لن تُحرِّر غزة، وحدها، كل فلسطين. هي – ولوحدها الى حد كبير - دفعت ثمناً مهولاً، كان من نتائجه فضح وجه إسرائيل البشع، الشيطاني، أمام كل البشرية.
غيَّرت تضحيات غزة المهولة الموقف العالمي الذي كان راسخاً في ميله إلى تأييد إسرائيل، أو على الأقل إلى التعاطف معها: في أوروبا والغرب إجمالاً، بحكم شعورهم بالذنب بسبب المحرقة اليهودية للنازيين، وتواطؤهم مع تلك المحرقة بدرجات وأشكال مختلفة، وأيضاً لأن فكرة قاعدة أمامية للاستعمار في بلادنا، أغْرت حكوماتهم الاستعمارية التي كانت قد خسرت كثيراً من مواطئ أقدامها المباشرة على أرضنا. وفي سائر العالم، بحكم الجهل بالموضوع، والغرق في مصائبهم الخاصة، ولكنهم مع أهوال غزة عقدوا رابطاً بين تلك المصائب وفلسطين.. ومأساة غزة وقوة احتمال سكانها، دفعت كثيراً من الدول – وليس من الشعوب فحسب - إلى إدانتها، وبلورت حركات، وإعلانات وعرائض، من فنانين ومثقفين وكتّاب، ومن سواهم، تقول: "من النهر إلى البحر"، و"هذه إبادة"، و"هذه من أبشع مجازر العصر الحديث"... وهي جعلت أغلبية من اليهود عبر العالم يتبرأون من إسرائيل، ويعلنون رفضهم لما تقوم به، رافعين شعار "ليس باسمنا"... وطورت الوعي بالصلة بين ما هي عليه الصهيونية وإسرائيل منذ التأسيس الوظيفي لها، وما تقوم به الآن، وبين السطوة الامبريالية على العالم، الجشعة والدموية.
هذه أعلاه هي البداية، الموقف الأساس، الذي ينطلق منه هذا النص، وهو موقف سياسي وليس عاطفياً (مع أنه ليس في العاطفية والتعاطف ما يُعاب).
غزة: لن ننسى ولن نسامح
26-06-2025
يكثر الحديث في مواقع التواصل الاجتماعي، والجدال، بين فريقيْن، ويزيد في الفترة الأخيرة، ونحنُ ربما كنا على أعتاب نجاح مفاوضات وقف إطلاق النار والتهدئة، بين حركة حماس وإسرائيل. الفريقان، فريق المؤِيدين لإنهاء الحرب بأيّ شكل، والآخر، فريق الرافض لإنهائها، تحت حُجة "رفض الاستسلام". ويتطرّف الفريق الثاني ذاك في وضع افتراضاتٍ صادمة، ومؤثّرة وصعبة نفسياً، لما يراه، شكلاً وتصوراً، للمواطن الغزّاوي، ما دفعني إلى أن أسأل نفسي: هل يعرف العالم أن أهل غزّة بشر؟
غزة دفعت كثيراً من الدول – وليس من الشعوب فحسب - إلى إدانة إسرائيل، وبلورت حركات تقول: "من النهر إلى البحر"، و"هذه إبادة"، و"هذه من أبشع مجازر العصر الحديث"... وهي جعلت أغلبية من اليهود عبر العالم يتبرأون من إسرائيل، ويعلنون رفضهم لما تقوم به، رافعين شعار "ليس باسمنا"... وطورت الوعي بالصلة بين ما هي عليه الصهيونية وإسرائيل، وبين السطوة الامبريالية على العالم، الجشعة والدموية.
إنهُ سؤالٌ حقيقي، وطبيعي، من وحي التجربة. أقرأهُ كلّ يوم. فمثلاً، حين غرّد صحافي شهير يعمل في قناة الجزيرة، وهو يُعَد "واجهة صمود" بالنسبة إلى كثيرين من مؤيدي غزّة - ومن مؤيدي حماس تحديداً - بوجوب التوصل إلى اتفاق، ووقف إطلاق النار سريعاً وبأيّة طريقةٍ كانت، ردّ عليه كثيرون. وكان أحد الآراء الملفتة، لفتاة تقول: هذا الكلام لا يليق بغزّة ولا بأهل غزّة. كأنّ الكاتب ارتكبَ جريمة فظيعة، وكأنها تقول بشكلٍ آخر: ما هذا يا رجُل، تُريد توقّف الموت؟ أنتم لا يليق بكُم إلّا الموت، فكيف تريدون وقفه!
