في كفر السنابسة: أحلام كبيرة وطريق قاتل ونظام لا يعترف بالخطأ

كانت شيماء "وردة البيت". ومع ذلك، لم تلجأ عائلتها إلى اللعن أو اتهام أحد. لم يلوموا السائق، حتى لو كان متهوراً، ولا الطريق الإقليمي المهمَل، ولا المسؤول الذي يحاول التملص من مسؤوليته. فالمسؤول الحقيقي هنا قد يكون نظاماً بأكمله، لا يراعي العدالة الاجتماعية، ويدفع الفقراء إلى الكد يومياً بحثاً عن لقمة العيش، من دون أن يوفر لهم أبسط حقوقهم في السلامة.
2025-07-10

صفاء عاشور

باحثة وصحافية من مصر


شارك
منازل في "كفر السنابسة"، المنوفية - مصر. تصوير: صفاء عاشور، خاص بالسفير العربي.

في بيت يخلو من أي مظاهر للترف، كبيت مئات الفقراء من سكان كفر السنابسة[1] التابعة لمحافظة المنوفية، تستيقظ الطفلة آيات زغلول (14 عاماً)، في السادسة صباحاً. تشعل روحها المرحة البيت بالفرحة، ويزداد الجو توهجاً باستيقاظ شقيقتها الكبرى آية (21 عاماً)، التي تدرس في السنة الثالثة بكلية تربية قسم علوم، وتحلم بمعادلة دراسية عقب التخرج، لتتأهل إلى العمل في مختبر للتحاليل الطبية، أو ربما لامتلاك مختبر خاص بها يوماً ما.

أما آيات فكانت لا تأبه للفقر الذي يحاصر عائلتها ومشقة الأحلام. تمنت أن تصير طبيبة، ربما لتوقف معاناة أهالي قريتها مع المرض، واضطرارهم للجوء إلى الوحدة الصحية القريبة ذات الإمكانيات المحدودة. آيات وآية، كانتا تحلمان أحلاماً كبيرة في واقع هش، وتعملان خلال الإجازات الدراسية كعاملات زراعيات باليومية، لتوفير نفقات دراستهما، وإعالة أسرتهما، بعكس أختهما الكبرى إسراء، التي توقفت عن العمل منذ بضعة أشهر لزواجها. فالنساء المتزوجات في القرية يتفرغن لرعاية البيت وتربية الأطفال، في حين يعمل أغلب الرجال في أعمال مؤقتة، في البناء والزراعة وتحميل المنتجات الزراعية.

نجت إسراء من الحادث الأليم في الطريق الإقليمي، الذي وقع بتاريخ الجمعة 27 حزيران/ يونيو الفائت، أمام مركز أشمون بمحافظة المنوفية، عقب اصطدام شاحنة نقل ثقيل بالميكروباص الذي كان يقل 21 فتاة من عاملات اليومية بقرية السنابسة، تتراوح أعمارهن بين 14 و22 عاماً. أسفر الحادث عن موت 18 فتاة من بينهن آية، بينما تقبع الشقيقة الصغرى آيات في العناية المركّزة، كواحدة من الإصابات الثلاث في الحادثة، وتعاني من ارتشاح في المخ، وكسور مضاعفة في القدمين والفخذين، وانخفاض في مستوى الوعي.

تقول إسراء: أخبرنا الطبيب بنجاحهم في وقف نزيف المخ، لكن آيات ستحتاج إلى عدد من العمليات لزرع شرائح ومسامير في قدميها حال الإفاقة. تصمت إسراء للحظات، ثم تكمل في حسرة: حاولتُ لمس يد آيات، فانتفض جسدها الصغير، وهرع الممرضون والأطباء لفحصها، وانتهت الزيارة سريعاً.

