غزة: أثقل أيام الحرب

هؤلاء الشهداء الذين صاروا جثامين تُرصّ في خطوط تحت أقدام الناس في بقايا المستشفيات، بالتأكيد كانوا يعيشون في الأيام الماضية، مأساةً كبيرة، عندما لم يتمكنوا من توفير الطحين ولا الطعام لأطفالهم، وقد كان خيارهم واحداً من اثنين: النظر إلى أجساد أطفالهم الهشّة بلا طعام، أو المُخاطرة ومحاولة الوصول إلى الطحين، مع احتمال الموت.
2025-07-21

المقداد جميل مقداد

كاتب وباحث من غزة


شارك
وجه الجوع والتعب في غزة

مرَّت الأيام الأخيرة، وحتى الآن، كأكبر أيام في مجاعة غزّة. ومرّ يوم الأحد 20 تموز/ يوليو كأثقل أيام الحرب. لا تُسرد هذه المعلومة كحدثٍ عابر، إنما تُعاش كواقع، وليس أيَّ واقع، بل الواقع الصعب والكارثي الذي نراهُ في الشارع. حقيقةً، لم أشهد شخصياً، ولا مَن حولي من الناس، العائلة والأصدقاء، يوماً كهذه الأيام.

منذُ إعلان الاحتلال قبل أكثر من شهر عن عودة دخول المساعدات، انقلبت الحقائق. ومع عمل الشركة الأمريكية GHF، زاد التغييب الإعلامي والتحايل على مشاهد المجاعة، بتفاصيل مُركّبة، روّجها الأمريكيون والإسرائيليون، وساعدتهم كثيرٌ من وسائل الإعلام، ولاحقاً الأوربيون الذين رفضوا مؤخراً فرض عقوباتٍ على إسرائيل، بعد سلسلة طويلة من التهديدات، والتباكي على الواقع الإنساني في غزّة.

مقالات ذات صلة

بدأ الأمر بالإعلان عن دخول البضائع والمساعدات إلى غزّة، فيما ظهرت الحقيقة خلال أكثر من شهر. لا بضائع تدخل، لا مساعدات. تدخل كمياتٌ قليلة جداً. فمقابل 600 شاحنة على الأقل يحتاج إليها يومياً قطاع غزّة، تدخل حوالي 30 إلى 60 شاحنة يومياً! وهذه تبدو نكتة سخيفة ومأساوية. فماذا عن بلدٍ يُعاني من مجاعة ونقصٍ شديد في الموارد والأغذية؟ وقد بدأ الإسرائيليون بضخّ أخبار دخول المساعدات، من خلال صفحات "المنسِّق" و"الناطق باسم الجيش"، وغيرهم من مسؤولي الاحتلال، ثم تبعتهم الصحف ووسائل الإعلام العبرية. الساخر أكثر من ذلك في الأمر، أنّ هذه الأخبار كانت تلقى استنكاراً من مسؤولين يُقال إنهم "مُتطرفون"، مثل بتسئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، في مكان يُجوَّع فيه أكثر من مليوني إنسان ويبادون، وذلك لما يقارب سنتيَن. وهذا يجعلنا بطبيعة الحال نُدرك ألّا مُتطرفين في الأمر، فوجود المتطرفين يضع افتراضاً بوجود عكسهم، المُسالمين الطيبين.

منذ إعلان الاحتلال قبل أكثر من شهر عن عودة دخول المساعدات، انقلبت الحقائق. ومع عمل الشركة الأمريكية GHF، زاد التغييب الإعلامي والتحايل على مشاهد المجاعة، بتفاصيل مُركّبة، روّجها الأمريكيون والإسرائيليون، وساعدتهم كثيرٌ من وسائل الإعلام، ولاحقاً الأوربيون الذين رفضوا مؤخراً فرض عقوباتٍ على إسرائيل، بعد سلسلة طويلة من التهديدات، والتباكي على الواقع الإنساني في غزّة.

الأمر الثاني الذي أسهم في تغييب صورة المجاعة إعلامياً، هو بدء عمل الشركة الأمريكية التي أعلن عنها ترامب، وقبله سفيره في تل أبيب، التي تحوّلت إلى مصيدة كبيرة للموت. فقد قُتل ما يقارب 800 شخصٍ أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات، بين أواخر أيار/ مايو و7 تموز/ يوليو، وفقاً لتقارير مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فضلاً عمّن اعتُقلوا لدى الاحتلال الذي يتواجد في مُحيط الشركة، ومن فُقدوا في مكان عمل الشركة نفسها، التي تحوّلت إلى مصيدة وما يُشبه مركز الاحتجاز الكبير المُهين على مدار شهريَن.

