عامان على الحرب: كيف دفع السودانيون فواتير باهظة

نزح أكثر من 12 مليون شخص داخلياً بينما عبر حوالي 3.8 مليون لاجئ الحدود، وهذا يعني ثلث سكان السودان، مع توقعات أممية بارتفاع هذا العدد خلال العام الحالي 2025، بحوالي مليون شخص. ويواجه 25 مليون شخص - أي نصف السكان - جوعاً شديداً، ويعاني حوالي 5 ملايين طفل وأُم من سوء التغذية الحاد. وما لم تتمكن منظمات الإغاثة من الوصول إلى المحتاجين، والحصول على الموارد اللازمة، سيهدد الموت جوعاً عشرات الآلاف من الأشخاص، إذا استمرّت الحرب لعام ثالث. كما يواجه حوالي 6.7 مليون شخص، خطر العنف القائم على النوع، وبالضرورة فإن النساء والفتيات النازحات هن الأكثر عرضة للخطر.
2025-05-12

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
اثار الحرب في أحياء الخرطوم. المصدر: قناة الجزيرة

لا يزال التقاعس العالمي تجاه السودانيين سيد الموقف، على الرغم من أن الأمم المتحدة صنّفت الأزمة الإنسانية، التي خلّفتها الحرب الدائرة منذ عامين في السودان بأنها أزمة غير مسبوقة، حيث شهدت البلاد أكبر حركة نزوح وفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة. ففي المجمل، نزح أكثر من 12 مليون شخص داخلياً بينما عبر حوالي 3.8 مليون لاجئ الحدود، وهذا يعني أنهم ثلث سكان السودان، مع توقعات أممية بارتفاع هذا العدد إلى حوالي مليون شخص، خلال العام الحالي 2025. ويواجه حوالي 25 مليون شخص - أي نصف السكان - جوعاً شديداً، ويعاني حوالي 5 ملايين طفل وأُم من سوء التغذية الحاد. وما لم تتمكن منظمات الإغاثة من الوصول إلى المحتاجين، والحصول على الموارد اللازمة، سيهدد الموت جوعاً عشرات الآلاف من الأشخاص، إذا استمرّت الحرب لعام ثالث. ويواجه حوالي 6.7 مليون شخص، خطر العنف القائم على النوع، وبالضرورة فإن النساء والفتيات النازحات هن الأكثر عرضة للخطر.

الواقع أشد قتامة من إحصائيات الأمم المتحدة!

هذا ما جادت به إحصائيات الأمم المتحدة ووكالاتها. لكن الواقع على الأرض لا يمكن التعبير عنه بالإحصائيات، وإن كان ثمة مؤشر يقيس تدهور الوضع الإنساني والمعيشي والخدمي في السودان، فلا شك في أنه يتراجع باستمرار على رأس الساعة. يستحيل توصيف الأزمة على الأرض عبر التقارير الأممية أو الصحافية، ولا التعبير عنها كتابة، وهي أزمة تمتد على أوسع نطاق في البلاد، حتى إلى تلك المناطق، التي لم يصل إليها دوي المدافع وأزيز الطائرات الحربية.

لم يعد الأمر يقتصر على المناطق الواقعة تحت اشتباكات الجيش وقوات الدعم السريع، ولا تلك المحاصرة المرشحة للانفجار. تجاوز الوضع وصفه بالكارثي، فقد صار الغالب على حياة كل السودانيين، مع فقدان مصادر الدخل وتوقف الرواتب أو عدم انتظامها - على محدوديتها - وسط غلاء غير مسبوق في كافة السلع، إن كان بسبب صعوبة النقل أو ارتفاع تكاليفه... أو جشع التجار الذين يسابقون الزمن لتعويض ما فقدوه خلال الحرب، كل ذلك يتحمله المواطنون، الذين صارت غالبيتهم تكتفي بوجبة واحدة غير مشبِعة.

ولا تعتبر المناطق التي استعاد الجيش السيطرة عليها أفضل حالاً، إذ لا يزال كثير منها بلا حياة تماماً أو تحولت الحياة فيها إلى جحيم لا يطاق، وكأن لعنة الدعم السريع حلّت عليها. وعلى الرغم من أن الجيش استعاد السيطرة على العاصمة، وولاية الجزيرة وسط البلاد، ومدن ولاية سنار في الجنوب الشرقي، بعد عملية برية استمرّت شهوراً، إلا أن هذه المناطق - وعلى رأسها العاصمة - لا تزال تكابد، وتحاول استعادة بعض من حياتها، وسط غياب وعجز الأجهزة التنفيذية للحكومة، التي أصبحت تكتفي ببيانات الإدانة والتوبيخ لقوات الدعم السريع.

