عُقد في رام الله، في تموز/ يوليو 2023، عشية إطلاق حرب الإبادة الإسرائيلية ضد فلسطين، "مؤتمر السكان الفلسطيني"، تحت رعاية فلسطينية أممية مشتركة، لدراسة مختلف أبعاد التحديات الديموغرافية التي تواجه فلسطين. تناولت الأوراق البحثية التي ناقشها المؤتمر التحول الديموغرافي الفلسطيني في الأرض المحتلة منذ عام 1967.
لم نكن نتصور أن أسوأ ما رصدته حينها التحليلات والاحتمالات النظرية، قد يتحول الى وقائع فعلية فظيعة في أقل من سنتين.
بعدما يقارب العشرين شهراً، من حرب مزّقتْ وشوّْهت كل البنية الديموغرافية الفلسطينية في قطاع غزة، وقلبتها رأساً على عقب، أطلقت إسرائيل في شباط/ فبراير 2025 حرب تطهير سكاني لمخيمات فلسطينية في شمال الضفة الغربية، متسببة في نزوح حوالي50 ألف إنسان، بالتوازي مع هجمة واسعة النطاق من عصابات مستوطنين مسلحين ضد قرى ومجتمعات معزولة عديدة.
التحدي الذي تمّ تحديده في المؤتمر، قبل سنتين تحت عنوان "الصمود السكاني الفلسطيني أمام قوى التجزئة والطرد الاستعمارية"، تحوَّل بشكل جذري إلى مفهوم أخطر: "البقاء في وجه التطهير العرقي والإبادة". وفيما اتضح ذلك جلياً وبشكل مهول في قطاع غزة، حيث صار القتل والتجويع والتشريد والترهيب، الأدوات المفضّلة لدى إسرائيل في سعيها إلى جعل غزة غير قابلة للعيش، فإن ما تشهده الضفة الغربية، منذ الإعلان عن الحرب الإسرائيلية عليها، يحمل مطامع عقائدية عنصرية، وآليات متعددة لتنفيذ التطهير والإبادة فيها بوتيرة متسارعة ومكثفة.
تحدي الديموغرافيا الفلسطينية في مواجهة العقيدة الإسرائيلية
تأثر الوجود السكاني في الأرض الفلسطينية المحتلة، وقبل غيرها من المؤثرات الطبيعية، بقوى طاردة ولّدها الاحتلال الإسرائيلي المطوّل، في مواصلة عملية استيطانية بدأت داخل حدود 1948، وقبل توسّع إسرائيل في العام 1967 ممتدة لتشكِّل أكبر تحدٍّ ديموغرافي، في سعي المشروع الصهيوني إلى الاستيطان في كامل أرض فلسطين. في المقابل، وبحسب رؤية أحد كبار علماء الديموغرافيا الإسرائيليين، سيرجيو ديلابرجولا، تواجه إسرائيل كذلك معضلة وجودية، في سعيها إلى تحقيق أهدافها الأساسية: الحفاظ على نظام ديموقراطي، تأكيد يهودية هوية الدولة، وضمان المساحة الجغرافية القصوى لها، إذ يمكنها تحقيق أياً من اثنين من هذه الأهداف العليا، لكن ليس الثلاثة معاً. أي، إذا كانت ستبقى إسرائيل دولة يهودية وتحتفظ بالمساحة القصوى، فلا يمكن أن تكون ديمقراطية. وفي نهاية المطاف، عليها اعتماد معادلة تنطوي على مساومة على أحد تلك الأهداف الاستراتيجية.
بل يذهب الخبير الحريص على إسرائيل الليبرالية أبعد من ذلك، ويضيف أن هناك سقفاً (threshold) لنسبة العرب من إجمالي السكان، التي يمكن أن تتحملها إسرائيل من دون فقدان الهوية اليهودية والديمقراطية (بين 20- 25 في المئة من إجمالي سكان الدولة، ومن دون الانزلاق نحو نموذج دولة واحدة ثنائية القومية.