عند زيارة "السفير العربي" إلى قرية كفر السنابسة، بعد مرور ما يقرب من خمسة أيام على وقوع الحادثة، كان الحزن الثقيل يملأ المكان، ومنازل شهيدات لقمة العيش مفتوحة لتلقِّي العزاء، فيما كانت قاعات استقبال المعزين في المنازل متشابهة جميعها: غرف ضيقة سيئة التهوئة، خافتة الإضاءة، وجدران كالحة الطلاء، وحصير[2] رخيص لا لون له يغطى الأرضية، عليه وسائد، وربما مقعد أو اثنان لكبار السن، ومن جاء من خارج القرية للعزاء. بينما يخيم الوجوم على الوجوه، بخاصة أمهات الشهيدات، اللاتي اشتركن في عدم البكاء ونظرات الشرود، وأحياناً الصمت ورفض الحديث، وتولى الحديث عنهن الخالات والعمات وأشقاء الشهيدات. وكان هناك إجماع بين أهالي القرية على كون الفتيات الـ18 حرصن على الالتحاق بمراحل التعليم المختلفة، وعلى مشاركة عائلاتهن في الأعباء المالية للمنزل، وهو ما دفعهن إلى سوق العمل مبكراً، أملاً في عالم أفضل.

"لو كل الناس التزمت بالآداب والسلوكيات المرورية، لن نشهد حوادث فاجعة"[3]، كان ذلك أحد التصريحات الإعلامية عقب الحادث للوزير كامل الوزير، وزير النقل والصناعة الحالى ، الذى حاول التملص من المسؤولية خلال تصريحاته المتلاحقة، وتجاهل الإصلاحات في الطريق التي أدت إلى اقتطاع مساحة منه، كما رصدت كاتبة النص خلال رحلتها للقاء أهالي الضحايا، فضلاً عن غياب الإنارة المناسبة، وكاميرات مراقبة، أو نقاط الإنقاذ للطوارئ، مع تناقض واضح بين عربات نقل الركاب الجماعية المتهالكة، وعدد هائل من عربات النقل الضخمة المحمّلة بجميع أنواع السلع.

وإلى ذلك، لم يقوَ مسؤول على الاعتراف بمسؤوليته عن الحادث، ولم تحدث موجة من الاستقالات كما كان متوقعاً، حتى مع تكرار حادث التصادم في تاريخ يوم السبت 5 تموز/ يوليو، أي بعد أسبوع من الحادث الأليم ذاك، باتجاه منشأة القناطر بمحافظة المنوفية أيضاً، الذي أسفر عن وفاة 9 أشخاص على الأقل، وإصابة آخرين.

طرقات هشة

تُقى أيضاً كانت في نفس عمر آيات، وعلى الرغم من أن والدتها كانت دائماً ما تجد صعوبة في إيقاظها للحاق بفتيات القرية من العاملات الزراعيات، إلا أن تقى، استيقظت يوم الحادث بنشاط، وارتدت ملابسها على عجل، كأنها تتحضر للقاء الموت. رفضت أيضاً الإفطار، وقالت إنها ستشتري إفطارها من الطريق كزميلاتها: قرص وفطيرة أو رغيف من العيش الفينو، وكيس من رقائق البطاطس... إفطار رخيص بسيط، خالي من العناصر الغذائية التي يحتاج إليها جسد الطفلة، يملأ معدتها الصغيرة، لتتفرغ لأحلامها في استكمال الدراسة والوصول إلى الجامعة.

كانت تُقى كغيرها من فتيات الكفر، تخرج من منزلها قبل موعد التجمع في سيارة الميكروباص بحوالي ساعة، حتى توفر أجرة التوك توك لإفطارها وغذائها. ووفقاً لوالدتها، فإن أجرتها اليومية لم تتعدَ 130 جنيهاً، ما يعادل أقل من 3 دولارات أمريكية، تقتطع منها حوالى 30 جنيهاً أو أقل لطعامها. فيوم العمل طويل، يمتد من الساعة السابعة صباحاً إلى الثامنة مساءً. وفترة العمل تقتصر على أشهر إجازة الصيف في الغالب، بالنسبة إلى الملتحقات بالمدارس كتُقى، التى ظهرت نتيجتها في المرحلة الإعدادية عقب أيام من وفاتها، وكعادتها حلت في مرتبة الأوائل. لكن والدة تقى قالت في حزن، إن شهادة النجاح لا معنى لها ولا طعم.

