سقط العالَم إنْ سقطَت غزّة

غزّة تُجوَّع. لا وقتَ لتمنيق الكلام. غزّة كلها جائعة: أكثر من مليوني إنسان منهَك الجسد والروح، جائعون. إنه ذلك النوع من الكوارث المفتعَلة الشريرة الذي يتطلب منا أن نفقد عقلنا قليلاً. هذا ليس مقالاً، هذه دعوة لأنفسنا ولكم، لتجاوز هذا الفشل واليأس، لتجاوز أحاسيسنا الشخصية، لأن ثمة من يتنظر ويألم ويجوع في غزة. هم يحتاجون عملاً صادقاً عاجلاً منا جميعاً، بما يتجاوز الدعاء ومقاطعة المنتجات!
2025-07-24

شارك
من الاعتصام المفتوح أمام السفارة المصرية في بيروت، صباح الأربعاء 23 تموز/يوليو 2025. (الصورة عن صفحة "مخيمات لبنان بوست" عن X).
إعداد وتحرير: صباح جلّول

لم يعد كافياً الاحتجاج اللفظي، وحتّى هذا مُغيَّب أصلاً في كثير من العواصم العربية. غزّة تُجوّع. لا وقتَ لتمنيق الكلام. غزّة كلها جائعة: أكثر من مليوني إنسان منهَك الجسد والروح، جائعون. إنه ذلك النوع من الكوارث المفتعلة الشريرة الذي يتطلب منا أن نفقد عقلنا قليلاً. أن نصرخ من على السطوح وفي الشوارع، ونطالب بشراسة، ونفعل أي شيء متاح، فوراً وبدون تردد. أن نتبرّع، أن نهدد حكوماتنا الخاضعة-الخائنة، أن نملأ الشوارع، أن نُخرِّب وهم استمرار الحياة "الطبيعية" خارج الإبادة، لكي لا نستحيل نحن الآخرين وحوشاً، يشاهدون مقطعاً لطفل برزت عظامه وانتفخت بطنه، فيتابعون يومهم كأنه كان مشهداً من فيلم خيالي... أن نركل كل أعذار العجز، لا لأننا أقوياء وأصحاء في هذا الجزء السقيم من العالَم، ولكن لأن كلّ من في غزّة يعتمد (أو كان يعتمد) علينا وعلى تحركاتنا وضغطنا لفتح المعابر بكل السبل.

مقالات ذات صلة

هذا ليس مقالاً، هذه دعوة لأنفسنا ولكم، لتجاوز هذا الفشل واليأس، لتجاوز أحاسيسنا الشخصية لأن ثمة من يتنظر ويألم ويجوع في غزة. هم يحتاجون عملاً صادقاً عاجلاً منا جميعاً، بما يتجاوز الدعاء ومقاطعة المنتجات!

*****

"سقط العالم إن سقطت غزّة"، شِعار رفعه المحتجون في بيروت، حيث شارك مئات الأشخاص، لبنانيين وفلسطينيين من شتى المخيمات، وسواهم، في الاعتصام المفتوح أمام السفارة المصرية، احتجاجاً على استمرار مصر بإغلاق معبر رفح الحدودي، مطالبين بإدخال أطنان المواد الغذائية والطبية والإنسانية الضرورية، التي تفسد في الشاحنات بعد أسابيع من منعها من التحرك، إلى قطاع غزة.

شتم المتظاهرون أنظمة التواطؤ العربية، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي هتفوا له قائلين "انت مش حامي الدار! انت مشارك بالحصار". وحين سألوا "وين الأمة العربية؟"، ردّت إحدى السيدات بالدعاء على قادة هذه الأمّة، "ان شالله ما بيضلّ حدا منهم!".

علت هتافات مباشرة من سيدات رددت الجموع ورائهن: "حاكم أمّ الدنيا عميل.. سَلّم نفسه لإسرائيل! حاكم أمّ الدنيا ذليل.. قامع شعب بلاد النيل!"

صور معتقلي التضامن مع غزة في السحون المصرية،علقها المتظاهرون أمام السفارة المصرية في بيروت
(الصور عن X، صفحة @fadilakhaled)

حاول عدد من الناشطين محاصرة السفارة رمزياً، لكنّ القوى الأمنية سرعان ما فرقتهم بالقوة، واعتدت على المتظاهرين بالعصي والضرب، أول مرة منعاً للناشطين من الاقتراب من السفارة، ومجدداً بحجة فتح الطريق أمام السفارة.