دفع اتفاق وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، أواخر شهر حزيران/ يونيو 2025، إلى وجود كثافة في العمل على إتمام اتفاقٍ آخر في غزّة. لكن الصباح الأوّل بعد الإعلان عن الاتفاق، كان صعباً وثقيلاً على الغزيين، فقد استيقظ الناس على حربٍ أُخرى انتهت، ولم تمتد لأكثر من أسبوعيْن، فأدركوا أنّ حروباً كثيرة انتهت، من لبنان، إلى سوريا، وباكستان والهند، وحتى إيران، والصراع بين اليمن والغرب، وغيرها، ولا يزالون هم يقبعون تحتَ آلة الحرب منذُ ما يُقارب العاميْن.
يومها كتبتُ بوضوح، داعياً إلى التوصل بسرعة إلى اتفاق يُنهي هذه الحرب، ويوقف الكارثة، منتقداً المفاوِضين الفلسطينيين، الذين يفترضون أننا دولة قويّة وكبيرة، ومنتصرة، فيرفضون التنازل، بينما تنازلت دولٌ أخرى وأحزابٌ أكبر منّا. حتى إيران التي قد تكون تمتلك السلاح النووي، وكانت نداً لإسرائيل طوال سنوات، حاولت الحفاظ على مُقدراتها، وإنهاء الحرب بأقلّ الأثمان. فأين نحنُ من هذا الدور بعد كلّ هذه المدة، فيما ليس لنا من مُقدراتٍ سوى أرواح أطفالنا؟
ما قُلته وما يقوله كثيرون، ليس استسلاماً، ولا تنازلاً عن حق الدفاع عن هذه القضية، كما يراه جمعٌ كبير من الناس، من داخل غزة ومن خارجها. ومن في الخارج هم الأكثر، والرأي الغالب - باعتبار أنهم لم يعيشوا المعاناة - فيسوقون كلّ يوم روايةً ثابتة، دينية، عاطفية، وشعبويّة جداً، تقضي بعدم الموافقة على أيّ اتفاق، لا يضمن نهايةً واضحةً للحرب ويوقف المُعاناة. ويزيد البعض على هذا الرأي، بمطالب أخرى، كرفع الحصار ووو.. وهي من قبيل خضوع الاحتلال لنا كفلسطينيين، وكأننا نمتلك من القوة ما يُجبر الاحتلال على تنفيذ ما نُطالِب به.
أفراح الطحين.. ومصائده
16-06-2025
الحصول على الماء في غزة.. الرحلة الشاقة
01-05-2025
بكلّ أسف، يتطرّف هذا الرأي كثيراً، حين يُشكّل جبهةً صلبة، عاطفية وإعلامية قويّة، تتصدى لأي رأي يدعو إلى وقف الحرب ولو لأسبوعٍ واحد. وهذا الأخير في الغالب هو الرأي الفلسطيني الغزاوي المحلي، الذي يعيش ويُعاني كلّ يوم من ويلات الحرب، منذُ أكثر من 630 يوماً، ويعيش لأكثر من أربعة أشهر من إغلاق المعابر، فلا يستطيع توفير تكلفة كيلو واحد من الطحين - زاد ثمنه عن 30 دولاراً في بعض الأحيان - لأولاده وعائلته، وهو ما يوفّر 10 أرغفة لا تكفي ليوم. ذاك هو من يُريد وقف الحرب بأيّ ثمن.
حتى إيران التي قد تكون تمتلك السلاح النووي، وكانت نداً لإسرائيل طوال سنوات، حاولت الحفاظ على مُقدراتها، وإنهاء الحرب بأقلّ الأثمان. فأين نحنُ من هذا الدور بعد كلّ هذه المدة، فيما ليس لنا من مُقدِّراتٍ سوى أرواح أطفالنا؟
اختلفت مطالبنا. كُنا نريد وقف الحرب، الآن نُريد بكل بساطة تأجيل حكم الإعدام المكتوب لنا. هذا ما يقوله الناس في غزّة. فالمعادلة واضحة. مؤيدو رفض التهدئة، يقولون إنّ ورقة الأسرى هي الوحيدة الرابحة معنا، والدخول في أيّ اتفاق لشهريْن، يعني انتزاع هذه الورقة، وعودة إسرائيل إلى الحرب.
لكن في هذا الرأي نُقطتيْن ضعيفتيْن.
الأولى، إذا كانت ورقة الأسرى هي الرابحة والقويّة، فلماذا يُصرح كثيرون من أصحاب هذا الرأي، ليلاً نهاراً، وحتى المسؤولين، بالقول إنّ قيادة حكومة نتنياهو والاحتلال، لا يهتمون للأسرى، ويريدون موتهم؟ بذلك، فإن هذه الورقة ليست رابحة، لأن رحيلهم أو موتهم، هو راحة أكبر لإسرائيل.