كان الحزن الثقيل يملأ المكان، ومنازل شهيدات لقمة العيش مفتوحة لتلقِّي العزاء، فيما كانت قاعات استقبال المعزين في المنازل متشابهة جميعها: غرف ضيقة سيئة التهوئة، خافتة الإضاءة، وجدران كالحة الطلاء، وحصير رخيص لا لون له يغطى الأرضية، عليه وسائد، وربما مقعد أو اثنان لكبار السن، ومن جاء من خارج القرية للعزاء.

لم يقوَ مسؤول على الاعتراف بمسؤوليته عن الحادث، ولم تحدث موجة من الاستقالات كما كان متوقعاً، حتى مع تكرار حادث التصادم في تاريخ يوم السبت 5 تموز/ يوليو، أي بعد أسبوع من الحادث الأليم ذاك، باتجاه منشأة القناطر بمحافظة المنوفية أيضاً، الذي أسفر عن وفاة 9 أشخاص على الأقل، وإصابة آخرين.

وعلى الرغم من إقبال الفتيات في قرية السنابسة على التعليم، إلا أنه لا يوجد في القرية غير مدرسة إعدادية واحدة، تعمل بنظام الفترتين لاستيعاب الأعداد الكبيرة. أما المدرسة الثانوية فبعيدة جداً، والوصول إليها يحتاج إلى ما لا يقل عن 25 جنيهاً يومياً، هذا في حال مشاركة الطالبة التوك توك مع زميلات أخريات، وهو مبلغ مكلف جداً للأهالي. لذا فأغلب الفتيات يسعين إلى العمل خلال فترات الإجازة، لتوفير مصاريف الدراسة والدروس الخصوصية. وكما قال أحد الآباء المكلومين، إن مقدرته تقف عند حد شراء فستان واحد لابنته خلال العام، لكنها بعملها توفِّر حياة أفضل لها ولأسرتها. أغلب الأهالي نفوا أن الفتيات يعملن بدافع الفقر، وربما هم لا يعلمون أساساً الفارق بين ما هم فيه من الفقر والغنى، تماماً كما يجهلون حقوق الشهيدات، وضرورة تحقيق العدالة لأرواحهن.

والد يحمل صور بناته القتيلات. تصوير صفاء عاشور، خاص بالسفير العربي

يطالب الأهالي أيضاً ببناء مدرسة ثانوية في القرية، وتوفير فرص عمل للفتيات داخل السنابسة، حتى لا يضطررن إلى الخروج من القرية للعمل. يأملون كذلك في بناء مستشفى، أو تحسين أوضاع الوحدة الصحية في القرية، فالأثر الذي ستحدثه فاجعة موت الفتيات في تحسين أوضاع القرية، ربما سيهدّئ قليلاً من جحيم فقدانهن.

بلا حقوق

تتبع قرية كفر السنابسة مركز منوف في محافظة المنوفية، ولن تجد عن القرية معلومات مفصّلة عبر شبكة الإنترنت، فهى واحدة من آلاف القرى الفقيرة، المنتشرة في ريف مصر، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، والتي بنيت على الأراضي الزراعية، حين شعر المزارعون بالحاجة إلى توفير مساكن لأبنائهم، بينما عجزت الدولة عن توفير البديل. يظهر ذلك، عبر خرائط غوغل، من الشكل النجمي للقرية، ففي النواة بدأ أول منزل، وانتشرت حوله المنازل بشكل غير مخطط، تمتد على شكل نجمي دلالة على محاولة الاقتراب من الطرق الجديدة، والانتفاع منها ومن الخدمات المقدمة في القرى المجاورة، ومصادر الرزق.

الطرقات في قرية السنابسة غير ممهدة، والفتيات الشهيدات اعتدن على السير في مجموعات صغيرة خلال رحلة العمل اليومية، فهل تعثرت إحداهن في يوم الحادثة كما كدتُ أتعثر؟ وهل كن يسرن في مرح من دون التخلي عن التقاليد المحافظة؟ يتهامسن في حميمية، ووجوههن تشرق بالنضارة والأحلام، تفلت من إحداهن ضحكة رائقة، سرعان ما تكتمها، حتى تصل عربات الميكروباص التى تنقلهن إلى مزارع العنب، وبمجرد صعودهن إلى العربة تعلوا أصوات الضحك والغناء في بهجة يقطعها الموت.