لم تكن السفارة المصرية في بيروت أول السفارات التي شهدت حراكاً احتجاجياً هذا الأسبوع. في لاهاي بهولندا، أقدم صانع محتوى مصري شاب، يدعى أنس حبيب، باحتجاج فردي، فتوجه إلى سفارة بلاده، ووضع قفلاً على بوابة السفارة، ثمّ واجه موظفي السفارة المستشيظين غضباً بالحجة نفسها التي تستخدمها مصر لعدم فتح المعبر "القفل مقفول من عندهم مش من عندي!".

أمام كاميرا هاتفه، وثّق أنس التفاعل بشكل مباشر لمتابعيه. يهرول موظف يشتمه، "يا كدّاب يا ابن الـ***؜ انت اللي قافل القفل!"، ليردّ عليه الشاب "أتصدّقون، طلع الحصار بيزعّل! الحصار يوجِع القلب. أن تكون محاصَراً لا تقدر على الدخول والخروج. هل رأيتم كيف يقهر الحصار؟... تخيل أن يكون ابنك يموت لأنك لا تستطيع اطعامه حليب أطفال، تخيل أنه يموت على صدرك وانتَ لا تستطيع أن تفعل شيئاً. محاصَر من سنتين تحت القصف!"... يتلاسن معه موظفو السفارة بعبارات مثل "اذهب انت لفتح المعبر"، "لنرَ شطارتك بفتح المعبر"، كأن تلك مسؤولية الشاب لا مسؤولية حكومتهم. على صفحته على انستغرام، علق أنس حبيب: "كل ده وانت عارف إنك مش هتكمّل ساعتين، والقفل هيتكسر وهتطلع عادي والدنيا حلوة.. تقدر بقا تتخيل بالظبط اللي بيحسه أهل غزة يا شوية مجرمين منافقين لا تعرفوا رجولة ولا مروؤة، والنخوة معدتش على بيوتكم..."

يريد الأقوياء أن يقنعونا إذاً بأننا متبلّدو المشاعر، ذاتيّو الاهتمامات، لكن شباباً وشيباً هنا وهناك سيطلعون دائماً ليقولوا "لا"، لأنهم يعون فعلاً أن العالَم أجمع "يسقط إنْ تسقط غزة".

فهذه سفينة "كراون إيريس" السياحية الإسرائيلية وصلت شواطئ سيروس اليونانية في 22 تموز/يوليو، لتقابلها على اليابسة مجموعة من 200 إلى 300 ناشطة وناشط يحتجون على توقفها على أراضيهم، ويرفضون السماح للسفينة بأن تركن في المرفأ.

"من غير المقبول أن يستمر الترحيب بالسياح الإسرائيليين هنا بينما يعاني الفلسطينيون في قطاع غزّة"، قال بيان المتظاهرين المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي. وأكد البيان أن الهدف من التحرك هو "رفع القبضات تضامناً مع فلسطين". "بصفتنا أهالي سيروس، ولكن أولاً بصفتنا الإنسانية، قررنا القيام بعمل نأمل أن يساهم في إيقاف هذا التدمير الذي سببته الحرب الإبادية التي تحدث في منطقتنا"، كما جاء في بيانهم.

متظاهرات ومتظاهرون ضد حرب الإبادة والتجويع الإسرائيلية يقطعون الطريق على السفينة السياحية الإسرائيلية "كراون إيريس" ويمنعونها من النزول في مرفأ سيروس في اليونان (الصورة عن X).

رفع الجمع شعارات منددة بالإبادة والتجويع، وقد نجحوا بالفعل في منع نزول الركاب الإسرائيليين الذين بلغ عددهم 1600، والذين كان من المفترض أن يتجولوا في سيروس لمدة ستّ ساعات قبل أن يتابعوا رحلتهم، فاضطروا للتوجه إلى ليماسول القبرصية بدلاً منها. وقد نقلت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن بعض الركاب على متن السفينة كانوا "ينشدون أغانٍ وطنية" قبل إيقاف سفينتهم، بينما كتبت بعض الصفحات أن منهم من كان يهتف "لتحترق قراكم" – الهتاف الصهيوني الذي ينشده المستوطنون المتطرفون عند هجومهم على القرى الفلسطينية.

المتظاهرون في مرفأ سيروس في اليونان (الصورة: Getty Images).

