"احكيلي": ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية في "بيت بيروت"

اكتسب مبنى بركات، الذي صار اسمه "بيت بيروت"، ويقام فيه معرض "احكيلي"، أهميته الموضوعية والرمزية، شاهداً على المدينة وويلاتها، ومساحة مفتوحة لناسها لإعادة الاعتبار إلى ذاكرتهم المتشظية، وربما، لمحاولة فتح نقاش يُفضي إلى التعافي الذي لم يأتِ أبداً، في بلدٍ لملم أمراء حربه الأهلية بقاياه وسلّموا أنفسهم إدارته!
2025-04-17

شارك
من المعرض (الصورة عن صفحة انستغرام "ألو بيروت").
إعداد وتحرير: صباح جلّول

يعرف المارة في بيروت أبنية عديدةً بعينها، ما زالت تنخر جدرانَها فجوات صغيرة، وأخرى كبيرة، أثر رصاصٍ وقذائف رُميت يوماً ما بسهولة مرعبة بين شطري مدينة واحدةٍ مزّقتها الحرب اثنتين. يمرّ أحدنا قرب تلك المباني دون أن يولِّيها كثيراً من التفكير. نتحرك نحن، نَعْبرها، ونقطع الشارع منها وإليها بسلام، دون خوفٍ من قنص أو خطف، حيث مرّ سوانا قبل سنوات إلى حتوفهم أو مآسيهم.

الناس يتحركون، والمباني المخروقة بشتى أنواع المقذوافات والنيران، ثابتة مكانها، حاويات لذاكرة عنفٍ ارتكبه أهل البلد بحقّ بعضهم البعض، شاهدة على الموت والشرور والفقدان الذي لم يشفَ منه مَن فَقدوا، وهم كثر، حتى بعد خمسين عاماً بالتمام على بداية كابوسهم.

في هذه الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 نيسان/أبريل 1975)، افتُتح في المبنى الذي صار يعرف بـ"بيت بيروت" - مبنى "بركات" سابقاً - معرضٌ تفاعلي بعنوان "احكيلي". المبنى الذي كان معْقلاً للقناصة يوماً، واقعاً على خط تقاطعٍ أساسي في العاصمة بيروت، هو في الوقت نفسه خط تماس بين محورين، بل شطرين من المدينة، متقاتلَين، وهو أيضاً مخزن أسرار ذلك العنف الخارج عن أي عِقال، وحكّاء القصص التي لا يمكن الولوج إليها إلا بتفحص جدرانه والأغراض والصور المتروكة فيه. صار المبنى اليوم مساحة لمساءلة الذاكرة والذات والأخطاء والماضي و"وجهات نظره".

مبنى بركات المعروف اليوم باسم "بيت بيروت". (الصورة عن الانترنت).
إحدى غرف المبنى (الصورة عن انستغرام "ألو بيروت").

من موقعه هذا، اكتسب المبنى أهميته الموضوعية والرمزية، شاهداً على المدينة وويلاتها، ومساحة مفتوحة لناسها لإعادة الاعتبار إلى ذاكرتهم المتشظية، وربما، لمحاولة فتح نقاش يُفضي إلى التعافي الذي لم يأتِ أبداً، في بلدٍ لملم أمراء حربه الأهلية بقاياه وسلّموا أنفسهم إدارته!

مشاهد من المعرض

افتتح معرض "احكيلي" يوم الأحد في 13 نيسان/أبريل 2025، وهو استكمال لجهود بدأت مع معرض "ألو بيروت" (2022)، بمبادرة من الباحثة الفرنسية-اللبنانية دلفين دارمنسي أبي راشد، التي عملت على إعادة فتح "مبنى بركات" لعرض مواد أرشيفية وتوثيق حقبات فنية وثقافية وسياسية لبنانية، وصولاً إلى المعرض الحالي. وقد تضمّن برنامجه الافتتاحي جولة على "الخطّ الأخضر" - وهو خط التماس الذي كان يقسم بيروت أيام الحرب الأهلية الى "غربية" و"شرقية" - أدارتها الناشطة والقاصّة سميرة عزّو. كما تضمن برنامج الافتتاح "مكتبةً بشرية"، أبرز شخصياتها المناضِلة وداد حلواني، رئيسة لجنة المخطوفين والمفقودين في لبنان، بالإضافة إلى مجموعة من الفنانين والناشطين والمؤرشِفين ممن كانت الحرب محوراً لحياتهم أو أعمالهم، بالإضافة إلى الزوار الذين يتشاركون استعادة ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية في مختلف غرف "بيت بيروت"، عبر حوارات مفتوحة وجلسات ذاكرة حية وعروض أدائية مختلفة، وتجهيزات وصور ووثائق أرشيفية في غرف المبنى.