على الرغم من إقبال الفتيات على التعليم، إلا أنه لا يوجد في القرية غير مدرسة إعدادية واحدة، تعمل بنظام الفترتين لاستيعاب الأعداد الكبيرة. أما المدرسة الثانوية فبعيدة جداً، والوصول إليها يحتاج إلى ما لا يقل عن 25 جنيهاً يومياً، وهو مبلغ مكلف جداً للأهالي. لذا فأغلب الفتيات يسعين إلى العمل خلال فترات الإجازة، لتوفير مصاريف الدراسة والدروس الخصوصية.

أغلب الأهالي نفوا أن الفتيات يعملن بسبب الفقر... وربما هم لا يعلمون أساساً الفارق بين ما هم فيه من الفقر والغنى، تماماً كما يجهلون حقوق الشهيدات، وضرورة تحقيق العدالة لأرواحهن. وذكر الأهالي عدم زيارة أيِ من المسؤولين في الدولة لمنازلهم المتواضعة لتقديم واجب العزاء، وهو أمر يعكس العلاقة بين السلطة والمواطنين، خاصة من أبناء الطبقات الفقيرة. وقد تكرر ذلك في كثير من الحوادث المفجعة السابقة. 

تُعد محافظة المنوفية من أهم محافظات العمالة الزراعية، إذ تمثل "العمالة اليومية الزراعية" جزءاً من العمالة غير المنتظمة في المراكز ذات النشاط الزراعي الكثيف مثل: شبين الكوم، الباجور، تلا، والشهداء. وهي مراكز رئيسية في محافظة المنوفية. والمحافظة تقع في منطقة الدلتا الخصبة، وتتميز بكثافة سكانية مرتفعة كسائر محافظات الدلتا.

أما مركز منوف، الذي يضم قرية السنابسة، فيعد مركزاً حضريّاً في المحافظة، ويضم عدداً من المؤسسات الخدمية، ومركزاً للنشاط الزراعي والتجاري وسط المحافظة. وربما من هنا جاء إعلان المحافظة عن إطلاق أسماء الشهيدات الـ18 على المباني الحكومية في المركز. وذكر الأهالي عدم زيارة أيِ من المسؤولين في الدولة لمنازلهم المتواضعة لتقديم واجب العزاء، وهو أمر يعكس العلاقة بين السلطة والمواطنين، خاصة من أبناء الطبقات الفقيرة، وقد تكرر ذلك، في كثير من الحوادث المفجعة السابقة.

يقر قانون العمل المصري عدم جواز إلحاق الطفل بسوق العمل قبل بلوغه سن الخامسة عشرة، أي بعد إتمام التعليم الأساسي. لكن القانون يسمح بتدريبه في سن الرابعة عشرة وفقاً للتعديلات الأخيرة. إلا أن الواقع في المجال الزراعي، خاصة في القرى، يختلف كثيراً. فوفقاً لتقارير منظمات مثل اليونيسف والمجلس القومي للطفولة والأمومة، يُسمح أحياناً بتشغيل الأطفال دون السن القانوني، في أعمال زراعية تدار "خارج الإطار الرسمي". وغالباً ما تدار هذه العمالة، من قبل مزارعين أو مقاولي توريد محليين، وتعمل بنظام اليومية، من دون عقود أو تأمينات أو أي حقوق. وتتفاوت الأجور بحسب الموسم ومدى توفّر العمالة، وترتفع عادة في الشتاء، حين يقل عدد العاملين بسبب التزام الأطفال بالدراسة. وفي كثير من القرى، تُعد هذه الأعمال مصدر الدخل الرئيسي للأسر، خاصة خلال مواسم جني المحاصيل.

