مسطرة التبليغ عن الفساد في المغرب: حَدٌّ للوشايات أم تقييدٌ للجمعيات؟

برز جدل محتدم حول مقتضيات المادتين الثالثة والسابعة من هذا التشريع، الذي يقيد الأفراد وجمعيات المجتمع المدني عن التبليغ المباشر عن جرائم الفساد وإهدار المال العام، ويجبرها على انتظار الحصول على إذن مسبق من النيابة العامة، أو من هيئات رسمية محددة، قبل اتخاذ أي إجراء شكلي أو قانوني.
2025-07-01

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
مقر المجلس الوطني لحقوق الانسان في المغرب

في خضم النقاش العام، الذي شهدته الساحة المغربية مؤخراً حول مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، برز جدل حاد احتدم حول مقتضيات المادتين الثالثة والسابعة من هذا التشريع، الذي يقيد الأفراد وجمعيات المجتمع المدني عن التبليغ المباشر عن جرائم الفساد وإهدار المال العام، ويجبرها على انتظار الحصول على إذن مسبق من النيابة العامة، أو من هيئات رسمية محددة، قبل اتخاذ أي إجراء شكلي أو قانوني. وقد اعتُبرت هذه الخطوة من قِبَل العديد من الفاعلين الحقوقيين والمدنيين محاولة لـ"مصادرة" الدور الرقابي للجمعيات ووضع عقبات بيروقراطية أمامه. بينما تراها الحكومة خطوة مهمة، ستحد وتقلل من فوضى التبليغات والوشايات الكيدية، ضد موظفيها الكبار والمسؤولين النافذين والمؤسسات التي يسيرونها.

 الحد من "الوشايات الكيدية"

لم يمر هذا التشريع على مجلس النواب مرور الكرام، إذ تمت المصادقة عليه في هذه الغرفة، بعد أخذ ورد حاد، بين البرلمانيين في أيار/ مايو الماضي، خاصة ما يتعلق منه بالمادتين الثالثة والسابعة، المثيرتين للسجال الحقوقي والسياسي، ليتم إحالته لاحقاً إلى مجلس المستشارين (الغرفة الثانية للبرلمان) في 26 أيار/ مايو الماضي من دون أن تتم المصادقة عليه بشكل نهائي حتى الآن.

تمثّلت الدوافع الرئيسية التي ساقتها وزارة العدل، لاعتماد هذه التعديلات، في الحفاظ على ما تصفه بـ"نزاهة الإجراءات القضائية وحماية المتهمين" من "الوشاية الكيدية" و"المس بسمعتهم". فقد نص هذا التشريع على عقوبات صارمة على كل من يثبت عليه هذا الأمر، بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات، وغرامة مالية تتراوح بين مئتين (حوالي 20 دولاراً) وألف درهم (100 دولار). كما أن المادة الثالثة من هذا القانون، تنص على أن "إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، لا يمكن أن يتم إلا بطلب من الوكيل العام للملك (النيابة العامة) لدى محكمة النقض بصفته رئيساً للنيابة العامة، بناءً على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناءً على طلب مشفوع بتقرير من المفتشيات العامة المعنية، أو إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أو أية هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك". وتهدف هذه الصيغة إلى تفادي ما تعتبره الجهات الحكومية عبثاً بالحق العام، وضمان تكاملية الأدلة قبل تحريك المتابعات القضائية.

أما المادة السابعة من هذا التشريع، فقد اشترطت على الجمعية أو المنظمة التي ستبلغ وتقاضي جرائم الفساد أن لا تكون ناشئة، أي أن يكون قد مر على تأسيسها أربع سنوات على الأقل، قبل وقوع الفعل الجرمي، إلى جانب ضرورة الحصول على إذن من السلطة الحكومية المكلَّفة بالعدل، وأن تكون حاصلة على صفة "المنفعة العامة". وهذه الشروط بحد ذاتها تقف حجر عثرة أمام كثيرٍ من الجمعيات، (خاصة الصغيرة أو الجديدة) تعيق الانخراط في معركة مكافحة الفساد ومساءلة المسؤولين.

تقويض أدوار المجتمعِ المدنيّ

يرى معارضو هذا التشريع أنه يسعى إلى تقويض أدوار الجمعيات المدنية الرقابية وإقصائها عن مقاضاة المتورطين في الفساد، وتكريس مبدأ الإفلات من العقاب.

في هذا السياق، اعتبر أحمد البرنوصي، الكاتب العام لجمعية الشفافية (ترانسبرانسي) المغرب، أن هذه التعديلات تشكل "نقطة سوداء" في تاريخ التشريع المغربي، وتضرب في العمق الثقة التي يولِّيها المواطنون والمؤسسات الدولية لالتزامات المغرب، في مجال مكافحة الفساد وحماية المبلّغين عن الجرائم.