مؤخراً، أعلن الاتحاد الأوروبي عن اتفاقية مع إسرائيل، تقضي بدخول المُساعدات "بأعدادٍ كبيرة" إلى قطاع غزّة، مع تحديد أكثر من 500 شاحنة يومياً، ستدخل وفق الاتفاق. كان الحديث عن دخول المُساعدات بدايةً، منتصف الأسبوع الماضي، ثم تحوّل الأمر إلى يوم تموز/17 يوليو. ولكن الأوروبيين اعلنوا عن أن الاتفاقية لم تُطبّق بعد، وأنهم يضغطون على إسرائيل للتنفيذ، فيما يظهر واضحاً أن الاحتلال كان يُريد تجاوز جلسة القرار، التي كان سيُعلِن فيها الأوربيون عن فرض عقوباتٍ على إسرائيل.

جرى الترويج للاتفاقية الأوروبية-الإسرائيلية بشكلٍ هائل في الإعلام العربي والإسرائيلي، واعتُبِرت التصريحات الأوروبية الأمر كأنّه إنجازٌ ضخم لرُعاة السلام، مُحبي الخير، الذين لم تُلطّخ أيديهم بدماء الفلسطينيين منذُ حجّهم إلى تل أبيب بعد "أكتوبر 2023". لكنها في نهاية المطاف، لم تتعدَّ كونها بالوناً، ومن شدّة انتفاخه، انفجرَ في لحظة.

في الأيام الأخيرة، توقّف دخول المُساعدات من المعابر التي ترعاها إسرائيل، وعلّقت الشركة الأمريكية عملها ليوميْن أو أكثر، تحت حججٍ كثيرة، بينما لم تُطبّق الاتفاقية الأوروبيّة-الإسرائيلية. أمام ذلك، ارتفعت أسعار البضائع بشكلٍ خيالي. فكيلو واحد من الطحين، زاد سعره من حوالي 35 و40 شيكلاً، إلى 100 شيكل أولاً، ثم إلى 200 و300 شيكل بعد يومين، وهو أعلى سعر للكيلو الواحد منذ بداية الحرب، ويُساوي سعر حوالي 6 أكياس كاملة من الطحين في الزمن العادي، زمن ما قبل الحرب.

كانت الأيام الأخيرة الأصعب، عليّ شخصياً، وعلى عائلتي، وعلى الناس، على الرغم من قناعتي أنني أفضل من غيري بكثير، في قدرتي على تأمين الحد الأدنى من احتياجاتي مسبقاً، بسبب طبيعة عملي كاتباً في مواقع خارج غزة. لكنني شهدتُ ساعاتٍ صعبة مع أشخاصٍ كثيرين، تواصلوا معي لمساعدتهم، وهو وقتٌ صعب، يصعب على الناس مساعدة بعضهم فيه، فكُل ما لدى أي شخص في غزة الآن، مهما خزّن وخبأ من الطعام، لا بُد أنه قليل جداً مع أكثر من أربعة أشهر من الحصار، ويُفكّر الشخص قبل مساعدة الآخرين في نقطة مهمة، فلو قدّمت هذا لغيري، سآكل اليوم وغداً، ورُبما لن آكل بعد الغد، فماذا لو صارت أيام المجاعة الشديدة بدل يوميَن ثلاثة وأربعة؟

تواصل معي رجلٌ ستيني، أحاول في بعض الأحيان مُساعدته من خلال أصدقاء وأهل الخير وبعض المؤسسات، ومما يتوفّر حولي. الرجل مريض بالسُّكر، ويُعاني من إعاقة جسديّة تُصعِّب حركته، وزوجته وابنه مرضى بالسرطان، يعيشون بلا مُعيل. نزحت بناته الخمس إلى بيته، وتعيش العائلة بناءً على ذلك في وضعٍ لا يُمكن تخيله من المعاناة والفقر والجوع. قال الرجل إنه عادةً لا يطلب من أحد، فيكتبُ الله رزقه سريعاً من دون أن يطلب، ويجد في كلّ مرة من يُقدِّم له الخير قبل أن يسأل، لكنهُ اضطر هذه المرة إلى محادثتي وسؤالي.

قال بالحرف الواحد: "لا أُريد طحين، فهو حُلم بالنسبة للناس، وبالنسبة لك كما هو بالنسبة لي، لكنني أُريد بعض العدس أو الفاصولياء. ونحنُ كعائلة كبيرة من 20 شخصاً لم نأكل منذُ الأمس سوى 3 أقراص من الفلافل لكل شخص، بلا خُبز وبلا شيء، واشتريناها بما يُقارب 10 شيكل".