تفاقمت حدة هذه التناقضات خلال العقد الأخير، مع بلوغ نسبة السكان الفلسطينيين من مواطني إسرائيل قرابة الـ20 في المئة، ومع زيادة النشاط الاستيطاني للأرض الفلسطينية، وتكثيف تدفق الهجرة اليهودية باتجاهها. تجري هذه التحولات وسط صعود نعرة دينية عنصرية إقصائية، ومعادية للديمقراطية، في مركز المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية، تواجهها قوى ليبرالية رافضة التخلي عن الديمقراطية لصالح أيٍّ من قيم المساحة أو يهودية الدولة.
لم نكن نتصور أن أسوأ ما رصدته التحليلات والاحتمالات النظرية، قد يتحول الى وقائع فعلية فظيعة في أقل من سنتين. ولذا، فمن دون التعرض المباشر للمشاريع الاحتلالية، وتعبئة الجهود الفلسطينية والدعم الدولي للتصدي لتلك السياسات المعادية، فإن الصمود الفلسطيني لن يكفي لوقف التدهور في المشهد الديموغرافي الفلسطيني. التحدي تحول إلى مسألة الوجود والبقاء.
صار هذا الجدل الديموغرافي لا يخص فقط مستقبل إسرائيل ومواطنيها اليهود على المستوى الداخلي، بل يمس الشعب الفلسطيني، الصامد في الأرض المحتلة على الرغم من هذا المشهد المقلق. في الرؤية الإسرائيلية التاريخية، فإن تحقيق التفوق الديموغرافي ضمن حدود اتفاق الهدنة لعام 1949 لم يُمثِّل إشكالية، حيث لا تزال نسبة غير اليهود من إجمالي السكان لا تزيد على 20 في المئة. اليوم، ومع الموقف الإسرائيلي الصريح بأن دولة إسرائيل هي صاحبة السيادة بين النهر والبحر، وبالنظر إلى التعادل الديموغرافي العربي-اليهودي، فإن المخطط الديموغرافي الإسرائيلي منشغل بالتأكيد بكيفية ضمان نسبة الـ 20-25 في المئة من السكان العرب، بينما هم اليوم 50 في المئة في الميزان الديموغرافي الذي يضبطه الاستعمار الصهيوني.
استطاعت إسرائيل منذ 1967 تجنّب حسم هذه المعضلة فيما يخص العلاقة مع الشعب الفلسطيني، وبخاصة منذ ترسيم الحدود الداخلية في الضفة الغربية، بين ولايتها الوظيفية وولاية السلطة الفلسطينية، اعتماداً على مفاهيم لإدارة الصراع تفصل بين الولاية على السكان، والسيطرة على الأرض. سعت هذه الاستراتيجيات إلى حصر صلاحيات السلطة المدنية الفلسطينية على أكبر نسبة ممكنة من السكان الفلسطينيين في أقل مساحة ممكنة من أراضي الضفة - استناداً إلى سياسات طورتها من تجربة 75 سنة، من حكم الأقلية العربية داخل حدودها، وكذلك احتلالها ومحاصرتها لقطاع غزة. أفضى هذا النهج الاستعماري إلى ابتداع تصنيفات (أ) و(ب) و(ج)، التي تضمن تجميع حوالي 90 في المئة من سكان الضفة المحتلة (باستثناء القدس الشرقية) في 40 في المئة من مساحتها، ما أتاح 60 في المئة من مساحتها أمام إسكان أكبر قدر ممكن من المستعمرين الإسرائيليين اليهود.