والثانية، إذا كانت الحرب ستُستكمل، فمُقابل أيّ اتفاق تُريدون ضماناتٍ لوقفها، أمريكية وثابتة، ومن إسرائيل. ما الذي يضمن هذا الشرط؟ خصوصاً وأنّ الرأي هُنا، دائماً ما يُردد مقولة نعرفها: إسرائيل لا عهد لها. أعتقد أننا رأينا ذلك. حتى ترامب لا عهد له. فهو الذي فاوضَ إيران وقال إن معها فرصة للاتفاق، ليستيقظ أهلها صباح اليوم التالي على القصف الإسرائيلي، ثم الأمريكي، قاطعاً عهده. فهل أيّ عهدٍ آخر من الطرفيْن سيكون منطقيّاً؟ وهل من يرعاه ويحميه في هذا العالم، ونحنُ أمامَ "سيّد العالم" الذي يجوب كلّ الدول قصفاً وقتلاً، ثم يحطُ كحمامة سلامٍ، كأنّهُ أنقذ أهلها من الموت؟
إذاً، نحنُ أمام فرضية رئيسية، يُطالِب بها الناس في غزّة، وهُنا لا أقول عن نفسي فقط كمواطن غزّاوي مسُتنزَف ومُتعَب، ينتظر موته في الشارع وفي الأسواق، ويترقب الصاروخ القادم ليُفتت جسدهُ أشلاءً، إنما رأي كلّ الناس المُرهَقين المتعَبين، في الحارة، في السوق، وفي السيارات، وفي قلب البيوت.
اختلفت مطالبنا. كُنا نريد وقف الحرب، الآن نُريد بكل بساطة تأجيل حكم الإعدام المكتوب لنا. هذا ما يقوله الناس في غزّة. فالمعادلة واضحة. مؤيدو رفض التهدئة، يقولون إنّ ورقة الأسرى هي الوحيدة الرابحة معنا، والدخول في أيّ اتفاق لشهريْن، يعني انتزاع هذه الورقة، وعودة إسرائيل إلى الحرب.
أهل غزّة ليسوا أساطيرَ ولا أبطالاً، إنهم أبطال بمفهومهم اليومي، حين يقاومون كلّ هذه الظروف من أجل أن يعيش أطفالهم، على الرغم من علمهم أنهم قد يرجعون إلى البيت، فلا يجدونه ولا يجدون من فيه. أمّا نظرية البطل التي تتصوّرونها، فليست موجودة في غزّة.
الاحتمال الوحيد الذي يُريده الناس: التجربة. جرِّبوا. فما هي النتيجة؟ كما تقول النكتة الشهيرة في الفيلم المصري: "كدة ميّت وكدة ميّت"، يقول الغزّاويون اليوم: إن عقدوا اتفاقاً لشهريْن، سنموت بعدها، وإن لم يعقدوا، سنموت الآن، فما هي الأولوية؟ أجِّلوا موتنا قليلاً، اعطونا فرصة 60 يوماً، نأكل فيها، ونُعيد لملمة أجسادنا المُرهقة التي لم تأكل الطعام الجيّد، وأُرهقت من البحث هنا وهناك عن المُساعدات، ثم اتركونا للموت، إن لم يكُن هناك بُدّ من ذلك.
هذه الفرضية، ورغم سوئها، تضع احتمالية ولو ضئيلة، لأن تنتهي الحرب ما بعد فترة 60 يوماً المُقررة في الاتفاق الموعود، وهذه الميزة الثانية فيها، بعد ميزة دخول المُساعدات وإعطاء فرصة للراحة للناس خلال فترة الشهريْن.
فهل بقي لنا كفلسطينيين لا نعيش سوى الموت، إلاَّ المفاضلة بين خيارات الموت وطُرقِها؟
يرى الناس في غزّة أنّ التسليم بالواقع الذي نعيشه هو الأولوية، ووقف الحرب "بأيّ ثمنٍ"، سياسي أو وطني، أولوية. فهل بقي أكثر من 55 ألف شهيد؟ نعم بقي! قد نرى غداً وبعد غد، وقد نرى بعد أشهر، العدد زاد إلى عشرة آلاف أُخرى. نحنُ نخسر كلّ يوم، وخسارتنا في دمائنا وأرواح أطفالنا أعظم من أيّة خسارة أُخرى. فإذا كان الخيار اليوم أن نحمي ما تبقى من أطفالنا، الذين تُبتر أقدام 10 منهم كُلّ يوم نتيجةً للقصف، هو الموجود، فلمَ لا؟
الاحتمال الوحيد الذي يُريده الناس: التجربة. جرِّبوا. فما هي النتيجة؟ كما تقول النكتة الشهيرة في الفيلم المصري: "كدة ميّت وكدة ميّت"، يقول الغزّاويون اليوم: إن عقدوا اتفاقاً لشهريْن، سنموت بعدها، وإن لم يعقدوا، سنموت الآن، فما هي الأولوية؟ أجِّلوا موتنا قليلاً، اعطونا فرصة 60 يوماً، نأكل فيها، ونُعيد لملمة أجسادنا المُرهقة.
