تمر "المجهول".. عودة الملك الضليل إلى عرشه!

مضى تمر "المجهول" "المكتشف" في قرية بوذنيب الصغيرة، من إقليم الرشيدية، في الجنوب الشرقي من المغرب، ليتبدد دمه بين عدة بلدان، رمت عليه أختامها، وأمعنت في القول إن هذا التمر من خصب أراضيها. فخلال سنوات طويلة، كنا نسمع ونرى في الأسواق الدولية، بما فيها الأسواق المغربية الداخلية، أسماء عديدة لصنف "المجهول"، تَخْدم في العمق عملية طمس الأصل.
2025-04-10

سعيد منتسب

باحث من المغرب


شارك
واحة من اقليم الرشيدية في جنوب شرق المغرب

في العام 1927، اجتاح مرض "البيوض" (نوع من الفطريات المجهرية يسمى "الفيوزاريوم أوكسيسبوروم")، واحات إقليم تافيلالت المغربي. وهو ما جعل مجموعة من العلماء، من بينهم الأمريكي الدكتور "والتر سوينجل" ينضّمون إلى اللجنة الفرنسية في المغرب، للتعامل مع التهديد المزعج الذي يمثله "البيوض" على أشجار النخيل، خاصة أنه قضى على أكثر من 60 في المئة منها.

وفي رحلة ميدانية إلى الواحات، انتبه "سوينجل" إلى أن مزرعة "تمر المجهول" لم يصبها المرض في قرية بوذنيب الصغيرة، فاختار نخلة تظهر نمواً قوياً في الفسائل، حيث تمت إزالة ستة أحجام قياسية وخمس فسائل صغيرة من النخلة نفسها، أي 11 فسيلة متطابقة وراثياً، جُهِّزت للشحن في صناديق خشبية، قبل أن تُنْقل إلى واشنطن العاصمة، حيث وصلت بعد حوالي خمسة أسابيع. وهناك حرص مسؤولو الحجر الزراعي في الولايات المتحدة على فحصها واحتبارها، تجنباً لأي تسلل محتمل لمرض البيوض إلى البلاد، حيث تم تبخير تلك الفسائل قبل أن يعمدوا إلى زراعتها، في 4 تموز/ يوليو 1927، في مكان بعيد لعدة سنوات، في منطقة بولاية "نيفادا"، على طول نهر "كولورادو"، حيث وافق مزارع أمريكي من السكان الأصليين، على رعاية الفسائل وريَّها، مع زيارات إشرافية دورية من قبل مهندس زراعي من محطة التمور التابعة لوزارة الزراعة الأمريكية في "إنديو"، ب"كاليفورنيا".

وفي وقت مبكر، ماتت فسيلتان، بينما نجت الفسائل التسع الأخرى. وبعد ثلاث سنوات، كانت الفسائل الناجية تنتج فسائل أخرى. وبعد ثماني سنوات من "الحجر الزراعي"، أعلن المهندسون عن الحالة الصحية الجيدة لجميع النباتات، وخلوها، بشكل قاطع، من مرض "البيوض" أو أي أمراض أخرى. وبحلول ذلك الوقت، كانت الفسائل التسعة الأصلية قد أنتجت 64 فرعاً إضافياً.

وفي صيف عام 1936، زُرِعَت بنجاح جميع النباتات البالغ عددها 73 فسيلة في محطة للتمور في "إنديو"، وهي المحطة التي أتاحت الفسائل لمزارعين كثيرين في "كاليفورنيا" و"أريزونا"، ابتداء من أربعينيات القرن الماضي، حيث توسعت مزارع "المجهول" باستخدام الفسائل منذ ذلك الحين. ومنها انتقلت إلى مجموعة من الدول الأخرى، التي صارت تنسبه إلى تربتها، وكأن ليس هناك حدوداً فاصلة بين الأصل والفرع، وكأن خطة الطبيعة هي أن يُنسب "المجهول" لغير منبته الحقيقي، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، المكسيك، مصر، أستراليا، ناميبيا، جنوب أفريقيا، السودان، الأردن، ودولة الاحتلال الإسرائيلي..

