هل من مخرج لفلسطين من الإبادة نحو السيادة؟

فلسطين في مرحلة حرجة ومصيرية، تتطلب تكاتف الجهود والمبادرة الخلاقة والجريئة، وليس الاختباء والانتظار. قد يتيح توسيع المبادرة الاقتصادية الفلسطينية، وربط تدويل مصالح الاقتصاد الفلسطيني (حتى ولو بالارتهان للاقتصاد العالمي) بالاعتراف الديبلوماسي بدولة فلسطين، فرصة قد لا تعوض لتفويض ذلك الكيان الجديد والمميَز بين دول العالم، وتمكينه.
2025-07-28

رجا الخالدي

باحث اقتصادي متخصص بالتنمية الفلسطينية


شارك
"الهوية" للفنان الفلسطيني الشهيد فتحي الغبِن

مع تواصل الحديث حول قرب التوصل إلى اتفاق، ينهي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بصورتها الحالية، من دون وقف حرب الإبادة الأوسع، وعلى عكس نتائج وتداعيات الحرب الاقتصادية والبشرية ساطعة الوضوح والتوثيق، إلا أن الإفرازات السياسية الإسرائيلية، الآنية والمستقبلية، لما أطلقه طوفان الأقصى من حرب إسرائيلية شاملة، وصلت بعيداً عن حجج الدفاع عن النفس، أو إنهاء حركة المقاومة، ولا تزال غامضة، وربما بعيدة عن أهداف ووعود كل من مخططي الطوفان (الذين ربما لم يحسنوا حسابات اللحظة التاريخية العالمية والإقليمية، وأيضاً تنفيذ ما يناسبها) من جهة، ومن جهة أخرى، مخططي ومنفذي حرب الإبادة (الذين تمرّسوا خلال العقود الماضية في القيادة السياسية والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية).

فبينما أعلنت حماس في"7 أكتوبر" عن أن الهدف الأساسي لهجومها كان قلب الأوضاع، بما يفتح الطريق نحو إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، فإن الطابع التدميري الشامل والتطهيري للحرب الإسرائيلية تبلور وتوسع، خلال الأسابيع والأشهر اللاحقة على ذلك الحدث.

يبدو اليوم المشهد بعيداً عن أهداف أو وعود الطوفان، في وقت لم تقترب دولة إسرائيل في تاريخها الدموي بحق الفلسطينيين والعرب، كما اقتربت اليوم من هدف تطهير فلسطين من القدر الأكبر الممكن من سكانها العرب، وإخضاع من لا يستسلم، أو يهاجر إلى سيادة دولة إسرائيل اليهودية الدائمة. ما يزيد من قتامة المشهد على الرغم من بريق الأمل المتمثل في حراك متواصل ومتصاعد لمختلف شعوب العالم نصرة لغزة ولقضية فلسطين وتحوّلها في المواقف المعلنة كل يوم وفي كل مناسبة، إلى مسألة كبرى راسخة، وتجسيدها كمعيار لكل القيم الإنسانية - هو تشرذم الساحة السياسية الفلسطينية، على الرغم من كل الضغوط الداخلية والخارجية، والمنطق الداعي إلى الوحدة، أو ربما بسببها.

إذا أَوجَدت مثل هذه الإجراءات والتدخلات الفرصة "لإعادة إعمار" البيت الفلسطيني، على أسس مناسِبة ومستجيبة لوقائع القرن ال21. يبقى التحدي الأكبر عدم التساوق مع السلام الاقتصادي كحل دائم، بديلاً من التحرير والحقوق والمساواة...

نشهد تدهوراً في حال "الكيان الفلسطيني" ومشروعه التحرري، في الانفصال بين مختلف تجارب الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وصولاً إلى الداخل الإسرائيلي وإلى الخارج (الشتات)، بين نظامي حكم، كليهما على وشك الانهيار، مفتقدين للمصداقية والشرعية الشعبية السابقة وموارد بقائها، وبين قيادات فردية وفصائلية، تحكمت بمصير 15 مليون فلسطيني منذ عقود.