ما يضيف تعقيداً على التحول الديموغرافي المتسارع داخل المجتمع الإسرائيلي هو الارتفاع المتواصل للوزن السكاني والثقافي والسياسي لليهود الحريديم (المتدينين الشرقيين)، مقابل تراجع نسبة اليهود الإسرائيليين من أصول إثنية وتيارات دينية أخرى، وتراجع حجم الهجرة الوافدة. كل هذه الضغوطات تدفع إسرائيل بعيداً عن الهوية العلمانية الاشتراكية والتكوين الديموغرافي الأوروبي للحركة الصهيونية، التي أسست وقادت الدولة في عقودها الخمسة الأولى. وبينما شكّل الحريديم في 2015 حوالي 11 في المئة من إجمالي سكان إسرائيل اليهود والعرب، يُتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 32 في المئة بحلول 2065. بالتالي، فبقدر ما يمثِّل الزحف الاستعماري للاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة بأقل عدد ممكن من سكان فلسطينيين، أخطر تحدٍّ سكاني لفلسطين من دون منازع، منذ تصعيد وتيرته وعنفه واتساع رقعته هذه السنة، فإن هذه الاستراتيجية الاستعمارية للتوسع الجيو-ديموغرافي، تُولِّد، بدورها، أزمات جديدة-قديمة في عمق المجتمع الإسرائيلي.
مما لا شك فيه أن الصراع الديموغرافي اليهودي-العربي قائم ومستمر، ويأتي هدف التفوق الديموغرافي العددي ضرورة لا يمكن تجاهلها، من وجهة نظر الطرفين. إلا أن التفوق العددي الفلسطيني وحده غير كافٍ لتحقيق التنمية المنشودة الرافدة للصمود الفلسطيني في السنوات المفصليّة القادمة. في ظل تمحور السياسات التخطيطية الإسرائيلية على ثنائية منع التنمية الفلسطينية والتشريد الفلسطيني من الأرض، تأتي أهمية وضع خارطة طريق للسنوات القادمة لتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية شاملة، تستغل العامل الديموغرافي لخلق ممارسات تنموية، تنطلق من أُسس هيكلية لمفهوم البقاء والصمود الذي يقود إلى التحرر.
تاريخ طويل
اصطلاحاً، يُشير التغيّر الديموغرافي إلى التحول التاريخي، في معدلات الخصوبة والوفاة في المجتمعات، من معدلات ولادة ووفاة مرتفعة في المجتمعات القديمة، إلى المجتمعات الحديثة ذات معدلات الخصوبة والوفاة المنخفضة. تُصاغ بحسبه سياسات سُكانيّة تستهدف ثلاث عمليات: الولادة، الهجرة، الوفاة، إما لخفض عدد السكان أو لزيادته بحسب الحاجة الوطنية. تعتمد بعض الدول، مثل السويد ودول الخليج العربي، سياسات تشجيع الهجرة الوافدة لزيادة عدد السكان، وفي المقابل استُخدمت نماذج التحول الديموغرافي في الدول المختلفة توجهات عدة لتقليل عدد السُكان، منها ما يستند إلى نظرية مالتوس التي ترى في الازدياد السكانيّ عائقاً أمام التنمية، بسبب زيادة استنزاف الموارد الطبيعية وغيرها... كالتوجهات التي ترى في تقليل السكان فائدة لحماية النظام البيئي، وتحسين جودة الحياة، من خلال خفض نسبة الأفراد مقابل الخدمات.
استطاعت إسرائيل منذ 1967 تجنّب حسم المعضلة الديموغرافية بما يخص العلاقة مع الشعب الفلسطيني، وبخاصة منذ ترسيم الحدود الداخلية في الضفة الغربية، بين ولايتها الوظيفية وولاية السلطة الفلسطينية، اعتماداً على مفاهيم لإدارة الصراع تفصل بين الولاية على السكان، والسيطرة على الأرض. سعت هذه الاستراتيجيات إلى حصر صلاحيات السلطة المدنية الفلسطينية على أكبر نسبة ممكنة من السكان الفلسطينيين في أقل مساحة ممكنة من أراضي الضفة.
يعتبر أحد كبار علماء الديموغرافيا الإسرائيليين، سيرجيو ديلابرجولا، أن إسرائيل تواجه معضلة وجودية، في سعيها إلى تحقيق أهدافها الأساسية: الحفاظ على نظام ديموقراطي، تأكيد يهودية هوية الدولة، وضمان المساحة الجغرافية القصوى لها، إذ يمكنها تحقيق أياً من اثنين من هذه الأهداف العليا، لكن ليس الثلاثة معاً.