لعبة الأصول والأسماء

هكذا، مضى تمر "المجهول" ليتبدد دمه بين عدة بلدان، رمت عليه أختامها، وأمعنت في القول إن هذا التمر من خصب أراضيها. غير أن الدكتور عبد الوهاب زايد، المستشار الزراعي لدى وزارة شؤون الرئاسة بدولة الامارات العربية، والأمين العام لـ"جائزة خليفة الدولية لنخيل التمر والابتكار الزراعي"، وهو مهندس زراعي مغربي، أخذ على نفسه في كتابه "المجهول درة التمور، المنشأ، التوزيع والانتشار العالمي"، إعادة الملك الضليل إلى عرشه، بعدما أدى التنازع حول أصل "المجهول" إلى تدفُّق مجموعة من الأسماء في جدول متواصل من "اللحن" أو "القلب الصوتي" و"العجمة اللغوية"، إذ عادة ما ينطق الاسم الأصلي بطريقة خاطئة، وهي على النحو التالي (Majdoul)، (Mejhol)، (Madqul)، (Majhool)، (Majhul)، (Mashghul)، (Mechghoul)، (Medjeheul)، (Medjool)، (Medjoul)، (Mejhool)، (Mejool)... والاسم الصحيح هو (Mejhoul). وفي اللغة العربية، نجد عدداً آخر من الأسماء المتدَاولة بطريقة خاطئة أيضاً. ولهذا ركز كتاب "المجهول درة التمور" على تصحيح الاسم وإعادته إلى أصله "المجهول"، كما يتداوله أهل تافيلالت بالمغرب..

يقول الدكتور عبد الوهاب زايد: "إعادة تمر المجهول إلى منبته الأصلي من الأشياء التي أعتز بها في مسيرتي العلمية. فقد حظي هذا الصنف من التمور باهتمام عالمي مقارنة بغيره من الأصناف الأخرى، حيث يعد "المجهول" من أهم الأصناف عالمياً. لكن مع الأسف الشديد، خلال سنوات طويلة، كنا نسمع ونرى في الأسواق الدولية، بما فيها الأسواق المغربية الداخلية، أسماء عديدة لصنف "المجهول"، تَخدم في العمق عملية طمس الأصل، حتى بدأنا نشعر بأنه مؤامرة تُحاك في السر من أجل بناء المجهول لـ"معلوم مزور". بل إن عدداً من الدول تَبنَّت هذا الصنف، ونسبته إلى نفسها أو غيرها دون تردد. فبدأنا نسمع بالمجهول الأمريكي، والمجهول الاسرائيلي، والمجهول الأردني، بدون أي دليل علمي يؤكد أصل هذا الصنف. كما وجدنا مشكلاً آخر، وهو ظهور أسماء مختلفة له، وكلها تدعم بشكل أو بآخر أصل التسمية".

وتابع: "لم أرتح إلى كل تلك الروايات التي تريد أن تسطو على أصل تمر المجهول، دون تعقُّل أو تمحيص أو إدراك تجريبي للموضوع المدروس، إذ انتهيت بعد أبحاث عديدة ومتواصلة، وبالدليل العلمي القاطع، إلى أن منبت تمر "المجهول" يقع في بودنيب في إقليم الرشيدية، وأنه وصل إلى ولاية كاليفورنيا عام 1927، ومنها إلى العديد من دول العالم التي اتكأت على "واحاتها" لتحجب "المجهول" في ظلها، متناسية أن بوسع البحث الزراعي أن يروِّض الحقائق الملتبِسة، وأن يجعلها تشق طريقها نحو الدليل العلمي القائم على التحليل المختبري للجينات. وهذا هو الجهد الذي يعكسه كتاب "المجهول درة التمور"، حيث قمنا بدحض كل الادعاءات، وأعدنا تمر "المجهول"، الذي تشرد طويلاً، إلى موطنه بتافيلالت، وأخرجناه من تلك العناوين الطويلة والمتشابكة التي حاولت الانقضاض عليه. والجميل أننا قمنا بذلك بتعاون مع 8 وزراء زراعة عرب، و4 منظمات دولية، و44 باحثاً وعالِماً متخصصاً بنخيل التمر من 18 دولة. وقمنا بإصدار كتاب علمي متخصص بعنوان "صنف المجهول درة التمور- المنشأ، التوزيع والانتشار الدولي". وقد صدر أولاً باللغة الانجليزية، ثم تمت ترجمته إلى اللغة العربية فالإسبانية ثم الفرنسية".

تمر "المجهول"

الدليل المختبري

أظهرت دراسة قام بها الباحث المغربي الدكتور محمد الهميزي، أن صنف "المجهول" هو أحد أصناف المحلية (Landrace) في المغرب. كما أثبت تحليل الحمض النووي للعديد من عينات نخيل "المجهول" التي تم جمعها من مناطق متنوعة، بما في ذلك المغرب ومصر والولايات المتحدة الأمريكية، أن المنشأ هو وادي تافيلالت في إقليم الرشيدية.

وكشفت الدراسة أن "المجهول" عُرف، خلال القرن السابع عشر، بأنه تمر عالي الجودة، وكانت ثماره تباع بسعر أعلى من الأصناف الأخرى في أسواق إنجلترا وإسبانيا في ذلك الوقت، كما كان معظم التمر يُحْضَر إلى أوروبا من تافيلالت. غير أن مرض "البيوض"، دمر بشكل مكثّف مزارع التمور المغربية، وكان تمر "المجهول" من بين أكثر الأصناف تدميراً، مما أدى إلى اختفائه من الأسواق الأوروبية بعد انخفاض إنتاجه بشكل ملحوظ.

