لا تزال مدينة أم درمان - إحدى مدن العاصمة الثلاث - محتفظة بمظاهرها العسكرية واسعة الانتشار، حتى بعد إعلان ولاية الخرطوم خالية من قوات الدعم السريع منذ نحو شهرين.
وتحولت مدينة أم درمان خلال الشهور الأخيرة إلى ملاذ لكثير من السودانيين، الذين انتقلوا من مناطق عديدة، من الخرطوم وغيرها، لاتخاذ المدينة مستقَراً لهم ريثما تستعيد مدن الولاية خدماتها. وقبل ذلك، كانت مناطق "الثورات"، ذات الكثافة السكانية العالية في أم درمان، من الأماكن الناجية بدرجة كبيرة منذ اليوم الأول في الحرب، مقارنة بمدينتي الخرطوم وبحري، كما أن المدينة التاريخية ظلت محتفظة بمستوى جيد من الخدمات مقارنة بمدن السودان الأخرى.
حكومة مدنية ومظاهر عسكرية
لكن، وعلى الرغم من انتهاء العمليات العسكرية في ولاية الخرطوم، لا تزال أم درمان منطقة شبه عسكرية. يتمظهر ذلك في انتشار جنود الجيش، والقوة المشتركة، علاوة على المتطوعين في القتال، أو ما يعرف بـ"المستنفَرين"، بملابسهم العسكرية وأسلحتهم وسياراتهم المدججة. وهذه المظاهر منتشرة في المحال التجارية، والمستشفيات، والمناطق العامة بما في ذلك المقاهي، ما يوحي بشعور مستمر بانعدام الطمأنينة. وقد اضطرت إدارات بعض المستشفيات والمقاهي والمطاعم للصق إعلان خارجي، يمنع الدخول بالأسلحة، إلا أن ذلك التوجيه أو الإعلان لم يغير من الواقع شيئاً.
ربما يبدو المشهد متناقضاً مع الإعلان عن تعيين حكومة مدنية، ودعوات لا تتوقف للعودة إلى الحياة الطبيعية، في المناطق التي استعاد الجيش السيطرة عليها. وفعليا أُعلن عن تشكيل لجنة عليا، لتهيئة الخرطوم لعودة المواطنين وإفراغها من كافة القوات العسكرية.
هذا الانتشار الكثيف للمسلحين لم يشكل عاصماً من الانفلات الأمني والنشاط الإجرامي، بل ربما يكون قد أسهم في تعزيزه في كثير من مناطق مدينة أم درمان، وعدد من المناطق الأخرى التي تعيش حالة اللا-قانون.
غير أن وجود هذا الوضع في مدينة أم درمان يختلف في دلالاته عن سواها، باعتبار أنها العاصمة البديلة للخرطوم، والتي تمركز فيها جزء كبير من قيادة العمليات العسكرية طيلة شهور الحرب، كما أنها منطقة ناجية جزئياً.
على الرغم من انتهاء القتال في الخرطوم، فلا تزال أم درمان منطقة شبه عسكرية، ينتشر فيها جنود الجيش، والقوة المشتركة، علاوة على المتطوعين للقتال، أو ما يعرف بـ"المستنْفَرين"، بملابسهم العسكرية وأسلحتهم وسياراتهم المدججة. ينتشرون أمام المحال التجارية، والمستشفيات، والمقاهي، وفي الأماكن العامة. وقد اضطرت إدارات بعض المستشفيات والمقاهي والمطاعم للصق إعلان خارجي، يمنع الدخول بالأسلحة، إلا أن ذلك التوجيه أو الإعلان لم يغيِّر من الواقع شيئاً.
