَّ طفلها الذي مات عطشاً أثناء اللجوء إلى جبل شنكال في آب/أغسطس 2014، يعيش ويكبر ويتخرج مهندساً ويكوِّن عائلة، وتلتقي بأحفادها. عجوز أخرى تحلم بزوجة ابنها التي حملت مؤخراً، وقتل عنصر داعشي جنينها بركلها وجرِّها إلى سوق النخاسة. رجل يحلمُ ببناته عروسات بالأبيض، وهو اللون الذي ثبت في دماغه بعد رؤيتهن في الأكفان".
أنتزع لغتي من الهيكل العظمي قبل أن يتسبب لي في مشكلة، وأتركه يعود إلى المقبرة الجماعية زاحفاً، مجرداً من غضبه، تَقوده الخيبة.
أسير في خانصور، مجمَّعٌ سكني وُلِدتُ فيه، وعُرِّبَ اسمه إلى "مجمع التأميم". بيوتٌ من طينٍ جُبِلَتْ كَما لو أن آدمَ جُسِّدَ في الجدران. بيوتٌ مهجورةٌ، السقوف مُهدَّمة تحتضن الأرض، تارِكَةً آدم في حسرة الجدار الواقف من دون سببٍ، فلا هو يسند سقفاً، ولا يحمي أهلاً.
كل مرة أعود فيها، أقول لنفسي إنها الأخيرة. أقرر ألا ألتفتَ إلى المقابر الجماعية وعظام القتلى المجهولين المتروكة فيها. هذه المرة انتفض هيكلٌ عظمي من حفرة هائلة اكتظت فيها الجثث جنوب شنكال. انتزع فمي وارتداه، استعار لغتي، ونقر بعظمة السبابة على وجه النهار، يسرد قصةً نعرفها، ولا نسمعها.
"أنا الملاك الذي لم يسقط، بل هرب من جنة الرب ولجأ إلى كهفٍ في جبل شنكال. حَسَبوني متمرداً وسيّد الجحيم. ولكن في الحقيقة ليس هناك جحيم. حين لم يتدبروا أمره في السماء، أحضروه إلى هنا". تساءَلتُ في سرّي عن سبب هذه الهلوسات اليوم. ملاك نازح! ففاجئني صوته: "أنا هنا لأن لا أحد يعرف عمّا يجري في المخيمات، لا أحد يكترث!".
أشجار تينٍ تحولت إلى ملاجئ الخريف، لا أتذكر يوماً كانت فيه مثمرة وخضراء. بشرٌ حجَّرٌ وصَخَّرٌ، جلودهم عَقدٌ من الزمن النايلونيِ، وقد أُفْرِغتْ محاجِر عُيونهم مِن كُل بريقٍ روحيٍ. تماثيل من الخيبة تتحرّك في شنگال، تقوم بأعمالها اليومية، تحب وتموت وتحزن على موتاها، تماثيل من الخيبة صنعتها السماء وجنودها الأرضيون، ملأوا صدورها خيباتٍ وحسراتٍ مكتفيةً بمسيرةٍ طويلةٍ من اللا-أمل.
يقول لي صديق طفولة: "إننا محظوظون، لأنَّنا شَهِدنا نصيبنا من الألم، شربنا غيومَ سماءٍ كاملة من الخيبة في صيف الإبادة الجماعية، ولم يعد لأحدٍ علينا شيءٌ، تحررنا من كُلِ ما يُمكن أن يُصيب بشراً!".
أعيدت عوائل داعش من مخيم الهول وتُرِكت مخطوفاتنا هناك. أُعطِيت أولوية مطلقة لعوائل داعش، إحضارها معززة مكرّمة بحماية حكومية الى الموصل، لإعادة تأهيلها وإسكانها مجمعات سكنية، كي لا تتسخ سمعة العراق الدولية! تُركنا في المخيمات عقداً من الزمن، وثَمّ تُركَ مَن يعودون لشنگال لمصيرهم، بين القصف والجماعات المسلحة والصراع والدمار".
