"قدمتُ إلى العاصمة نواكشوط من البادية، عام 1994، بسبب الظروف، التي تعصف بسكان الريف الموريتاني، مثل الجفاف، وغياب الفرص، وصعوبة الحياة. حين جئتُ إلى نواكشوط، كان إخوتي يقيمون في المدينة، ويعملون في مزارع السبخة غرب العاصمة، لكنهم تحولوا لاحقاً إلى هذا المكان، الذي أنا فيه حالياً. ودخلت معهم في مجال الزراعة، فعلّموني. وكنا نعيل بعملنا في الزراعة والدَينا وأقاربنا، وكوّنا منه الأسرة، وبنينا منه منزلنا. ولحد الساعة نعمل فيه ويغنينا عن المُساءلة والسرقة. نعمل بعضلاتنا، ونادراً ما نحصل على دعم"... هذا ما قاله لي بكل اعتزاز، المزارع الحسن ولد همد ولد أمبيريك، وأنا أجالسه رفقة بعض زملائه في بستانه البهي المنعِش، بنخيله الباسق، ونباتاته المزدهرة الجاهزة للقطف، في منطقة المزارع في مقاطعة دار النعيم بولاية نواكشوط الشمالية، المَزارع التي تُمثِّل حالاً جمالية، وحيوية تكسر الشحوب الذي يطبع العاصمة الإسمنتية نادرة النبات والشجر.
بدايات حكاية المَزارع
بدأت حكاية مَزارع نواكشوط، أو ما يعرف محلياً بـ"لحرايث"، عام 1963، حيث خُصصت 72 قطعة أرضية مساحة كل منها 2000 متر مربع للنشاط الزراعي، في ما يُعرف اليوم بمقاطعة السبخة بولاية نواكشوط الغربية، من أجل تزويد سكان العاصمة الفتية بالخضروات، وكذلك مساعدة المواطنين على العيش الكريم. كانت القطعة الأرضية في طرف المدينة آنذاك، كبيرة، ولكنها لم تكن صالحة للزراعة، إذ هي أرضٌ رملية خالية من النباتات. فجلبت إليها عشرات الشاحنات المحملة بالتربة الخصبة.
هل تحقق موريتانيا الاكتفاء الذاتي؟
19-09-2024
ومع الأيام، صارت البساتين مليئة بالخضار، فتتراص صفوف من الشجيرات تفصل بين قطع الأراضي، والتربة سوداء ورطبة وعشبية، وتنتج الطماطم والخس والجزر والملفوف والبصل والفجل، وترتفع الأشجار الجميلة وكذلك النخيل في المكان، بالإضافة إلى زراعة بعض الأشجار المثمرة لتوفير الفاكهة المحلية. وهي صارت تشكِّل ملمحاً أساسياً من ملامح المدينة، ويعتمد عليها السكان في مجال الخضروات. وكانت سنوات الجفاف أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الفائت، سنوات عز المَزارع، إذ كاد إنتاجها من الخضروات والفواكه أن يغطي احتياجات سكان نواكشوط، وكانت ملاذاً للمئات من أبناء الريف والبادية الوافدين إلى العاصمة، من باعة الخضروات.
على الرغم من أن إنتاج هذه المَزارع لا يُغطي اليوم غير جزء بسيط من حاجة سكان نواكشوط من الخضروات، لكن هذا القطاع يوفِّر فرص عمل ودخلاً للسكان المحليين المكافحين، إذ تعتمد عليه أكثر من 6000 أسرة بشكل مباشر، كمزارِعين وبائعين داخل نواكشوط. ويقوم أصحاب المزارع بتسويق منتجاتهم بأنفسهم، وبعضهم يأتيه من يأخذ منتجه من بستانه، ويشتريه منه بالجملة ليسوِّقه.