من بين ضحايا الحادث، كانت ملك، التي اتخذت قراراً بالتخلي المؤقت عن حلمها في إتمام الدراسة الثانوية العامة، واختارت التعليم الفني بدلاً منها، نظراً لانخفاض مصروفاته، ولكونه لا يتطلب حضوراً منتظماً طوال العام الدراسي. كانت ملك تأمل في جمع مبلغ من المال، خلال عملها كمزارِعة باليومية، كي تتمكن في المستقبل من دخول الجامعة. كانت تعيل أسرتها، وتحرص على ألاّ تطلب من والدها شيئاً فوق الضروريات، مراعاة لمرضه، وعمله غير الثابت.

فوالد ملك، مثل غالبية رجال القرية، "يشتغل بذراعه"، أي إنه عامل يومية، بلا راتب ثابت، وبلا معاش. ففي قرية كفر السنابسة، لا توجد وظائف ثابتة تضمن الحد الأدنى من الأمان الاقتصادي.عند زيارة منزل ملك بعد الحادث، كانت والدتها جالسة في هدوء تام، ملامح وجهها جامدة، بلا أدنى انفعال. كانت عيناها معلقتين على الباب، وكأنها لا تزال تنتظر عودة ملك.

متجمعات بصمت. تصوير صفاء عاشور، خاص بالسفير العربي

العنب البنّاتي

على الرغم من أن ساعات العمل للفتيات كانت تمتد لـ12 ساعة، إلا أن الأهالي أكدوا أن العمل لم يكن شاقاً، فالفتيات يعملن في تجهيز العنب للتصدير، وليس في الجني. لكن عملية التجهيز في الحقيقة شاقة جداً، تتضمن فرز العناقيد السليمة، والقص والتقطيع، والتغليف داخل محطات التعبئة، غالباً تحت إشراف شركات تصديرية أو ملاّك مزارع. وكان هناك تكتم شديد بين الأهالي، في الإفصاح عن ملاَك المزارع، التي كانت تعمل فيها الفتيات ضحايا الحادث، خوفاً من قطع أرزاق الباقيات!

على كل الأحوال، فالعمل في تلك المزارع يتم من دون عقود مكتوبة أو تأمين اجتماعي، وفي ظل غياب الرقابة الكافية، تتكرر الانتهاكات مثل العمل دون وسائل حماية أو تدريب، إلى جانب مخاطر النقل الجماعي غير الآمن. وعلى الرغم من ارتباط هذه الوظائف بتوفير مصاريف التعليم، ودخل إضافي للأسر، فإنها تكشف عن هشاشة أوضاع العاملات الزراعيات.

وبالعودة إلى الحادث: نجد أن الميكروباص في مصر مصمم في الغالب لحمل 14 راكباً، لكن الحادث المأساوي في كفر السنابسة كشف عن وجود 22 شخصاً بداخله: 18 فتاة لقين حتفهن، إضافة إلى السائق وثلاث مصابات. هذا يعني أن ثمانية فتيات على الأقل كان يمكن أن ينجين لو لم تُحشر العربة بهذا الشكل القاتل.

يمكن تخيل حجم الزحام في تلك اللحظات الأخيرة. تقول إحدى سيدات القرية: "بناتنا كن صغيرات الحجم، لا يزعجهن التزاحم، بل يجدن فيه متعة، خاصةً أن أغلبهن من الأقارب، وينتمين إلى عائلات مترابطة".

وخلال التنقل من وإلى القرية، لاحظت كاتبة النص أن بعض مالكي الميكروباص يعمد إلى تركيب مقاعد إضافية، وتقليل المسافة بين المقاعد الأصلية، وذلك لزيادة الحمولة. يحدث هذا في ظل تهالك العربات، وهو ما يطرح تساؤلات عن صلاحية الميكروباص، الذي كان ينقل الفتيات يوم الحادث.

كان هناك تكتم شديد بين الأهالي، في الإفصاح عن ملاَك المزارع، التي كانت تعمل فيها الفتيات ضحايا الحادث، خوفاً من قطع أرزاق الباقيات! وعلى كل الأحوال، فالعمل في تلك المزارع يتم من دون عقود مكتوبة أو تأمين اجتماعي. وفي ظل غياب الرقابة الكافية، تتكرر الانتهاكات مثل العمل دون وسائل حماية أو تدريب، إلى جانب مخاطر النقل الجماعي غير الآمن.