أترك هؤلاء الناس الذين أصابهم الجنون في شنكال! بأية عقلية يطالبون بحقوقهم الأساسية؟ أي بلد خياليٍ يعيشون فيه؟ أي نظام ومساواة يحلمون بها؟ كان عليهم أن يكتفوا بميتةٍ واحدةٍ وإبادة واحدة ونزوحٍ واحد. كيف يعودون إلى مدنهم بعد تحريرها، والمخاطرة بإبادتهم مرة أخرى واغتصاب نسائهم مرة أخرى، وتجنيد أطفالهم مرة أخرى، ونزوحهم مرة أخرى؟ كيف يبقون في مخيمات النزوح إذا كانت وزارة الهجرة العظيمة تدعوهم للعودة الطوعية إلى مناطقهم، ولكنهم يخاطرون بالبقاء وسط حرائق الخيام والبطالة وحالات الانتحار؟ كيف يهاجرون إلى الخارج والوطن بحاجة إليهم؟ هناك في المخيمات من ينتظر من المترشحين للانتخابات تحسين أوضاعهم بعد حصوله على مقعد برلماني! كيف يجرؤون على اعتبار أنفسهم من أوائل مَن كانوا على هذه الأرض رفقة الآشوريين! إذا كانتِ الحرب لا تزال مستمرة، أفلا يخجلون من المطالبة بحقوقهم؟ إذا كانت النساء لا يزلن مخطوفات، ألا يخجلون من المطالبة بحقوق الناجيات؟ هذا قومٌ عنيد، صعب المراس، فلتساعد السماء هذه الحكومة الموقرة ومهمتها النبيلة.
لا بد أن عطلاً أصاب عقولهم وأفقدهم التفكير بطريقة منطقية. البلد مقسّم، وقد حصلوا على المخيمات، فإما أن يقبلوا بحصَّتِهم، وإمّا أن تُبنى لهم مصحات عقلية لإعادتهم إلى رشدهم!
في السنة الجديدة، بعد الثالث من آب/أغسطس، سيكون عليهم تطبيع أوضاعهم، ومقابرهم الجماعية، ومخطوفيهم ومخطوفاتهم، وحقوقهم، والقبول بالأمر الواقع!
ماذا يعني بقاء 2600 امرأة عراقية إيزدية مخطوفة؟ ماذا يعني بقاء 280 ألف عراقي إيزدي نازحاً ؟ لا يعني شيئاً. ستمر سنة أخرى، وبعد 356 يوماً سأكتب عن الوضع نفسه، بكلمات أخرى، وقصص أكثر إهمالاً... أو ربما، أكون قد مُتُّ في احتراق خيمتي مع أهلي، ولن يكتب عن الأمر أحد.
أعود إلى المخيم، منتظراً أن يمر الوقت بأقل الخسائر الممكنة. لا أتنفس براحتي داخل الخيمة، لأنها أولاً صغيرة لا تتسع لتسعة أشخاص، ولأنها ثانياً من نايلون! أخرج لأتمشى. ظهر كائنٌ مجنحٌ مدمىً، لسانه موشومٌ برمزٍ قبلي، جبينه ناتئة العظام وعيناه بؤرتا دمعٍ. "أنا الملاك الذي لم يسقط، بل هرب من جنة الرب ولجأ إلى كهفٍ في جبل شنكال. حَسَبوني متمرداً وسيّد الجحيم. ولكن في الحقيقة ليس هناك جحيم. حين لم يتدبروا أمره في السماء، أحضروه لنا إلى هنا". تساءَلت في سرّي عن سبب هذه الهلوسات اليوم. ملاك نازح! ففاجئني صوته: "أنا هنا لأن لا أحد يعرف عمّا يجري في المخيمات، لا أحد يكترث!"
أنا كنّاس السماء، أكنسها من أرباب هي ماركات مسجلة لقتلنا، وكل منتجاتها تفجيرية. أفتش بين الغيوم عن مطرٍ لم تثقله صرخات الأمهات وهن يراقبن أطفالهن يبتعدون مكبلين بالأصفاد. أنا كنّاس السماء، أكْنسها من دعوات تكفيرية وتكبيرات داعشية قبل إعدام الإيزيديين، كي أعمِّرَ فيها وطناً. ولكنني أخاف أن تحتله كائنات الجنة بعد سنوات طمعاً بنساء أكثر.
ماذا يعني بقاء 2600 امرأة عراقية إيزدية مخطوفة؟ ماذا يعني 280 ألف نازح عراقي إيزدي؟ لا يعني شيئاً. ستمر سنة أخرى، وبعد 356 يوماً سأكتب عن الوضع نفسه، بكلمات أخرى، وقصص أكثر إهمالاً... أو ربما، أكون قد مُتُّ في احتراق خيمتي مع أهلي، ولن يكتب عن الأمر أحد.