في ولاية الجزيرة، وبينما عاصمتها، مدينة مدني، تحاول استرداد أنفاسها، تمكن عدد من القرى من استعادة الحياة عبر الجهود الأهلية، حيث يتصدى المغتربون لتحمل الكلفة الأعلى، في محاولة النهوض بمناطقهم التي تعرضت لإفقار منظّم. ومع غياب الأجهزة الحكومية في الأرض، يتوجه الناس إلى اعتماد تدابير أهلية في الحصول على المياه والكهرباء والخدمات الطبية الأساسية فقط. ويبدو أن هذه التدابير سوف تحل محل الأجهزة الحكومية، في كثير من المناطق التي بدأ الأهالي فيها توفيق أوضاعهم ذاتياً، سواء بشراء ألواح الطاقة الشمسية أو محاولة تشغيل آبار المياه، والمراكز الصحية.

لم يعد الأمر يقتصر على المناطق الواقعة تحت اشتباكات الجيش وقوات الدعم السريع، ولا تلك المحاصرة المرشحة للانفجار. تجاوز الوضع وصفه بالكارثي، فقد صار الغالب على حياة كل السودانيين، مع فقدان مصادر الدخل وتوقف الرواتب أو عدم انتظامها - على محدوديتها - وسط غلاء غير مسبوق في كافة السلع،

ليست المناطق التي استعاد الجيش السيطرة عليها أفضل حالاً، إذ لا يزال كثير منها بلا حياة تماماً أو تحولت الحياة فيها إلى جحيم لا يطاق، وكأن لعنة الدعم السريع حلّت عليها. وعلى الرغم من أن الجيش استعاد السيطرة على العاصمة، وولاية الجزيرة وسط البلاد، ومدن ولاية سنار في الجنوب الشرقي، بعد عملية برية استمرّت شهوراً، إلا أن هذه المناطق - وعلى رأسها العاصمة - لا تزال تكابد، وتحاول استعادة بعض من حياتها، وسط غياب وعجز الأجهزة التنفيذية للحكومة، التي أصبحت تكتفي ببيانات الإدانة والتوبيخ لقوات الدعم السريع.

أما المناطق التي لا تزال تحت سيطرة قوات الدعم السريع، فتشهد انفلاتاً أمنياً واسع النطاق، ففي مدينة نيالا جنوب دارفور، التي تعتبر بمثابة المدينة الرئيسية لقوات الدعم السريع، لا تتوقف حوادث النهب المسلح وخطف التجار لطلب الفدية، وذلك بحسب ثقل التاجر في السوق.

أزمة ممتدة 

وتعاني كل مدن البلاد انعدام الإمداد المائي والكهربائي، أو عدم استقراره، إثر استهداف مستمر لمحطات الكهرباء، بواسطة مسيرات الدعم السريع، مما يؤثر مباشرة على محطات المياه. ومنذ بداية تقدّم الجيش وانسحاب الدعم السريع من وسط البلاد، اتخذت الحرب مساراً جديداً، حيث صار ما يعرف بـ "المسيرات الاستراتيجية" هاجساً يؤرق المناطق الآمنة ويهدد محطات الكهرباء والمياه والمرافق الخدمية التي صارت هدفاً لقوات الدعم السريع.

وعطفاً على ذلك، فقد تعرَض قطاع الكهرباء لتخريب منظّم خلال عامي الحرب، حيث تُنتزع أسلاك النحاس من كابلات الكهرباء لبيعها في دول الجوار. وطال التخريب حتى تلك المدفونة تحت الأرض، حيث تُرى الحفريات على طول الشوارع بحثاً عن النحاس، بينما بقايا الكابلات ملقاة على الأرض. وأثر انقطاع الكهرباء في مناطق واسعة من البلاد على محطات المياه حيث بلغ سعر غالون المياه سعة 20 لتراً، 25 سنتاً من الدولار في كثير من المناطق، وتفشت الإسهالات بسبب المياه غير الصالحة للشرب.

أعادت عمليات النهب والسرقة التي لازمت الحرب في السودان، تعريف المنظومة الأخلاقية التي ظل السودانيون يتكئون عليها. فقد فجّرت الحرب التفاوت الطبقي بين الناس، الذي تعاظم جراء اختلال ميزان التنمية وتوحّش السوق السوداء، مما خلّف واقعاً أخلاقياً جديداً. لم يسلم من النهب بيتٌ ولا شركة ولا مصنع ولا مخزن، وليس فقط بواسطة عناصر قوات الدعم السريع، بل حتى المواطنين كانوا سبّاقين!  