لم أتحمّل كلام الرجل، لكنه لم يكُن الوحيد، فقد تواصلت سيّدة أخرى مع زوجتي، ممن كُنا نساعدهم بالطريقة السابقة. قالت إنها لا تُريد المال، تريد فقط أيّة لُقمة أو ما يكفي لعمل طبخة واحدة من الأرز أو العدس، لتُطعم أطفالها هذا اليوم فقط. أمّا امرأة أُخرى، فتواصلت مع زوجتي أيضاً، وهي حامل، تطلبُ منها مساعدتها في أيّ شيء، كي تستطيع حماية جنينها.

لم يتوقّف الأمر عند هذا، فصباح اليوم التالي، تواصلت ابنة خالتي مع أُمي في ساعات الصباح الأولى. قالت أُمي إنها تتوقع السبب، وصَدَقت، فقد طلبت ولو رغيفيْن من الخُبز، قالت: "والله يا خالتي، ابني من الليل ما أكل شي. وطول الليل جعان، بحاول أصبّره، وخلّيت أخته تلهيه وتسكّته".

في المجموعة الخاصة بعدد من الأصدقاء، سألت فتاة أيضاً عن قدرة أيّ شخص على توفير ولو رغيفين من الخُبز، وبمُقابل. انقلب الحديث في المجموعة عن المجاعة وعن خيارات الأكل. قُلت إنني لا أمتلك الطحين، فعندما بدأتْ الأزمة كنت أمتلك كيساً واحداً، ونفد، ولا أزال أعيش على بعض الأرغفة، التي تُرسلها أُمي من مخزونها، وأحاول كلما توفّر شراء بعض خبز الصاج غالي الثمن، صغير الحجم، وعديم الفائدة. لكن اسمه خُبز على الأقل.

قال شخصٌ آخر في المجموعة إنه حاول خلال يوميْن البحث عن طحين أو شراء الصاج أو الخبز، لأجل ابنته، لكنه لم يجدهُ أبداً. كان ذلكَ مساء الجمعة الفائتة، مع ذروة صعوبة الوضع، وبعد انقطاع كامل لكل البضائع وتوقف التجار والباعة عن العمل في الأسواق، وبعد ثورة هائلة قام بها الناس الجائعون واللجان الشعبية، ضدّ كل تاجر يقوم بالبيع بأسعار مرتفعة.

صباح الأحد 20 تموز/ يوليو، كان اليوم الأثقل في الحرب. ظهر أنس الشريف مراسل الجزيرة وهو يبكي، وعلى الشاشة ظهر الخبر بوضوح: "54 شهيداً بنيران جيش الاحتلال منذ فجر اليوم بينهم 51 من طالبي المساعدات". وفي وقت عرض الخبر، كانت عدّة مستشفيات في غزّة تستقبل أعداداً هائلة من الجثامين، التي تُنقل على عرباتٍ تجرها حيوانات، وعلى سيارات "توك توك" شعبية صغيرة. امتلأ مستشفى الشفاء واعتذر عن استقبال الضحايا

هذا الأمر انقلب ضدّهم، كطبيعة كل الأشياء بالنسبة إلى أهل غزة. فمع إغلاق الأسواق وهروب الباعة، اضطروا إلى تخزين وإخفاء بضائعهم، لتزيد الأسعار بشكل يفوق الخيال. صار الناس يدركون أن غزّة الآن هي أغلى بلد في العالم من حيث المعيشة وتكلفة الطعام. هي كذلك من حيث أسعار الإيجارات، مع الدمار الهائل وانعدام فرص العيش، عدا في الخيم. فإيجارات الشقق تبدأ من 600 دولار فأكثر إن كان الشخص محظوظاً، وتكون في العادة 1000 دولار أو أكثر، بحسب المساحة وحجم العائلة التي ستعيش فيها. أيضاً هي أكثر بلد من حيث انعدام فُرص الأمن والخطورة. ماذا أكثر؟ لا أعتقد أن هناك أكثر. لا يعتقد الناس أن في العالم شيئًا أسوأ مما يعيشونه.

ستستمر الحال على هذا الشكل، طالما بقيت غزّة بلا حلول. أيّ حل يكسر حدّة المجاعة ويسهم في مساندة أهلها. فهُم الآن في دوامة كبيرة، بين الموت والجوع. ترفض إسرائيل تأمين أية جهة للبضائع والمساعدات التي تدخل، على الرغم من قلتها، وتعتبر كلّ من يؤمِّن البضائع منتمياً إلى "حماس". وفي حال عدم تأمين الشاحنات، تُسرق، ويستولى عليها من يمتهن السرقة وبيع المساعدات، لتبقى الدوامة مستمرة. بضائع تدخل بلا تأمين، تُسرق، ثُم تُباع بأسعار خيالية، يتم احتكارها وفق أهواء مجموعة من الأولاد عديمي الضمير والأخلاق.