انسداد آفاق التحرر: البقاء في وجه الإبادة

إذاً، مع مواصلة وتوسّع الإبادة، لا يبدو في الأفق "طريق نحو حل الدولتين"، كما تُوهِم السياسة العالمية، في محاولةٍ لتهدئة خواطر الطرف الفلسطيني المذبوح، الذي صار بعد 20 شهراً من المجازر إن لم يكن قبل ذلك ومنذ زمن، في وضع أشبه بمفهوم الفيلسوف ادواردو أغابين Homo Sacre ، أو "الإنسان المباح التضحية به".

لكن، منذ أولى أشهر الحرب، تدور أحاديث، كما أجريت دراسات وخطط لما يسمى بـ"اليوم التالي" لحكم قطاع غزة، والدور الإقليمي في ذلك. كذلك هناك نقاش جدي وعميق، وجديد تماماً، حول مستقبل شرعية دولة إسرائيل، في ظل اتهامات بارتكابها جرائم حرب وإبادة، وهي تعيش تصدعات داخلية غير مسبوقة. على الرغم من ذلك، صار مصير مشروع التحرر الوطني الفلسطيني المتمثل في إقامة دولة فلسطين السيادية إلى جانب دولة إسرائيل، أمراً مستبعداً تماماً من الأجندة الإسرائيلية والأميركية. هذا على الرغم من المحاولات الخجولة لإحياء الإيمان بحل الدولتين من قبل بعض الدول الأوروبية والعربية الشقيقة، التي تشعر بقدر من الذنب لما آلت إليه أوضاع الشعب الفلسطيني المكلوم. لكن ما يقرب السنتين من النقاش المعلن (والتآمر الخفي)، لم يفضيا إلى أية رؤية إسرائيلية أو أميركية-عربية-عالمية، أو إلى أي إجماع فلسطيني وطني حول المستقبل السياسي والبشري والاقتصادي للقطاع المنكوب.

وصلت الحال الفلسطينية إلى مرحلة لا تنفع معها الحلول الفنية، التي سادت خلال 30 سنة مضت، من "الإصلاح"، وترشيد الموازنة، وتطوير بيئة الأعمال، وبناء المؤسسات إلخ (حتى في غياب أية مشروعية ديموقراطية أو دستورية أو محاسبة عامة)، كما لا تزال تنادي النخب الاقتصادية التي تَربَت على مرحلة أوسلو. كما لا تُناسِب مؤسسات الماضي، التي شكّلت النظام السياسي (منظمة التحرير وفصائلها، السلطة الوطنية، وحماس وفصائل المقاومة) لقيادة المرحلة القادمة.

إذا كانت هذه الاستنتاجات الصعبة دقيقة، فهذا لا يعني انتهاء المشروع التحرري، بل يشير إلى ضرورة تحديثه وملاءمته مع الواقع الجديد. كما لا تعني هذه القراءة للمشهد بالضرورة الموت الحتمي لحل الدولتين بحسب تصميمه الفلسطيني المثالي، بل تستدعي تحويل الاعتراف بدولة فلسطين إلى أكثر من مجرد لفتة معنوية جوفاء، مثل كل التصريحات العالمية "المتأسِفة" لما يحدث للشعب الفلسطيني. 

مهما كان شكل أو شروط وقف إطلاق النار أو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة (إذا تمَّ فعلاً)، فإن الإبادة متواصلة، في الضفة الغربية المقبلة على الضم إلى إسرائيل، وفي قطاع غزة حيث الموت من الجوع والأمراض ليس أقل فتكاً من القنابل الأميركية والقتل الجماعي الإسرائيلي... مع إخفاق ما كان يسمى سابقاً "المجتمع الدولي" في منع أو وقف حرب الإبادة، بل عدم إقراره بحدوث إبادة أصلاً، إلى جانب العجز المدوي لمنظومة القانون الدولي في تطبيق مسؤوليتها في معاقبة القائمين على ارتكاب جرائم حرب... هكذا صار الشعب الفلسطيني يقف وحيداً، معزولاً. لم يبقَ سوى ضمير شعوب العالم لمناصرته، أمام قوى ومخططات معادية، ووسط تجاذبات داخلية، تحرمه مجتمعة من تقرير مصيره في هذه المرحلة بالذات.