تعاني كل مدن البلاد انعدام الإمداد المائي والكهربائي، أو عدم استقراره، إثر استهداف مستمر لمحطات الكهرباء، بواسطة مسيرات الدعم السريع، مما يؤثر مباشرة على محطات المياه. ومنذ بداية تقدّم الجيش وانسحاب الدعم السريع من وسط البلاد، اتخذت الحرب مساراً جديداً، حيث صار ما يعرف بـ "المسيرات الاستراتيجية" هاجساً يؤرق المناطق الآمنة ويهدد محطات الكهرباء والمياه والمرافق الخدمية التي صارت هدفاً لقوات الدعم السريع.

بعد عامين من الحرب، انتشر الفقر بين السودانيين بشكل غير مسبوق، حتى ظهرت ملامحه على الوجوه. تعرض غالبية السودانيين لإفقار ممنهج، إذ فقد الجميع كل مدخراته وممتلكاته عبر عمليات السرقة والنهب واسعة النطاق التي لم يسلم منها بيتٌ ولا شركة ولا مصنع ولا مخزن، وليس فقط بواسطة عناصر قوات الدعم السريع، بل حتى المواطنين كانوا سبّاقين إلى السرقة والنهب! وتعرضت بعض المناطق لثلاث موجات من السرقات، حينما تقتحم قوات الدعم السريع منطقة ما فتبدأ مباشرة عمليات نهب واسعة، توفِّر البيئة الإجرامية لمن يريد من المواطنين، ثم يأتي دور بعض عناصر الجيش أو القوات المساندة له لنهب ما تبقى في المنازل في عدد من المناطق. 

أعادت عمليات النهب والسرقة التي لازمت الحرب في السودان، تعريف المنظومة الأخلاقية التي ظل السودانيون يتكئون عليها. فقد فجّرت الحرب التفاوت الطبقي بين الناس، الذي تعاظم جراء اختلال ميزان التنمية وتوحّش السوق السوداء، مما خلّف واقعاً أخلاقياً جديداً. ولعبت قوات الدعم السريع دوراً فاعلاً في هذا الصدد، إذ وظّفت خطاب التفاوت الطبقي والتهميش، وألبسته لبوس الكراهية، فحولت المناطق التي سيطرت عليها إلى بؤر كراهية وفوضى مكتملة الأركان، تقتات على النهب والسرقات والاستحواذ على ممتلكات الآخر ومقتنياته.

يتصدى المغتربون لتحمل الكلفة الأعلى، في محاولة النهوض بمناطقهم التي تعرضت لإفقار منظّم. ومع غياب الأجهزة الحكومية في الأرض، يتوجه الناس إلى اعتماد تدابير أهلية في الحصول على المياه والكهرباء والخدمات الطبية الأساسية فقط.

ومع تعطل الخدمة المدنية، وتوقف الإنتاج الزراعي، والعمل التجاري، انتشر النشاط الطفيلي بشكل غير مسبوق، وصارت "السمسرة" نشاطاً رئيسياً. فعلى سبيل المثال: في المناطق التي تشهد أزمة سيولة في أعقاب تغيير العملة، انتعشت تجارة النقد مقابل التطبيقات البنكية، وبلغ سعر الثمانمئة ألف جنيه نقداً، مليون جنيه في التطبيق البنكي. وفي فترات سابقة، بلغ سبعمئة ألف جنيه، مما دفع بعض المشايخ ورجال الدين إلى استصدار فتوى بتحريم بيع النقد بمقابل... لكن بلا جدوى.

بعد عامين من الحرب وصل الخراب إلى عمق النظام الخدمي. دع عنك النظام الصحي أو المنظومة الأمنية. الخراب الذي حلّ على كل شيء يُوحي بحرب استمرّت عشر سنوات لا سنتين. وحينما نتحدث عن النظام الخدمي نقصد بذلك الحد الأدنى من الإمداد المائي والكهربائي. ويبدو أن الناس سوف يضطرون إلى المفاضلة بين أساسيات الحياة في المياه والكهرباء والأمن.

مقالات من السودان

الصحافة السودانية في ظـلّ الحرب

تسود "حالة من الإظلام الإعلامي" للحرب في السودان، وانتشار للمعلومات المضلِّلة، بسبب السيطرة والتحكم من طرفي الصراع في المعلومات المنشورة، بما يجعل من الصعب التحقّق من صحتها أو دقتها، وعن...

للكاتب نفسه