في المقلب الآخر من العالم، في كانبيرا الأستراليّة، وأمام مبنى البرلمان الأسترالي، وقفت مواطنة مزدوجة الجنسية، أسترالية-إسرائيلية، بالكوفية الفلسطينية، وسط اعتصام امتدّ لـ24 ساعة دعماً لغزّة. محاطة برفاق فلسطينيين ومن جنسيات متعددة، أحرقت السيدة جواز سفرها الإسرائيلي، معلنة طلاقاً نهائياً لا رجعة فيه من "إسرائيل الفكرة". في دولة الاحتلال نفسها، أحرق شباب وشابات – هم قلة قليلة- أوراق خدمتهم العسكرية وأعلنوا أنهم "يفضلون السجن على المشاركة في الإبادة".

إلى جانب هذا، أوقِف جنديان إسرائيليان في العاصمة البلجيكية بروكسِل، أثناء سفرهما لحضور مهرجان "تومورولاند" الموسيقي الأسبوع الماضي، بتهمة مشاركتهما في ارتكاب جرائم حرب، في سابقة قانونية، بعد رفع مؤسسة هند رجب دعوى قضائية ضد الجنود المتورطين في جرائم الحرب. في كانون الثاني/يناير الماضي، فرض الجيش الإبادي الإسرائيلي قيوداً على مشاركة جنوده لمقاطع الفيديو والصور أثناء الخدمة، بسبب تزايد المخاطر القانونية التي يواجهونها عند السفر إلى الخارج.

هل هذا كافٍ؟ قطعاً لا، لكنها خطوات ضرورية جداً، لإعادة شيء من الاعتبار للقانون الدولي الذي يتهاوى أمام تمييعات دولة الاحتلال الخارجة عن القانون، والمستثناة من الشرائع!

في هذه الأثناء، تتابع السفينة "حنظلة" التابعة لأسطول الحرية إبحارها إلى غزة لمحاولة فك الحصار، بعد تعرضها لمحاولتي تخريب، كانت إحداهما قيام أحدهم بربط حبل على مروحة محرك السفينة، تلاها تسميم خزان مياه السفينة بمادة كبريتية حارقة. لكنّ الرحلة مستمرة على الرغم من التهديد والوعيد (والقصف بالمسيرات الذي طال السفينة التي سبقتها!)

"حنظلة"، الطفل في رسوم الفنان الفلسطيني ناجي العلي، الذي هو كل أطفال فلسطين.. مبحِراً إلى غزّة.

وفي هذه الأثناء أيضاً، كان ناشطون من مجموعة "أوقفوا تسليح إسرائيل" في أستراليا يحتلّون أسطح شركة EOS التي تُصدّر آلات عسكرية للاحتلال، وكانت مظاهرات شعبية انطلقت يومي السبت والأحد الماضيين في ألمانيا وتركيا وتونس والمغرب وأيرلندا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها... تطالب بوقف الإبادة وإدخال المساعدات الفوري.

الناشطون على سطح شركة EOS التي تزود الاحتلال بآلات عسكرية، رفضوا التزحزح حتى أزالتهم الشرطة بالقوة واعتقلت بعضاً منهم (الصورة عن X).

طالما أن التجويع قائم والإبادة مستمرة، فإنّ هذا هو واجب كل منا. هذه التحركات لن تصمد وحيدة. علينا مضاعفة وتيرتها ونشرها والتشجيع عليها.

علينا فِعل كلّ ما يمكن فِعله.. لمقاومة كلّ ما لا يمكِن احتمالُه...

مقالات من فلسطين

غزة: أثقل أيام الحرب

هؤلاء الشهداء الذين صاروا جثامين تُرصّ في خطوط تحت أقدام الناس في بقايا المستشفيات، بالتأكيد كانوا يعيشون في الأيام الماضية، مأساةً كبيرة، عندما لم يتمكنوا من توفير الطحين ولا الطعام...

الحرية للأطباء الأنبل في هذا العالَم..

2025-07-17

تبقى الأصوات العالمية خجولة، بل متواطئة بصمتها، إزاء ما يحدث للجسم الطبي الفلسطيني. أين تقف نقابات الأطباء في العالم، وبالأخص نقابات الأطباء العربية، من هذا المشهد؟ نسأل وقد قُتل نحو...

نقاش هادئ حول ألم غزة

غيَّرت تضحيات غزة المهولة الموقف العالمي الذي كان راسخاً في ميله إلى تأييد إسرائيل، أو على الأقل إلى التعاطف معها: في أوروبا والغرب إجمالاً، بحكم شعورهم بالذنب بسبب المحرقة اليهودية...