وصلت الحال الفلسطينية إلى مرحلة لا تنفع معها الحلول الفنية، التي سادت خلال 30 سنة مضت، من "الإصلاح"، وترشيد الموازنة، وتطوير بيئة الأعمال، وبناء المؤسسات إلخ (حتى في غياب أية مشروعية ديموقراطية أو دستورية أو محاسبة عامة)، كما لا تزال تنادي النخب الاقتصادية التي تَربَت على مرحلة أوسلو. كما لا تناسب مؤسسات الماضي، التي شكّلت النظام السياسي (منظمة التحرير وفصائلها، السلطة الوطنية، وحماس وفصائل المقاومة) لقيادة المرحلة القادمة.

حتى في حال توقفت حرب الإبادة، ووُضِع حد للغطرسة الإسرائيلية، فما هو آت لن يشبه تجربتنا الوطنية التي خاضتها أجيال ستينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، بين كفاح مسلح وحلول سلمية. صار شرط الحد الأدنى للبقاء الفلسطيني هو توحيد الشعب في إطار يستجيب للتطلعات المستقبلية الوطنية، ويُجسِّد الحقوق الفلسطينية، الملغاة والمنكَرة كلياً. ويمكن ذلك فقط في سياق تفعيل "دولة فلسطين" لتصبح جهة تستحق الاعتراف بها، من قبل دول العالم، بصفتها التمثيلية لشعب فلسطين، وبيت الحركة الوطنية الفلسطينية وعنوانها الرئيس، على الطريق الطويل للتحرير والسيادة. إن تحقيق مثل تلك الوحدة ليست فقط مسؤولية الجيل القيادي الحالي، والذي سيفقد مكانته أمام إفرازات هذه المرحلة، والإقرار بفشل مشاريعه (المسلحة والسلمية والإصلاحيةعلى حدٍ سواء)، بل صار شرطاً لتمكين الشعب الفلسطيني من البقاء أمام الإبادة – بل وردعها، والخروج منها أقوى على الرغم من الخسارة الكبرى، التي لا تعويض عنها سوى ربما في إحقاق الحق الفلسطيني وتجسيده في دولة سيادية.

هل من الممكن "إعادة إعمار" البيت الفلسطيني؟

... نحو التمكين السيادي الاقتصادي ومن دون التورط في السلام الاقتصادي؟ إذا كانت هذه الاستنتاجات الصعبة دقيقة (ولا أرى ما أو مَن يناقضها)، فهذا لا يعني انتهاء المشروع التحرري، بل يشير إلى ضرورة تحديثه وملاءمته مع الواقع الجديد. كما لا تعني هذه القراءة للمشهد بالضرورة الموت الحتمي لحل الدولتين بحسب تصميمه الفلسطيني المثالي، بل تستدعي تحويل الاعتراف بدولة فلسطين إلى أكثر من مجرد لفتة معنوية جوفاء، مثل كل التصريحات العالمية "المتأسِفة" لما يحدث للشعب الفلسطيني. أجزم أنه من شأن انتهاج توجه لربط الاعتراف الدولي بالتمكين السيادي الاقتصادي، في سياق مشروع وطني تحرري مؤسَس من جديد في إطار "الدولة"، هو إنقاذ لإمكانية التوصل للحل المرغوب دولياً، ونصرة ملموسة للشعب الفلسطيني في مواجهة الإبادة – حتى في غياب إمكانية تحقُّق السيادة السياسية بالمفهوم القانوني الكامل لها. ما لفت انتباهي "وحرضني" على الكتابة هنا، هو حدثان فلسطينيان راهنان، تلتقي فيهما لحظة قد تكشف القوة الكامنة للقضية ولمطلب شعوب العالم المتحالفة معها، وتمهِّد لاختراق نحو الوحدة وسيادة قرار الشعب الفلسطيني.

الحدث الأول هو قرار الرئيس الفلسطيني بعقد المجلس الوطني الفلسطيني قبل نهاية 2025، الذي يبدو كسعي إلى تجديد الشرعية لقيادته التاريخية الفصائلية (محدودة التمثيل)، وربما لفتح الطريق أمام وحدة واسعة. طبعاً هناك مسائل دستورية خطيرة، في إقرار تشكيل مجلس وطني جديد يفترض أن يكون "منتخباً"، لكنه سيكون من دون أعضائه المنتخَبين فعلاً (أعضاء المجلس التشريعي للأرض المحتلة)، وبتمثيل نقابي فصائلي لبقية الأعضاء، بمن فيهم عدد من الأعضاء "المستقلين" المعينين بحسب حصص أو "كوتات" سياسية، عشائرية، مناطقية أو غيرها من الاعتبارات، وبلا صلة واضحة بأهلية الأعضاء لتبوء عضوية أعلى سلطة دستورية فلسطينية، في أصعب مرحلة تمر بها القضية.