يطالب الأهالي ببناء مدرسة ثانوية في القرية، وتوفير فرص عمل للفتيات داخل السنابسة، حتى لا يضطررن إلى الخروج من القرية للعمل. يأملون كذلك في بناء مستشفى، أو تحسين أوضاع الوحدة الصحية في القرية، فالأثر الذي ستحدثه فاجعة موت الفتيات في تحسين أوضاع القرية، ربما سيهدّئ قليلاً من جحيم فقدانهن. 

في يوم الحادث أيضاً، كانت هناك ثلاث عربات ميكروباص متجهة إلى ما يعرف بين الأهالي بـ"مزارع الجبل". واحدة منها فقط تعرضت للحادث، وكانت تقل إحدى التوأمين: هناء، التى لقيت مصرعها وتركت شقيقتها التوأم رنا وحيدة. فعندما ركبتْ رنا الميكروباص، لم تجد شقيقتها مكاناً إلى جوارها، فقالت لها: "لا بأس، سأركب الميكروباص الآخر". وكانت هذة كلماتها الأخيرة.

تأخرتْ هناء في العودة بحوالي نصف ساعة، وحين حاولت رنا الاتصال بالمشرفة المسؤولة عن الفتيات، لم تتلق رداً. وبعد لحظات، وصلها الخبر الصاعق: وفاة زميلاتها، وفي مقدمتهن شقيقتها هناء. رنا وهناء لم تكونا تفترقان أبداً، كما تكرر والدتهما، والآن تجلس رنا مذهولة، تتلقى العزاء، ولا تدري كيف ستكمل الحياة وحدها.

أما شيماء فكانت تحلم بأن تصير ممرضة. كانت تداعب والدها دائماً، وتقول له إن عليه أن يستعد، لأن دراستها ستكون مكلفة، وتعده بأنها سترفع اسم العائلة. كانت "وردة البيت". ومع ذلك، لم تلجأ عائلتها إلى اللعن أو اتهام أحد. لم يلوموا السائق، حتى لو كان متهوراً، ولا الطريق الإقليمي المهمَل، ولا المسؤول الذي يحاول التملص من مسؤوليته. فالمسؤول الحقيقي هنا قد يكون نظاماً بأكمله، لا يراعي العدالة الاجتماعية، ويدفع الفقراء إلى الكد يومياً بحثاً عن لقمة العيش، من دون أن يوفر لهم أبسط حقوقهم في السلامة.

في أعقاب الحادث، كلف الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكومة بدراسة إغلاق أجزاء من الطريق، خاصةً تلك التي تشهد أعمال صيانة ورفع كفاءة، ثم أصدر قراره بإغلاق الطريق لمدة أسبوع، بدءًا من الثامنة صباح الثلاثاء 8 تموز/ يوليو. لكن، هل كان يمكن أن يصدر القرار قبل بضعة أيام فقط؟، لو حدث ذلك، ربما كانت آيات ستكمل حلمها في الالتحاق بكلية الطب،على الرغم من ظروف أسرتها. وربما دخلت هناء ورنا عامهما الدراسي الجديد معاً. وربما قفزت تُقى فرحاً حين عرفت أنها من أوائل صفها، فعاتبتها أمها على الصخب، بينما ارتسمت على وجهها ابتسامة فخر بابنتها التي تكمل حلمها في التعليم.

______________________

  1. قرية تقع في منطقة الدلتا شمال القاهرة، مركز منوف، المنوفية.
  2. الحصير: سجادة مصنوعة من الألياف، تستخدم في القرى الريفية.
  3. تصريحات إعلامية لوزير النقل والصناعة كامل الوزير: https://2u.pw/R3ooI

للكاتب نفسه

"الإبادة من المسافة صفر" .. الآن!

صفاء عاشور 2025-03-06

هناك ما يمكن تنفيذه في الحال: إنشاء متحف إلكتروني لتخليد الإبادة ضد غزة، حيث يسهل جمع كافة الصور والفيديوهات والشهادات حول الجرائم الإسرائيلية، والحصول على حقوق عرضها، سواء تلك المملوكة...