ومع الأيام، لم تعد مزارع السبخة في طرف المدينة أو خارجها بل في صميمها، وتوسعت التجربة إلى مناطق أخرى من المدينة. وتتركز المزارع اليوم في مواقع محددة داخل المدينة وضواحيها. مثّلت المساحات المزروعة في منطقة "السبخة" والمناطق المجاورة لها، البداية، بينما تمتد الآن حدائق أخرى إلى أطراف نواكشوط، مثل منطقة دار النعيم وتوجونين... ومؤخراً صعد نجم موقع جديد للزراعة في نواكشوط، يقع على بُعد حوالي 17 كلم جنوب المدينة على طريق روصو، المعروف باسم "PK17"، حيث خصصت له 10 هكتارات مزروعة مزودة بمعدات ري حديثة.
إنتاج بسيط وتشغيل مهم وتحديات
على الرغم من أن إنتاج هذه المَزارع لا يُغطي اليوم غير جزء بسيط من حاجة سكان نواكشوط من الخضروات والنباتات - فالعاصمة تعتمد بشكل أكبر على الوارد من خارجها - لكن هذا القطاع يوفِّر فرص عمل ودخلاً للسكان المحليين المكافحين، إذ تعتمد أكثر من 6000 أسرة بشكل مباشر على هذا النشاط كمزارِعين وبائعين داخل نواكشوط، ويقوم أصحاب المزارع بتسويق منتجاتهم بأنفسهم، وبعضهم يأتيه من يأخذ منتجه من بستانه، ويشتريه منه بالجملة ليسوِّقه في الأسواق. وعن التحولات التي طرأت على هذه المزارع، قال ولد أمبيريك: "في البدايات، كنا ننتج جميع أنواع الخضروات، لكن مؤخراً، وبسبب قلة الماء والمضايقات من السلطة، والتهديد بالترحيل، والمضايقات من شركة الماء، فنصيبنا من الماء يكون أحياناً قليلاً، وتنقطع عنا المياه كثيراً، والخضروات تثمر على مدى طويل، ثلاثة أشهر تقريباً وتتطلب الماء الوفير، فأصبحنا نركز على زراعة الخس والبقدونس والكرافس والنعناع والبرسيم وأنواع أخرى من النباتات العشبية، وأحيانا الفجل، فهي التي تطرح محصولها خلال شهر واحد. ولحد الساعة نزوِّد السوق المحلي بها، وهناك من يزرع الجزر وخضروات أخرى لكن ليس بكثرة".
صارت البساتين مليئة بالخضار، فتتراص صفوف من الشجيرات تفصل بين قطع الأراضي، والتربة سوداء ورطبة وعشبية، وتنتج الطماطم والخس والجزر والملفوف والبصل والفجل، وترتفع الأشجار الجميلة وكذلك النخيل في المكان، بالإضافة إلى زراعة بعض الأشجار المثمرة لتوفير الفاكهة المحلية. وهي صارت تشكِّل ملمحاً أساسياً من ملامح المدينة، ويعتمد عليها السكان في مجال الخضروات.
مع الأيام، لم تعد مزارع السبخة في طرف العاصمة أو خارجها، بل في صميمها، وتوسعت التجربة إلى مناطق أخرى من المدينة. وتتركز المزارع اليوم في مواقع محددة داخل المدينة وضواحيها. مثّلت المساحات المزروعة في منطقة "السبخة" والمناطق المجاورة لها، البداية، بينما تمتد الآن حدائق أخرى إلى أطراف نواكشوط.
يُواجه المُزارِع تحديات جمة، مثل ندرة المياه وملوحة التربة، إذ تقع نواكشوط في منطقة صحراوية يسقط فيها أقل من 300 مم سنوياً من الأمطار، كما أن الجزء الأعظم منها تحت مستوى سطح البحر، مما يزيد من ملوحة التربة. ويتجه المزارعون إلى استخدام مياه تُضخ بالطاقة الشمسية عبر نظام ري بالتنقيط لضمان الاستخدام الكفء للمياه المستجلبة من آبار يحفرونها. وكذلك تعاني المدينة في بعض أيامها من درجات حرارة مرتفعة وعواصف رملية، وهو ما يزيد من صعوبة زراعة المحاصيل واستمراريتها، هذا بالإضافة إلى الزحف الإسمنتي الناتج عن التوسع العمراني، وهو ما يهدد المساحات الزراعية داخل نواحي نواكشوط، ويجعلها عرضة للتحوَّل إلى مكان سكن وعقارات، وهي تسيِّل لعاب المطورين العقاريين.