استناداً إلى ذلك، اتجه المجتمع "الحديث" إلى التوسع في آليات لتقليل معدلات الخصوبة. هذا مهم بحد ذاته في السياق الفلسطينيّ، حيث السيطرة الاستعمارية على الحيز المكاني، وعلى الموارد تُشكل عائقاً واضحاً أمام التنمية الفلسطينية. بيد أن ذلك ليس السبب الوحيد للاهتمام بالعامل الديموغرافي. فعلى الرغم من التوجه العالمي لخفض معدلات الخصوبة، الذي قد يكون سبباً في تعزيز التنمية الفلسطينيّة، فإنه من الضروري مواجهة مشروع إحلالي يسعى، بكل مكوناته، إلى القضاء على المكوّن الديموغرافي الفلسطينيّ، واستبداله بمكون ديموغرافي مغاير، بل معادٍ.
لقد بدأت التحولات الديموغرافيّة الطبيعية في فلسطين، تصطدم بالتحولات القسرية منذ بداية ترحيل الفلسطينيين، ولا تزال هذه المواجهة مستمرة، مع وجود فترات تجلّت فيها عمليات الترحيل بشكل أكثر كثافة من غيرها، بحيث تغيرت بشكل جوهري الخارطة الديموغرافية لتوزيع الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها. كانت نسبة السكّان الفلسطينيين عشية انتهاء حكم الانتداب البريطاني، حوالي 67 في المئة من السكان، منتشرين فيما يقارب 90 في المئة من مساحة فلسطين الانتدابية. مع نكبة العام 1948، وتهجير ما لا يقل عن 700 ألف فلسطيني، صار عدد الفلسطينيين المقيمين داخل حدود دولة إسرائيل 156 ألفاً، مقابل 717 ألفاً من اليهود. وعلى إثر ذلك، تمَّ تدمير قرابة 500 قرية فلسطينية، وصار حوالي 800 ألف فلسطيني لاجئاً في ما عُرف بعد ذلك بالضفة الغربية وقطاع غزة ودول الطوق (المضيفة للاجئين)، أي حوالي 70 في المئة من الشعب الفلسطيني. في المقابل وصل حوالي 350 ألف مهاجر يهودي خلال أول سنة ونصف، بعد إقامة دولة إسرائيل في أيار/ مايو 1948.
سلسلة الأعوام التي أعقبت النكبة عام 1948 وحتى العام 1975، شهدت هجرة ما يزيد على نصف مليون يهودي إضافي إلى فلسطين. وهذا بحد ذاته عامل طرد ديموغرافي في الأراضي الفلسطينيّة. بيد أن هذا ليس السبب الوحيد للتغيّر الديموغرافي السريع في فلسطين. لقد أفرزت النكبة تغيّرات ديموغرافية في الحيز الجغرافي لفلسطين، امتدت طوال خمسة وسبعين سنة، تبعها نزوح حوالي 250 ألف فلسطينيّ إلى الأردن على إثر حرب حزيران/ يونيو عام 1967، الأمر الذي لعب دوراً إضافياً في التغيّر الديموغرافي الفلسطينيّ القسري. فصارت المدن في الضفة والقطاع تحتضن مجموعة من مخيمات اللاجئين التي صارت جزءاً جديداً من مكوّنها الديموغرافيّ.
نلحظ عبر التسلسل التاريخي، أن السياسات الديموغرافيّة الإسرائيلية والهاجس الديموغرافي اليهودي أديا، مؤخراً، إلى ازدياد عدد اليهود ليصبح متساوياً مع عدد العرب داخل الحدود التاريخية لفلسطين. وبالتالي يمكن القول إن التغيّر الديموغرافي في فلسطين هو نتيجة لتفاعل قوى الطرد والإحلال الاستعمارية التي مورست في فلسطين، والتي غيّرت من مكوِّنها الديموغرافي، وهو بالتالي يختلف عن النظريات الاعتيادية للتغيّر الديموغرافي في السياقات الأخرى.