المطلب الأول هو ترجمة الاعترافات الدولية الحالية (150دولة) والمحتملة، إلى خطوات اقتصادية، أبعد من تمويل الإغاثة أو التنمية، تعكس التعامل الدولي مع الخزينة العامة الفلسطينية، بصفتها مقترضاً سياديّاً مؤهلاً ومنخفض المخاطر، بمثابة كفالة دولية للجدوى المالية لدولة فلسطين المستقبلية، بل كنوع من الالتزام بتحقيقها.

هناك حاجة ملحة لدور دولي في إدارة وضمان القطاع النقدي والمصرفي الفلسطيني، الذي يغلب عليه التعامل بعملة الشيكل الإسرائيلي، وهي أيضاً صارت رهينة الإجراءات العقابية الإسرائيلية والابتزاز السياسي. بالإضافة إلى ذلك - وليس كأولوية أقل - هناك أهمية جديدة لإطلاق نوع من "ترسيم الحدود التجارية للاقتصاد الوطني الفلسطيني"، وتثبيت الكيان التجاري الفلسطيني المستقل عن إسرائيل. 

بغض النظر عما قد يتم "طبخه" كمخرج لهذه المعضلة، ناهيك عن معالجة إشكالية انضمام حماس وفصائل المقاومة إلى المجلس، فإن مجرد انعقاده يمثّل فرصة للعمل الوحدوي العقلاني والمستقل عن الفصائل، التي لا يجوز إدامة وتكريس احتكارها للقرار السيادي للشعب الفلسطيني بشأن مصيره الوطني، بل وجوده على أرضه. إن دولة فلسطين وليدة قرار المجلس الوطني العام، وتعود مسؤولية تحديد مصير تلك الدولة (اليتيمة، المتروكة على الرف!) الى ذلك المجلس، بغض النظر عن شرعيته التمثيلية أو دستورية عملية تشكيله. إذا، ونكرر هذه الـ"إذا"، أفضت هذه العملية الدستورية إلى حشد الفصائل والمواطنين حول مشروع تجسيد مؤسسات "الدولة"، ووظائفها التمثيلية والسياسية والإدارية، فذلك يمكن أن يدفع إلى إعادة كثير من الحسابات، بل الموازين الإقليمية.

لكن التطور الثاني الذي أثار اهتمامي أكثر هنا كباحث في الاقتصاد السياسي، هو ما أعلن عنه رئيس الوزراء الفلسطيني من إجراءات "غير اعتيادية"، لمواجهة أزمة السلطة المالية الوجودية، من ضمنها دراسة إمكانية إصدار سندات مالية فلسطينية "سيادية"، ربما يتم ضمانها، بشكل أو آخر، من قبل المؤسسات المالية متعددة الأطراف (مثل بنوك التنمية الإقليمية حول العالم) والمانحين. على الرغم من كل الإشكاليات التي تنطوي عليها الفكرة بحد ذاتها، (مثل عدم توفر السيادة السياسية، تدني الثقة في الاقتصاد الفلسطيني وحوكمته، عدم وجود فضاء نقدي مسقل، وغيرها من الاعتبارات المتصلة بالمخاطر المالية المعروفة)، فإن جرأة الحكومة في مجرد دراسة الفكرة، تدل على تصويب ما في التفكير الاقتصادي الاستراتيجي الفلسطيني تحت ضغط الإفرازات الوجودية لحرب الإبادة. هكذا تفكير ("خارج صندوق" أوسلو/ باريس) يُمثّل محاولة أولية ملموسة للخروج من ذلك القفص، والانطلاق من سياق الاحتلال إلى مرحلة انتقالية من الحماية المالية الدولية للمال العام الفلسطيني (مثلاً، على نسق الدور النرويجي في النزاع حول أموال مقاصة السلطة المخصصة لقطاع غزة)[1].