المُزارِع في موريتانيا يحتاج إلى الدعم
28-07-2020
أرض غنية وشعب فقير.. كيف تدار ثروات موريتانيا؟
27-06-2019
وسرد ولد أمبيرك في حديثه لي بعض العوائق التي يواجها كمزارع، حيث قال: "نعتبر أنه من أهم العوائق التي تقابلنا، هو أنه في فترة الخريف، أي موسم هطول المطر ما بين الشهرين السادس والتاسع، يكون إنتاجنا محدوداً، لأننا نتعرض لكثيرٍ من الآفات الزراعية، ولا نعرف كيف نواجهها، والسلطات المعنية لا تساعدنا، فلا تجلب لنا المبيدات المناسبة لصحة الإنسان لنستعملها. والأرض، حين تزرع عشر سنين، يخف إنتاجها، ويتطلب الأمر بعض العلاجات التي لا نملكها، وكذلك ندرة الماء وصعوبته"، وشدد المتحدث على أنهم يواجهون تحديّاً آخر، هو منافسة المنتج المستورد، إذ قال ببعض الأسى: "نواجه المنافسة الأجنبية، خاصة من منا لا يزال يزرع الجزر والطماطم واليقطين، إذ يجلب الأجانب بضاعتهم من الخارج، ويبيعونها بسعر أقل من سعرنا. فإن بعت بسعر غير مناسب لإنتاجك تخسر، ولا ترد حتى الكلفة، وهي خطة متعمدة من هؤلاء الأجانب حتى نترك زراعة هذه الأصناف".
رئة تحتاج إليها المدينة
ويحدث أن يثار الجدل أحياناً حول هذه المزارع، بسبب التهديد بالمساس بها، أو تحويلها إلى أماكن استثمارية يحتلها الإسمنت، وهو ما يجعل البعض يؤكد أن العاصمة نواكشوط تحتاج إليها بشدة كرئة تتنفس بها، بل تحتاج إلى أكثر منها. فالعاصمة تُعاني من مناخ صحراوي حار في بعض شهور السنة، وبها نهضة عمرانية وتوسّع شديد لا يرافقه الاهتمام بتطوير الغطاء النباتي ولا التشجير، بل على العكس، تتردى حاله يوماً بعد يوم. لذلك تُعد المَزارع الموجودة حاجة ملحة للعاصمة، لما تحقِّقه من فوائد بيئية كبيرة. فهي تضيف غطاءً أخضرَ، وتُحسِّن من جودة الهواء، وتخفف من الحرارة الزائدة، وتكافح التصحّر أيضاً، بل وتسهم في تعزيز التنوع البيولوجي.
"في موسم هطول المطر، ما بين الشهرين السادس والتاسع، يكون إنتاجنا محدوداً، لأننا نتعرض لكثيرٍ من الآفات الزراعية، ولا نعرف كيف نواجهها، والسلطات المعنية لا تساعدنا، فلا تجلب لنا المبيدات المناسبة لصحة الإنسان لنستعملها. والأرض، حين تُزرع عشر سنين متواصلة، يخف إنتاجها، ويتطلب الأمر بعض العلاجات التي لا نملكها، وكذلك ندرة الماء وصعوبته". وشدد المتحدث على أنهم يواجهون تحديّاً آخر، هو منافسة المنتَج المستورَد.
لذلك، هناك مطالبات بالعناية أكثر بهذه المَزارع ومناطقها، وحمايتها وتطويرها، ومساعدة من يعملون فيها، لما تنتجه وتقدمه من فائدة لليد العاملة والأسر الكادحة، وكذلك لبيئة المدينة، وهي مطالب يرفعها أيضاً ولد أمبيريك ورفاقه، بحسب حديثي معهم في بستانه.