هذه الفرضية، ورغم سوئها، تضع احتمالية ولو ضئيلة، لأن تنتهي الحرب ما بعد فترة 60 يوماً المُقررة في الاتفاق الموعود، وهذه الميزة الثانية فيها، بعد ميزة دخول المُساعدات وإعطاء فرصة للراحة للناس خلال فترة الشهريْن. فهل بقي لنا كفلسطينيين لا نعيش سوى الموت، إلاَّ المفاضلة بين خيارات الموت وطُرقِها؟
قدّم أهل غزّة أضعاف ما قدمه الشعب الفلسطيني عبر تاريخ قضيته، فهذا ليس مجرّد موت. إنه جوع، وموت، وقصف، وجري مُستمر للنزوح، أمام عشرات قرارات الإخلاء التي تُضيِّق مساحة غزّة كل يوم. فقد أخليت مدينة خانيونس بالكامل، ومحافظة الشمال، ومُسحت محافظة رفح من الوجود، وما يُقارب نصف محافظة غزّة، ما يُبقي للناس محافظة ونصف محافظة فقط من خمسّ، ولا يزالون ينزحون كل يوم أكثر.
الشوك والقرنفل... والطوفان
03-07-2025
وسط كلّ ذلك، يُطَلب من كل أب فلسطيني في غزة، ألاّ يستيقظ لعمله، إنما يقوم للبحث عن طريقة لتوفير الطحين لأطفاله، وأخرى لتوفير ما يؤكَل على الغذاء، والوقوف في طوابير المياه، وأحياناً الذهاب إلى أماكن خطرة، قاتلة، ليحصل على طرد من المُساعدات. إنها إهانة كبيرة للكرامة الفلسطينيّة، التي تُحارب الاحتلال منذُ عشرات السنين. فهذا ليس مجرّد موتٍ عادي بكرامة، إنه امتهان الإذلال الذي يحاولون الآن تكريسه كواقعٍ، يجب كسره في أسرع وقت، وإفشاله.
هل بقي أكثر من 55 ألف شهيد؟ نعم بقي! قد نرى غداً وبعد غد، وقد نرى بعد أشهر، أن العدد زاد إلى عشرة آلاف أُخرى. نحنُ نخسر كلّ يوم، وخسارتنا في دمائنا وأرواح أطفالنا أعظم من أيّة خسارة أُخرى. فإذا كان الخيار اليوم أن نحمي ما تبقى من أطفالنا - الذين تُبتر أقدام 10 منهم كُلّ يوم نتيجةً للقصف - هو الموجود، فلمَ لا؟
تبقى النهاية، كلمة لكل أولئك الذين هُم خارج غزّة: أهل غزّة ليسوا أساطيرَ ولا أبطالاً، إنهم أبطال بمفهومهم اليومي، حين يقاومون كلّ هذه الظروف من أجل أن يعيش أطفالهم، على الرغم من علمهم أنهم قد يرجعون إلى البيت، فلا يجدونه ولا يجدون من فيه. أمّا نظرية البطل التي تتصوّرونها، فليست موجودة في غزّة. نظرية البطل التي يُريدها العالم، هي ذلك الغزّي اللاإنسان، المحظور من الشكوى والرأي. نظرية تفترض أنّ كل من هو خارج غزّة المطلوب منه التصريح عن رأيه، والتقرير بدلاً عن الأطفال الجوعى وعن حياتهم وطريقة إدارة حربهم. أما هؤلاء المغلوبون على أمرهم، فهم ليسوا سوى فرصة للدعاية وحصد التفاعل والاحتفاء بالإنجازات العسكرية، دوناً عن الحديث عن ألمهم ومعاناتهم اليوميّة.
ولا أعرف كيف وصلنا إلى هذه الحال، التي يعتقد فيها أهل غزّة أن العالم كُله لا يفهم وجع قلوبهم، ولا حرقة دماء أطفالهم. وقد أنبتت هذه الحرب فجوةً كبيرة، بين ما هو حقيقي، وما هو وهمي.