باختصار، ربما حان الوقت للمطالبة بتدويل الملفات الاقتصادية الفلسطينية الكبرى، بغية خلق حيز اقتصادي ملموس (يُقاس بحجم تداول اقتصاده ونظامه المالي والنقدي)، يسمح بالابتعاد التدريجي عن قيود أوسلو، من دون قلب الطاولة مرة واحدة، ووضع أسس الوظائف السيادية الاقتصادية لأية دولة، في ثلاثة مجالات: المالية العامة، والقطاع النقدي والمصرفي، والكينونة التجارية.

علاوة على ما نَشرتُه في السنوات الأخيرة حول أهمية فكرة الاقتراض السيادي، والتوجه إلى تدويل مكونات الاقتصاد الوطني المهدد بالتفكك، ومن دون الخوض في مختلف التحديات، التي ينطوي عليها هذا المقترح، فإنه سيبقى غير كافٍ لوحده لإنقاذ الاقتصاد الفلسطيني أو ماليته العامة. إلا أن هناك مسألتين ستعززان - في حال معالجتهما - من قوة الحجة الفلسطينية، في طلب التعامل مع فلسطين كمقترِض سيادي.

بقدر ما اعتاد الشعب الفلسطيني على ألّا يتوقع من قيادته أن توصله إلى بر الأمان وشط التحرر، فإنه ـ أيضاً ـ يعلم بأنه يواجه ثالوثاً معادياً لحقوقه، على رأسه الصهيونية وحلفاؤها الأيديولوجيون في الغرب، وشبكة العلاقات العسكرية والأمنية الامبريالية في المنطقة، وطبعاً رأسمال الكوارث والصناعات العسكرية. بينما تقف إسرائيل في المركز من هذا الثالوث، فإن فلسطين خارجه تماماً، بينما يبحث ربما رأس المال العربي عن شروط "مقبولة" للاندماج فيه.

المطلب الأول هو ترجمة الاعترافات الدولية الحالية (150دولة) والمحتملة، إلى خطوات اقتصادية، أبعد من تمويل الإغاثة أو التنمية، تعكس التعامل الدولي مع الخزينة العامة الفلسطينية، بصفتها مقترضاً سياديّاً مؤهلاً ومنخفض المخاطر، بمثابة كفالة دولية للجدوى المالية لدولة فلسطين المستقبلية، بل كنوع من الالتزام بتحقيقها.

حتى في غياب مثل ذلك الربط الصريح، لما قد ينطوي عليه من "توريط" الدول بالتزامات مالية طويلة الأجل ومرتفعة المخاطر، هناك أبعاد أخرى لمفهوم التمكين الاقتصادي السيادي، بالتوازي مع الاقتراض السيادي، يمكن رفعها كمطالب محقة ومبررة وعاجلة. هنا أشير إلى الحاجة الملحة لدور دولي في إدارة وضمان القطاع النقدي والمصرفي الفلسطيني، الذي يغلب عليه التعامل بعملة الشيكل الإسرائيلي، وهي أيضاً صارت رهينة الإجراءات العقابية الإسرائيلية والابتزاز السياسي. بالإضافة إلى ذلك - وليس كأولوية أقل - هناك أهمية جديدة لإطلاق نوع من "ترسيم الحدود التجارية للاقتصاد الوطني الفلسطيني"، وتثبيت الكيان التجاري الفلسطيني المستقل عن إسرائيل. يتم ذلك من خلال تجديد طلب فلسطين، الحصول على العضوية المراقِبة في منظمة التجارة العالمية، بصفتها "منطقة جمركية منفصلة" (وليس بصفتها "دولة").