منذ بداية توسع سيطرة الجيش، بدأت عمليات السرقة والنهب في عدد من أحياء أم درمان، ونقلت تقارير صحافية تعرُّض عدد من المناطق التي استعاد الجيش السيطرة عليها لسرقات وعمليات نهب واسعة من قبل عناصر الجيش، الذين اشتبكت الشرطة العسكرية معهم مراراً، لكنها لم تتمكن من وضع حد لعمليات النهب والسرقة. ومع اتساع العمليات العسكرية ودخول المقاومة الشعبية المسلحة ميدان القتال، صار السلاح متفشياً من دون ضابط ولا رابط.
خلال أيام معدودة، لقي شخصان مصرعهما في أم درمان على يد مسلحين خلال عملية نهب، وفي بعض الروايات أن هؤلاء المسلحين يرتدون أزياء عسكرية. هذه الحوادث وحوادث أخرى شبيهة، وقعت في قلب ما يفترض أنها مناطق آمنة في أم درمان، وأعقبتها أزمة محدودة نشبت بين قوات من الجيش وجنود من القوة المشتركة التي تقاتل إلى جانب الجيش، حينما نصبت القوة المشتركة ارتكازات بغرض التحصيل غير القانوني، في أحد الأسواق الشعبية الطرَفية بأم درمان، مما اضطرّ بعض التجار إلى إغلاق متاجرهم بحسب ما نقلت تقارير صحافية.
وخلال الأسبوع نفسه، بلغ الانفلات ذروته حينما تم اختطاف تاجر ذهب في التاسعة مساء، بواسطة مسلّحين يرتدون أزياء عسكرية، وانتزعوا منه أكثر من كيلو غراماً من الذهب ، وألقوا به في مناطق غرب أم درمان، وهو ما دفع تجار الذهب إلى تنفيذ إضراب، احتجاجاً على هذه الحادثة التي تنذر بخطر كبير.
وتعج مواقع التواصل الاجتماعي بالشكاوي المستمرة، من عمليات النهب والسرقات في مدينة أم درمان "الآمنة"، والاعتقالات العشوائية في مناطق أخرى غاب عنها القانون تماماً.
الانتشار الكثيف للمسلحين لم يشكل عاصماً من الانفلات الأمني والنشاط الإجرامي، بل ربما يكون قد أسهم في تعزيزه في كثير من مناطق مدينة أم درمان، وعدد من المناطق الأخرى التي تعيش حالة اللا-قانون.
وجود هذا الوضع في مدينة أم درمان بالذات يختلف في دلالاته عن سواها، باعتبار أنها العاصمة البديلة للخرطوم، والتي تمركز فيها جزء كبير من قيادة العمليات العسكرية طيلة شهور الحرب، كما أنها منطقة ناجية جزئياً.
وسط هذا المشهد المنفلت، شرعت مجموعات من المواطنين في مناطق غرب أم درمان بامتلاك الأسلحة، ليس لمساندة الجيش في قتال قوات الدعم السريع هذه المرة، بل لحماية أنفسهم من المجموعات المسلحة، التي تمارس النهب والسطو بشكل واسع في هذه المناطق. فقد صار كثير من مواطني أم درمان غير آمنين في منازلهم، وصارت عمليات النهب لا تنتظر مباغتة المسلحين للمواطنين في الشوارع الفرعية عند الليل، بل تطرق الأبواب، وتهدد، وتنتزع الممتلكات، بعدما بدأ المواطنون للتو يتنفسون الصعداء مطمئنين إلى خلو الخرطوم من قوات الدعم السريع.
صحيح أن بعض هذه المناطق الطرَفية، تعتبر، بالأساس وقبل الحرب، مناطق نشاط إجرامي مثلها مثل أية مناطق طرفية في الخرطوم، إلا أن المهدِّد الحقيقي الآن هو تفشي السلاح الناري.