أفضى النهج الاستعماري الاسرائيلي إلى ابتداع تصنيفات (أ) و(ب) و(ج)، التي تضمن تجميع حوالي 90 في المئة من سكان الضفة المحتلة (باستثناء القدس الشرقية) في 40 في المئة من مساحتها، ما أتاح 60 في المئة من مساحتها أمام إسكان أكبر قدر ممكن من المستعمِرين الإسرائيليين اليهود.
تتمحور العقيدة الصهيونية حول هاجس الديموغرافيا، فالشعار الأول الذي رفعته الحركة كان "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ووضعت من خلاله مسألتي السكان والحيز المكاني في محور سعيها إلى بناء الدولة اليهودية، ما جعل الصراع مع الاحتلال أمراً وجودياً وإحلالياً، كما هو للطرف الآخر. وقد نجح الاحتلال خلال الأعوام المنصرمة في موازنة الميزان الديموغرافي في فلسطين التاريخية.
في حين تنظر إسرائيل إلى الموضوع الديموغرافي والخصوبة من منحى عقائدي قومي-ديني مرتبط بالمكان والجغرافيا، وبجدوى المشروع الصهيوني، فإن الصلاحيات المحدودة للسلطة الفلسطينية تَحول دون الربط الفعال بين السياق المحلي للديموغرافيا، والسياق العام للصراع مع الاستعمار. تبدو السياسات الديموغرافية الفلسطينية مرهونة بمسوغات التنمية العالمية الشائعة، وسياسات التمويل المرتبطة بها، وبالتالي لا تحسب حساب متطلبات المواجهة الديموغرافية مع إسرائيل. هذا يجعل المراجعة لتضارب الرؤى الإسرائيلية والفلسطينية للديموغرافيا أمراً لا بدّ منه، إذا كانت التنمية ستنطلق في سياق تعريف تحرري للصمود الفلسطينيّ في وجه الاستعمار.
عملية التضييق على الممارسات الفلسطينيّة الحياتية، وفرض القيود على الحركة والتنقل، وكذلك التضييق في إصدار رخص البناء وفرض الضرائب والغرامات، بالتوازي مع الهجماتُ المباشرة على الفلسطينيين من قبل المستوطنين، تلعب دورها في تعظيم قوى الطرد الديموغرافية. بالتالي تُشكل هذه العمليات مجتمعة محاولة لإفراغ الحيّز الجغرافيّ من مكوّنه الديموغرافيّ. هذا ما يمكن وصفه بمفهوم "التطهير المكاني" الذي يُقصد به الاحتلال والدمار للحيز المكاني، واقتلاع السكان منه، والذي قد يشكل أحد العوامل للهجرة الداخليّة، وترك المكان خالياً ديموغرافياً. "الترانسفير" أو "الترحيل الصامت"، الذي يُشير إلى اتباع أساليب غير مباشِرة للترحيل، من خلال جعل حياة الفلسطينيين صعبة ودفعهم إلى الهجرة.
هنا يستخدم الباحث راسم خمايسي مصطلح "ديموغرافوبيا" لوصف الحال، التي تمثل "الخوف والمهابة من الديموغرافيا" لدى المخطِّطين الإسرائيليين، وهي حالٌ مؤثِّرة في "توزيع موارد الجغرافيا والديمقراطية واقتسامها في مكان أو كيان جيوسياسي معين". إذاً، التحول الديموغرافي ارتباطاً بجغرافيا المكان الذي تشهده فلسطين، ليس تحوّلاً طبيعياً ناجماً عن العلاقة ما بين معدلات الخصوبة والوفاة، أو بين الريف والحضر، بل هو ناتج عن ظروف استعمارية خارجية، تُعيد صياغة الوجود الفلسطيني في المكان.
الأهم من ذلك، يلمِّح الباحث شريف كناعنة، في ما أسماه "عامل الرقم والزمن"، إلى زيادة الترحيل الفلسطيني في القرن الماضي، وهي المتناسبة طردياً مع زيادة حجم المستوطنين، وقد جاءت نتيجة عملية تشريد. هذا ما قد يُرينا بوضوح عنصر الإحلال المتجذر في المشروع الاستيطاني الصهيوني، الذي يهدف، بشكل مركزي، إلى ضمان التقليل من عدد السكان الفلسطينيين، وبشكل موازٍ، ضمان أكبر مساحة من الأرض لمصلحته. كانت هذه الاعتبارات التي استند إليها المفاوض الإسرائيلي عندما تم رسم خطوط أ/ب/ج لضمان ولاية للسلطة الفلسطينية، على أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين في أقل مساحة ممكنة.