من الفعاليات المتضمَّنة معرض "ما بين العوالم" الذي عملت عليه المخرجة سيلفي بايو، امتداداً لقصة فدى البزري حول طفولتها أثناء الحرب الأهلية، ووجهة نظر طفلة تعيش مشاهدها، مستعادَة بعيني الطفلة باستخدام مجسمات ودمى تعيد بها رسم تلك المشاهدات. هذا بالإضافة إلى معرض للجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، ومشاركة لجمعية "محاربون من أجل السلام".

كما يستضيف "بيت بيروت" معرضاً للمصور والمؤرشف أديب فرحات الذي قام بأرشفة أغراض الجنوبيين من بيوتهم، وأغراض الأسرى اللبنانيين، ومخلفات احتلال الجنوب في مراحل سابقة، ليحكي عن أهمية حفظ ذاكرة الناس، أماكنهم وبيوتهم، بما فيها مفاتيح تلك المدمّرة منها أثناء الحرب. ففي ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية هذا العام، كان لا بد من التطرق للحرب الدائرة الآن واليوم في جنوب لبنان، والتنبه إلى ما يُسلَب من حياة الناس وذاكرتهم في هذه الأثناء ايضاً..

جنوب لبنان كان حاضراً أيضاً في معرض أديب فرحات. (الصورة عن انستغرام)
ملصق الدعوة إلى معرض "لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين". (الصورة عن صفحة انستغرام "ألو بيروت")

شقق وغرف..

تتحدث المهندسة المعمارية منى حلّاق، المشارِكة في المعرض، عن الشقة الشرقية على الطابق الأول في "مبنى بركات"، التي تسنى لها الدخول إليها للمرة الأولى عام 1994. هي شقة دكتور يدعى نبيل الشمالي، وكانت، كما تصفها حلاق، بيتاً مليئاً بالأغراض والأوراق والصور والمستندات: "كأنّ أحدهم غادر قبل تتسنى له فرصة توضيب أغراضه". من العام 1994 حتى 2008، عملت حلاق على لملمة هذه الأوراق وجمع تلك الأغراض، تفحصها، دراستها، ومحاولة "قراءة قصة شخص لا تعرفه" من خلالها. سمحت حلاق للبيت بأن يُخبر القصة، لم تقم بسؤال أي شخص عن صاحب البيت وحياته، ولكنها كانت تتفحص محتواياته. تفسر المهندسة منى حلاق أنها نتيجة بحثها عبر السنين، أعادت كتابة القصة عدة مرات، إذ كان المبنى يكشف لها كل مرة شيئاً إضافياً أو ورقة أخرى تحكي لها أكثر عن أحوال البيت وأهله.

وفي زاوية أخرى، تقبع مساحة هي "غرفة التقنيص"، كما تصفها مسؤولة العلاقات العامة للمعرض، سلمى أبو عساف. وتلك هي في الحقيقة ثلاث غرف تفتح على بعضها، مغلقة إلا من شبابيك صغيرة جداً تتسع لفوهة سلاح، صممها أحدهم يوماً بطريقة "مبتكرة" لتكون نوافذ تكشف كل تقاطعات الشوارع المحيطة بالمبنى من كل الجهات، فتمكّن القناص من قنص أهدافه من دون أن يكشف نفسه للخطر – يَقتُل ولا يُقتَل[1]. تخبّر غرف هذا المبنى المختلفة عن تطويع المحْترِبين لمساحة هندسية لتخدم هدف القتل، فلا يعود البناء بيتاً أو مكتباً أو ستوديو أو شرفة... بل متراساً وقناصاً ونقطة انطلاقٍ تَطْلع منها صنوف القتل إلى الشوارع المحيطة، حيث كانت أية محاولة للعبور لعبة مع الموت، وفرصة لذهاب لا عودة منه.

في ذلك البناء الذي يبدو لطيف الهندسة من الداخل ومَهيباً من الخارج، والذي صار اليوم متحفاً مفتوحاً (وإن بشكلٍ مؤقت) بعد أن أدّى أدواراً شديدة التباين فيما مضى، ثمة الكثير مما يدعو الزائر إلى التفكير والتأمل.

______________________

  • يفتح "بيت بيروت" أبوابه أمام زوار معرض "احكيلي" يومياً من الأربعاء للأحد، من الساعة 12 ظهراً إلى الثامنة مساءً.
  • ______________________

    1- وكانت السينمائية اللبنانية الراحلة رندة الشهال قد "أقامت" في مبنى بركات، حيث صورت أجزاء من فيلمها الشهير، "متحضرات"، الذي مُنِع في لبنان، ولكنه نال عروضاً وجوائز عالمية.

    مقالات من لبنان

    انتصارٌ ثمين في قضية الأملاك العامّة البحرية: حكومة سلام تستردّ مراسيم ميقاتي

    2025-04-10

    وإذ يشكّل هذا القرار انتصارًا للشرعيّة والملك العامّ، فإنه يأذن بوقف نزيف سلعنة الشاطئ وخصخصة استعماله ويمهّد لبدء مسار طويل لاسترداد الأملاك البحريّة المنهوبة ونقض ما صنعته حرب 1975-1990 والفوضى...