بقدر ما اعتاد الشعب الفلسطيني على ألّا يتوقع من قيادته أن توصله إلى بر الأمان وشط التحرر، فإنه ـ أيضاً ـ يعلم بأنه يواجه ثالوثاً معادياً لحقوقه، على رأسه الصهيونية وحلفاؤها الأيديولوجيون في الغرب، وشبكة العلاقات العسكرية والأمنية الامبريالية في المنطقة، وطبعاً رأسمال الكوارث والصناعات العسكرية. بينما تقف إسرائيل في المركز من هذا الثالوث، فإن فلسطين خارجه تماماً، بينما يبحث ربما رأس المال العربي عن شروط "مقبولة" للاندماج فيه. تبدو هذه التحالفات القديمة والعميقة والراسخة بين دول - وليس هذه الحكومة أو ذاك الرئيس - غير قابلة للتحدي، خاصة في السياق الفلسطيني الضعيف نسبياً، والمدمر مادياً وبشرياً. ربما هذا صحيح، وأن التراجع المتواصل في المنطقة في النضال المعادي للامبريالية مقارنة بما كان عليه قبل عقود، إنما يدل على عدم جدوى ذلك النضال، من دون حراك اجتماعي ديموقراطي في الغرب وفي الشرق، من قبل شعوب العالم الغاضبة تجاه هيمنة ذلك الثالوث. قد يكون ذلك الحراك العالمي وبدء التصدع الداخلي الإسرائيلي، بشائر تدل على نوافذ للتحرك الفلسطيني.

فلسطين في مرحلة حرجة ومصيرية، تتطلب تكاتف الجهود والمبادرة الخلاقة والجريئة، وليس الاختباء والانتظار. قد يتيح توسيع المبادرة الاقتصادية الفلسطينية، وربط تدويل مصالح الاقتصاد الفلسطيني (حتى ولو بالارتهان للاقتصاد العالمي) بالاعتراف الديبلوماسي بدولة فلسطين، فرصة قد لا تعوض لتفويض وتمكين ذلك الكيان الجديد والمميَز بين دول العالم. كما أن مثل هذا المسار يوفر بديلاً جذريّاً وملموساً، ويؤمِّن "جسراً اقتصاديّاً" لدولة ناشئة، تسعى إلى الخروج من مرحلة الحروب (بدلاً من مصير الانقسام والهزيمة والتبعية والإذلال)، لشعب يحمل اليوم أنبل وأسمى قضية في تاريخ نضالات الشعوب من أجل التحرر. إذا أَوجَدت مثل هذه الإجراءات والتدخلات الفرصة "لإعادة إعمار" البيت الفلسطيني، على أسس مناسِبة ومستجيبة لوقائع القرن ال21، يبقى التحدي الأكبر عدم التساوق مع السلام الاقتصادي كحل دائم، بديلاً من التحرير والحقوق والمساواة.... ولكن لكل حادث حديث.

______________________

  1. - تماشياً مع ترتيبات أوسلو/ باريس، تُحوِّل إسرائيل شهرياً الإيرادات الضريبية الفلسطينية، التي تجبيها على الواردات للسوق الفلسطيني. منذ سنوات تخصم إسرائيل، وتحجب مبالغ منها بمختلف التبريرات وكأداة للعقاب الجماعي، وقد وصلت قيمتها المتراكمة منذ ما قبل الحرب إلى ما يزيد على ٢.٥ مليار دولار.

مقالات من فلسطين

سقط العالَم إنْ سقطَت غزّة

2025-07-24

غزّة تُجوَّع. لا وقتَ لتمنيق الكلام. غزّة كلها جائعة: أكثر من مليوني إنسان منهَك الجسد والروح، جائعون. إنه ذلك النوع من الكوارث المفتعَلة الشريرة الذي يتطلب منا أن نفقد عقلنا...

غزة: أثقل أيام الحرب

هؤلاء الشهداء الذين صاروا جثامين تُرصّ في خطوط تحت أقدام الناس في بقايا المستشفيات، بالتأكيد كانوا يعيشون في الأيام الماضية، مأساةً كبيرة، عندما لم يتمكنوا من توفير الطحين ولا الطعام...

الحرية للأطباء الأنبل في هذا العالَم..

2025-07-17

تبقى الأصوات العالمية خجولة، بل متواطئة بصمتها، إزاء ما يحدث للجسم الطبي الفلسطيني. أين تقف نقابات الأطباء في العالم، وبالأخص نقابات الأطباء العربية، من هذا المشهد؟ نسأل وقد قُتل نحو...

للكاتب نفسه

سلام "ترامب" الاقتصادي الجديد: من إدارة الصراع إلى تصفية القضية الفلسطينية

ليس الأمريكان الوحيدين الذين لديهم خطط استثمارية وعقارية لقطاع غزة، بعد إعادة احتلاله وتطهيره من حماس، والاستيلاء عليه، حيث بادرت مجموعة عقارية استثمارية إماراتية إلى طرح رؤية أكثر تفصيلية للفكرة...