الهندسة الاستعماريّة بتجليّاتها المختلفة، الشوارع، والحدود، والبنية التحتية، والطرق الالتفافية... جميعها بنى استعماريّة استيطانيّة هدفها إزالة الفلسطيني بشكل تدريجي. فبينما تتوسع البؤر الاستيطانية (enclaves) لتصبح مدناً تحيط بالمناطق الفلسطينية المجاورة (exclaves) وتحاصرها، يُصبح الشعب الفلسطينيّ مُتكدساً في حيّز جُغرافي صغير، من دون القدرة على الوصول إلى المصادر الحياتيّة المختلفة. كما في فلسطين المحتلة عام 1948، حيث سكن مواطنو الدولة العرب، الذين يمثلون قرابة 20 في المئة من السكان، في حيز من حوالي 150 مدينة وبلدة عربية لا تتجاور مساحتها 2.5 في المئة من أراضي دولة إسرائيل.
خلاصة لما سبق، يُلاحَظ أن التخطيط الاستعماري الإسرائيلي يعتمد على رؤية استراتيجيّة ترمي إلى تحقيق التفوق الإسرائيلي ديموغرافياً في جميع ساحات نفوذها (داخل إسرائيل، داخل القدس المحتلة، داخل بقية الضفة الغربية)، "لضمان استمرار سيطرتها الجغرافيّة وهيمنتها السياسيّة". هذه الخطط لا ترى حدود 1967، ولا خط جدار الفصل، ولا تحسب حساب أية حدود لها بين النهر والبحر. في المقابل السياسات الفلسطينية موجّهة نحو استراتيجيات اقتصاديّة لا ترتبط بشكل مباشر بالأبعاد الديموغرافية، وتتلخص نتائجها بالحد من الزيادة السكانية المتسارعة، لتحقيق التنمية. إن كان هناك أي أمل في التنمية والصمود الفلسطينيّ باستخدام عامل الديموغرافيا، فلا بد من جعل السياسات الفلسطينيّة المتعلقة بموضوع السكان، تقف على مستوى التحدي الذي تمثِّله المنظومة الإسرائيلية التخطيطية، التي توحّد عناصر البشر والمكان والأمن، في عقيدة وتشريعات وممارسات متجانسة.
الخلاصة: اعتماد عقيدة فلسطينية "أكبر قدر من الشعب في أوسع المساحات الممكنة"
بغض النظر عن موقع تواجده، لا يوجد أمام الشباب الفلسطيني اليوم أي أفق واضح أو يقين حول الظروف التي قد تحدد مستقبله الوظيفي أو الأسري أو المكاني. هذا الوضع المستعصي لا يعود، في الأساس، إلى خلل في التخطيط التنموي الوطني، أو المؤسساتي، ولا إلى نقص الصلاحيات السيادية، مهما كانت أهميتها بين العوامل المعيقة للتنمية. إنما إلى انعدام أفق التنمية والتوظيف والحياة الكريمة للشاب الغزي، أو للمرأة في الأغوار، أو للمتخرج الجديد في القدس، وهو تجسيد لحال الخيارات القسرية، التي تخلقها السياسات الإسرائيلية. يتجلى ذلك منذ إطلاق حرب الإبادة في محاولة تطهير كامل منطقة قطاع غزة من سكانه الـ 2.2 مليون، وفي تطهير مساحات واسعة من مخيمات شمال الضفة ومناطق (ج) المأهولة بالمجتمعات الرعوية، والتضييق على توسعها، وفي عدم ترك أي خيار للباحث الجديد عن عمل في القدس، سوى مزيد من الانخراط القسري، في سوق العمل الإسرائيلية.