وفي ظل تصويت لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان في مجلس النواب على مشروع القانون بـ18 صوتاً مؤيداً مقابل 7 أصوات معارِضة من دون تسجيل أي امتناع، لم يخفِ جمعٌ من الحقوقيين والنشطاء المدنيين استغرابهم من إصرار الأغلبية الحكومية على تمرير هذه البنود، على الرغم من حضور الانتقادات الرسمية. فقد أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (مؤسسة رسمية) رأياً انتقد فيه المقاربة الجديدة للتعامل مع جرائم المال العام، مشيراً إلى أن هذه التعديلات تثير إشكالات تتعلق بمدى ملاءمتها لنص الدستور، ومدى انسجامها مع التزامات المغرب الدولية. بالموازاة، أوصى المجلس الوطني لحقوق الإنسان (مؤسسة رسمية)  بالإبقاء على سلطة النيابة العامة في إجراء الأبحاث، وإقامة الدعوى العمومية تلقائياً في الجرائم الماسة بالمال العام، مع إلغاء شرط الإحالة المسبقة من جهات رقابية حكومية.

تقف الشروط المحددة في النشريع الجديد حجر عثرة أمام كثيرٍ من الجمعيات، (خاصة الصغيرة أو الجديدة) تعيق الانخراط في معركة مكافحة الفساد ومساءلة المسؤولين. ويرى معارضو هذا التشريع أنه يسعى إلى تقويض أدوار الجمعيات المدنية الرقابية، وإقصائها عن مقاضاة المتورطين في الفساد، وتكريس مبدأ الإفلات من العقاب.

لم يكن هذا الاعتراض حكراً على مؤسسة واحدة أو اثنتين، بل امتد ليشمل أيضاً جمعية "حماية المال العام"، إذ اعتبرت على لسان رئيسها محمد الغلوسي  أن هذا القانون يكرس "إشاعة الفساد والرشوة والريع وتقويض تخليق الحياة العامة"، مشيراً إلى أن التضييق على جمعيات المجتمع المدني بغية تقديم شكايات ذات صلة بالفساد ونهب المال العام، يعد "انتهاكاً واضحاً لاستقلال السلطة القضائية، وتدخلاً غير مقبول في شؤونها، مما يضعف من قدرة النيابة العامة على أداء دورها في مكافحة الفساد، وأنه تقييد لضباط الشرطة القضائية، من خلال منعهم من البحث في هذه الجرائم حتى إن صادفوها".

مخاوف العزوف عن التبليغ

يمكن فهم هذا السعي الحكومي إلى تعديل المادتين 3و7 من قانون المسطرة الجنائية (غير المطبّق بعد) على أنه تكريس لمقاربة تُعلي من قوة السلطة القضائية والرقابية الرسمية على حساب التدخل المدني المباشر، وهذا المعطى سيتسبب في عزوف وتراجع الجمعيات والمنظمات (وخاصة الناشئة) في التبليغ عن جرائم الفساد، لأن عبء الشروط البيروقراطية قد يفوق طاقتها، ويضيق الخناق عليها من الناحية القانونية والإجرائية.

أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (مؤسسة رسمية) رأياً انتقد فيه المقاربة الجديدة للتعامل مع جرائم المال العام، مشيراً إلى أن هذه التعديلات تثير إشكالات، تتعلق بمدى ملاءمتها لنص الدستور ومدى انسجامها مع التزامات المغرب الدولية.

ومن الواضح أن هذا التضييق القانوني، الذي يخص التبليغ عن الفساد من قبل هذه المنظمات المدنية، يتناقض مع التزامات المغرب المنصوص عليها في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي تشدّد على حماية المبلِّغين، وتشجيع دور الجمعيات في الكشف عن الانتهاكات. هذا المعطى سيسهم من جديد، في تراجع مراتب المغرب في المؤشرات العالمية للشفافية. فالمؤشر الأخير لمكافحة الفساد ليس في وضع يُسرُّ الحال، إذ صُنف البلد في المرتبة 97 عالمياً عام 2024، في وقت كان يحتل فيه المرتبة 73 عام 2018.

وهذا تراجع كبير وخطير، يؤشر إلى ضعف آليات الرقابة والمحاسبة في بلد يحتاج حقاً إلى قوانين صارمة، للتقليل من حدة الفساد وليس لتكريسه، تمتثل للمقاربة التشاركية مع الفاعلين المدنيين والحقوقيين وتسهل عليهم مساطر التبليغ والتقاضي، وإلا فسيزداد غرق البلد في مستنقع هذه المعضلة حتى أذنيه، بل وربما أكثر من ذلك... حتى رأسه!

مقالات من المغرب

"رَحَّلُونَا بعيداً": هل غَدَت الأحياء الشعبية المغربية ضحيةً لمشاريعِ المونديال؟

في الوقت الذي تؤكد الجهات الرسمية أن هدف إخلاء وترحيل بعض سكان الأحياء العتيقة أو العشوائية في مدينتي الرباط والدار البيضاء، هو "تطوير المدينة"، يرى السكان المتضررون أن هذه العمليات...

للكاتب نفسه

"رَحَّلُونَا بعيداً": هل غَدَت الأحياء الشعبية المغربية ضحيةً لمشاريعِ المونديال؟

في الوقت الذي تؤكد الجهات الرسمية أن هدف إخلاء وترحيل بعض سكان الأحياء العتيقة أو العشوائية في مدينتي الرباط والدار البيضاء، هو "تطوير المدينة"، يرى السكان المتضررون أن هذه العمليات...