حملات أمنية ودعوات خجولة لجمع السلاح
بدأت شرطة ولاية الخرطوم بتنفيذ حملات أمنية بالتزامن مع تصاعد وتيرة الانفلات، لكن لا يبدو أن هذه الحملات حاسمة وكافية لبسط الأمن، في ظل تعدد المجموعات والتشكيلات العسكرية المساندة للجيش، والتي لا تزال منتشرة على نطاق واسع مع تورط بعضها في النشاط الإجرامي. وقد يبدو هذا الأمر متوقعاً في سياق فوضى انتشار السلاح الذي صاحب هذه الحرب، علاوة على الخلل المزمن، الذي تعاني منه المنظومة الأمنية والعسكرية في السودان.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً أن الانفلات الأمني وانتشار عصابات النهب، بدأ منذ الشهور الأخيرة لحكومة عمر البشير، بالتزامن مع الضغوط الاقتصادية والمعيشية, وحينما انفجرت حرب 15 نيسان/ أبريل 2023، كان الوضع مهيأ بالأساس لمثل ذلك الانفلات.
منذ بداية توسع سيطرة الجيش، بدأت عمليات السرقة والنهب في عدد من أحياء أم درمان، ونقلت تقارير صحافية تعرُّض عدد من المناطق، التي استعاد الجيش السيطرة عليها لسرقات وعمليات نهب واسعة من قبل عناصر الجيش، الذين اشتبكت الشرطة العسكرية معهم مراراً، لكنها لم تتمكن من وضع حد لعمليات النهب والسرقة. ومع اتساع العمليات العسكرية ودخول المقاومة الشعبية المسلحة ميدان القتال، صار السلاح متفشياً من دون ضابط ولا رابط.
وسط هذا المشهد المنفلت، شرعت مجموعات من المواطنين في مناطق غرب أم درمان بامتلاك الأسلحة، هذه المرة ليس لمساندة الجيش في قتال قوات الدعم السريع، بل لحماية أنفسهم من المجموعات المسلحة، التي تمارس النهب والسطو بشكل واسع في هذه المناطق.
غير أن المحك الحقيقي الآن هو استمرار التسليح. وبينما لا تزال العمليات العسكرية مستمرة في إقليم كردفان، المتاخم لمدينة أم درمان من جهة الغرب، وكذلك في إقليم دارفور، تبدو الدعوات إلى جمع السلاح غير واردة الآن، على الرغم من أن هذه الدعوات بدأت في ولاية سنار الواقعة في الجنوب الشرقي للبلاد، حيث وجّهت السلطات المحلية بجمع السلاح، وبسط خطاب تصالحي مجتمعي، وهو عملياً أول خطاب رسمي يدعو إلى هذه الخطوة. لكن الملفت في الأمر، أن السلطات المحلية أسندت الأمر إلى الإدارات الأهلية، واعتبرته من ضمن مسؤولياتها، وهو ما ينبئ بضعف بيّنٍ في مؤسسات الدولة، ينذر بخطر قادم في عمليات جمع السلاح مستقبلاً.
والذاكرة السودانية لا تزال تستحضر عمليات جمع السلاح في دارفور، وكيف أنها أعادت تفجير الوضع مجدداً حينما شكلت حكومة البشير لجنة عليا لجمع السلاح، عجزت تماماً بعدما توالدت المجموعات العسكرية لحماية نفسها من عمليات جمع السلاح.
وعلى الرغم من أن الجيش تجرع الكأس المرة من تجربة حليفه السابق، قوات الدعم السريع، إلا أنه أعاد تكرار التجربة نفسها، وعلى نطاق أوسع. وهو هذه المرة، وبدلاً من مواجهة قوة واحدة، سيتعين عليه مواجهة تشكيلات متعددة! ولا يبدو أن الجيش يمتلك قدرة وإرادة لمواجهة هذا الواقع الجديد، حيث فرّخت هذه الحرب المستمرة لأكثر من عامين تشكيلات ومجموعات مسلحة جديدة، نبتت على أساس مناطقي، إثني، وجهوي، وأخرى ذات عقيدة سياسية، إلى جانب توسع عمليات التجنيد، وسط الحركات المسلحة الموجودة أصلاً قبل الحرب، والتي لم يتم دمجها ضمن القوات النظامية.