بالتالي، من دون التعرض المباشر للمشاريع الاحتلالية (وبخاصة في تلك المناطق الثلاث التي تشكل الغالبية الكبرى من الأرض الفلسطينية المحتلة)، وتعبئة الجهود الفلسطينية والدعم الدولي للتصدي لتلك السياسات المعادية، فإن الصمود الفلسطيني لن يكفي لوقف التدهور، في المشهد الديموغرافي الفلسطيني، ويتحول التحدي إلى مسألة الوجود والبقاء.
التفوق العددي الفلسطيني وحده غير كافٍ لتحقيق التنمية المنشودة الرافدة للصمود الفلسطيني في السنوات المفصليّة القادمة. في ظل تمحور السياسات التخطيطية الإسرائيلية على ثنائية منع التنمية الفلسطينية، والتشريد من الأرض، تأتي أهمية وضع خارطة طريق لتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية شاملة، تستغل العامل الديموغرافي لخلق ممارسات تنموية، تنطلق من أُسس هيكلية لمفهوم البقاء والصمود الذي يقود إلى التحرر.
التضييق على حياة الفلسطينيين، وفرض القيود على الحركة والتنقل، وصعوبة إصدار رخص البناء، والضرائب والغرامات، بالتوازي مع الهجمات المباشِرة من قبل المستوطِنين... تلعب دورها في تعظيم قوى الطرد الديموغرافية. تُشكِّل هذه العمليات مجتمعة محاولة لإفراغ الحيّز الجغرافيّ من مكوّنه الديموغرافيّ. هذا يوصف ب"التطهير المكاني"، الذي يُقصَد به احتلال الحيز المكاني وتدميره، واقتلاع السكان منه، والذي قد يُشكِّل أحد العوامل للهجرة الداخليّة، وترك المكان خالياً.
تتمحور العقيدة الصهيونية حول هاجس الديموغرافيا، فالشعار الأول الذي رفعته الحركة كان "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ووضعت من خلاله مسألتي السكان والحيز المكاني في محور سعيها إلى بناء الدولة اليهودية، ما جعل الصراع مع الاحتلال أمراً وجودياً وإحلالياً، كما هو للطرف الآخر. ونجح الاحتلال خلال الأعوام المنصرمة في موازنة الميزان الديموغرافي في فلسطين التاريخية. إلا أن المُعطيات تُشير إلى أنه مع توقع ازدياد نسبة الفلسطينيين على نسبة الإسرائيليين خلال السنوات القادمة، يُمارِس الاحتلال سياسات ترحيل قسرية صريحة، وعلى عجالة من أمرها، تُسهم في إفراغ الفلسطينيين من أرضهم. في الوقت نفسه، تُشير المُعطيات إلى أن الهجرة اليهودية لا تزال كثيفة، ومعدل النمو لليهود "الحريديم/ الشرقيين" أعلى من معدل نمو الفلسطينيين في جميع أنحاء فلسطين. من هُنا يستلزم تكثيف الجهود لتعزيز بقاء الفلسطينيين في أرضهم، بل لتشجيع الاستثمار وتحسين تطوير البنى التحتية، والخدمات، وبناء المدن والتجمعات السكنية في المناطق المهددة بالتهويد، بما يوفر سكناً لائقاً لذوي الدخل المتوسط والمحدود.
لا تتم مواجهة التحول الديموغرافي القسري بتوفير الخدمات وفرص العمل في مناطق الاكتظاظ السكاني فحسب، بل يتطلب ذلك اعتماد عقيدة فلسطينية "أكبر قدر من الشعب في أوسع المساحات الممكنة". هذا يُترجَم في تشجيع الامتداد العمراني الأفقي حيث ما يمكن في المناطق (ب) و(ج)، ضمن استراتيجية خلق حقائق سكانية جديدة على التخوم مع مناطق التوسع الاستعماري، وتمكين سكان تلك المناطق من الثبات المعيشي والخدمي والوظيفي. ينضوي ذلك تحت منظومة التخطيط البديل، في محاولة إعادة السيطرة على الحيز المكاني المهدد بالتفريغ السكاني.