وبلا حل يتداعى إليه كل الأطراف، بدءاً من "حماس" ووفدها المفاوض، الذي لا يزال يَعد بالوصول إلى صفقة، وحتى السلطة الفلسطينية، والدول العربية، وغيرهم من المسؤولين الأوروبيين والدوليين، لن تُحل الأزمة، وستبقى في دوامةٍ كُبرى: حصار غذائي، ومساعدات شحيحة، وسرقة، ومجاعة.

هذه الأحداث التي نعيشها، والمجاعة المتفشية، يبدو أن لا أحد يراها. صباح الأحد 20 تموز/ يوليو، كان اليوم الأثقل في الحرب. ظهر أنس الشريف مراسل الجزيرة وهو يبكي، وعلى الشاشة ظهر الخبر بوضوح: "54 شهيداً بنيران جيش الاحتلال منذ فجر اليوم بينهم 51 من طالبي المساعدات". وفي وقت عرض الخبر، كانت عدّة مستشفيات في غزّة تستقبل أعداداً هائلة من الجثامين، التي تُنقل على عرباتٍ تجرها حيوانات، وعلى سيارات "توك توك" شعبية صغيرة. امتلأ مستشفى الشفاء واعتذر عن استقبال الضحايا، ثم نُقلوا إلى مستشفى القدس ومستشفى الهلال الأحمر الميداني، فيما كانت تصل العديد من الجثامين إلى عيادة الشيخ رضوان ومستشفى حمد في شمال غزّة، وفي أغلبها جثامين بلا رؤوس، لا يُعرف لها معالم، ولا من هم أصحابها.

مقالات ذات صلة

هؤلاء الشهداء الذين صاروا جثامين تُرصّ في خطوط تحت أقدام الناس في بقايا المستشفيات، بالتأكيد كانوا يعيشون في الأيام الماضية، مأساةً كبيرة، عندما لم يتمكنوا من توفير الطحين ولا الطعام لأطفالهم، وقد كان خيارهم واحداً من اثنين: النظر إلى أجساد أطفالهم الهشّة بلا طعام، أو المُخاطرة ومحاولة الوصول إلى الطحين، مع احتمال الموت.

أفكّر الآن، في كيف سيشعر أبناء هؤلاء الرجال؟ بما سيفكّرون؟ كيف سيكبر الطفل الذي يعرف أن والده توفي وهو يحاول الحصول على طعام من أجله؟ إنها ندبة قويّة، أسوأ من كُل ندبات الجسد. ندبة ستلاحقهم طويلاً بل إلى الأبد في قلوبهم، حين يتذكّر أن ثمن اللقمة كان حياة والده. رُبما كان الموت قصفاً أهون من هذه الكارثة، حين نُدرِك أن مصيرنا أن نموت بالأسلحة والطيران. لكن أن نموت ونحن نحاول الحصول على الطعام، ألّا تبدو شيئاً شاذاً في نظر عالم يعشق الحروب؟!

مقالات من فلسطين

الحرية للأطباء الأنبل في هذا العالَم..

2025-07-17

تبقى الأصوات العالمية خجولة، بل متواطئة بصمتها، إزاء ما يحدث للجسم الطبي الفلسطيني. أين تقف نقابات الأطباء في العالم، وبالأخص نقابات الأطباء العربية، من هذا المشهد؟ نسأل وقد قُتل نحو...

نقاش هادئ حول ألم غزة

غيَّرت تضحيات غزة المهولة الموقف العالمي الذي كان راسخاً في ميله إلى تأييد إسرائيل، أو على الأقل إلى التعاطف معها: في أوروبا والغرب إجمالاً، بحكم شعورهم بالذنب بسبب المحرقة اليهودية...

تقرير الأمم المتحدة: هذا اقتصاد إبادة جماعية

2025-07-03

يُفصّل التقرير الذي شاركته ألبانيزي في أول تموز/يوليو 2025، كيفية تحوَّل اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي إلى "اقتصاد إبادة" بعد السابع من أكتوبر 2023، بدعمٍ من شبكة عالمية من الشركات الكبرى المتواطِئة...

للكاتب نفسه

نقاش هادئ حول ألم غزة

غيَّرت تضحيات غزة المهولة الموقف العالمي الذي كان راسخاً في ميله إلى تأييد إسرائيل، أو على الأقل إلى التعاطف معها: في أوروبا والغرب إجمالاً، بحكم شعورهم بالذنب بسبب المحرقة اليهودية...

أفراح الطحين.. ومصائده

استُشهد العشرات من منتظري المساعدات في المكان نفسه، قرب "دوار السودانيّة"، شمال غرب غزّة، بعد إعدامهم مباشرةً من جنود الاحتلال، حيث نُصبَ لهم كمينٌ، برمي كثيرٍ من أكياس الطحين في...