وإذا كانت الأسواق الأوروبية في الماضي من الأسواق الأقوى تنافسية لاستيراد "المجهول"، فإن هذا يتيح لمزارعي التمور المغاربة، بسبب القرب الجغرافي من أوروبا، وما ينتج عنه من تقليص لتكاليف النقل وتسهيل للتسويق، تلبية احتياجات هذه السوق بسرعة وكفاءة، خاصة أن "المجهول" يحظى باهتمام كبير في إطار الاستراتيجية الفلاحية للمغرب، من أجل تطوير قطاع زراعة النخيل. وتتضمن هذه الاستراتيجية برامج دعم لمزارعي النخيل، مالياً وتقنياً، لتحسين ممارساتهم الفِلاحية وزيادة إنتاجهم، الأمر الذي بإمكانه تعزيز وجود هذا الصنف في الأسواق الوطنية والدولية.

حلية أطباق التمور

تمر المجهول أو "حلية التمور" في أطباق المغاربة، ويسمى أيضاً "ملك التمور"، يعتبر الصنف الأكثر شهرة بين التمور المغربية التي تتميز بتنوع أصنافها البالغة أكثر من 453 صنفاً. غير أن "المجهول" الأكثر إغراء، إذ يعتبره المغاربة مفخرة محلية، وليس أدل على ذلك من إقدام العاهل المغربي محمد السادس، في العام 2010 على تقديم شهادة البيان الجغرافي "تمور المجهول تافيلالت"، إلى جمعية واحات تافيلالت، وهي العلامة التجارية التي تدل على أن المنطقة هي منشأ هذا الصنف من التمور، مما مهد إلى تسجيله في "المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية".

وتشمل الرقعة الجغرافية لزراعة النخيل المثْمِر في المغرب 13 إقليماً. أما "المجهول" فتتموقع أهم واحاته في واد زيز وتافيلالت ووادي درعة والجهة الشرقية وباني، حيث يعتبر من التمور الحساسة، وذات القيمة التجارية العالية، ومرغوب فيه وطنياً ودولياً، لتعدد استخداماته ومنتوجاته. وقد يصل سعره إلى 150 درهم (ما يناهز 15 دولاراً) للكيلوغرام الواحد، بينما تتراوح أثمان الأصناف المغربية الأخرى ما بين 15 درهماً (1.5 دولاراً) و20 درهماً (دولاران) لصنف الجيهل، و12 دولاراً لصنف "بوسة حمي".

مقالات ذات صلة

يُعتبر تمر المجهول نبضاً من نبضات الفرح التي لا غنى عنها في الحفلات والأعراس، ولا تبرز الموائد المغربية أطيب ما فيها من مأكولات إلا في حضوره، حيث يُقدَّم غالباً في أطباق بديعة باهظة الثمن محشواً باللوز أو المكسرات من قبيل الجوز أو الفستق أو شطائر المشمش المجفف، ترافقه أكواب الحليب المخلوط بماء الزهر. وتحتوي التمرة الواحدة (تزن 24 غراماً) على 66.5 سعرة حرارية، معظمها من الكربوهيدرات (18 غراماً من الكربوهيدرات، منها 16 غراماً من السكريات الطبيعية كالجلوكوز والفركتوز)، مما يجعله مصدراً ممتازاً للطاقة الفورية. كما تحتوي على مجموعة من الفيتامينات والمعادن الأساسية، مثل فيتامينات (أ) و(س) التي تدعم المناعة وصحة الجلد، وفيتامينات (ب) التي تساعد في تحسين وظائف الجهاز العصبي وتعزيز التمثُّل الغذائي.

ويختلف حجم ثمرة "المجهول" من صغير إلى متوسط إلى كبير بيضاوي مستطيل، لونه أصفر برتقالي، تعلوه خطوط رفيعة لونها بني مُحْمر، يتحول إلى اللون العنبري عندما ينضج ويصير رطباً. كما يشتهر المجهول، وفق الدكتور عبد الله وهبي (مهندس زراعي)، بمظهره الجذاب، وكبر حجمه، ولونه ونكهته المميزة.

ويتم انتاج "المجهول" حالياً بكميات مهمة في أكثر من 10 دول، وكلها تنتج حوالي 108000 طن. كما أن إنتاج "المجهول" عالمياً يناهز 94 في المئة من إجمالي التمور المنتجة في المكسيك، و70 في المئة من إجمالي التمور المنتجة في الأردن. أما في المغرب، فمن المتوقع أن يرتفع الإنتاج بشكل مضطرد خلال السنوات القادمة، وذلك بسبب الشروع في إنتاج عدد كبير من فسائله، زُرعت على مدى السنوات الماضية، وهو ما يعني أن الملك الضليل قد أخذ طريق العودة إلى عرشه. 

مقالات من المغرب