"ما ربحنا م الثورة كان الحرية" (لم نكسب من الثورة إلا الحرية).. لطالما ردد كثير من التونسيين هذه العبارة للتعبير بنوع من الغضب والحسرة عن تعثُّر ثورة 2011، في تحقيق التطلعات الاقتصادية والاجتماعية للقسم الأعظم من الشعب. لكن في هذه العبارة أيضاً إقرار بأن الحرية مكسب، وبأن التغيير نحو الأفضل لا يزال ممكناً، طالما هناك هامش من الحرية للمطالبة به. المشكلة في تونس اليوم أنه حتى هذا الهامش صار مهدداً، والعودة إلى مربع الانطلاق أقرب من أي وقت مضى. ومن بين أهم مسرِّعات العودة إلى الوراء "المرسوم 54"، الذي صار سيفاً مسلطاً على رقاب الصحافيين والمعارضين والحقوقيين وعموم المواطنين.
السياق والنوايا والمآخذ
صدر المرسوم الرئاسي 54 في 13 أيلول/ سبتمبر 2022، متضمناً 38 فصلاً. والغاية منه، كما ورد في فصله الأول، "ضبط الأحكام الرامية إلى التوقّي من الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، وزجرها، وتلك المتعلقة بجمع الأدلة الإلكترونية الخاصة به".
يجب في البداية أن نوضح أن المشكلة لا تكمن في المصادقة على تشريع خاص بالجرائم الإلكترونية، بل في سياق إصداره، وصياغة بعض فصوله بطريقة تسهِّل تجييره لانتهاك حقوق الناس بدلاً من حمايتهم.
فقد صدر هذا المرسوم في فترة فراغ تشريعي، بعد تجميد مجلس نواب الشعب في 25 تموز/ يوليو 2021 من قبل رئيس الجمهورية "قيس سعيّد". هذا الأخير جمع، ما بين صيف 2021 وربيع 2023، السلطتين التنفيذية والتشريعية في يد واحدة، واعتمد على إصدار المراسيم الرئاسية كبديل عن القوانين المصادَق عليها برلمانياً. ويذكر أن المرسوم 54 قد سُنّ قبل أسابيع قليلة من الانتخابات التشريعية التي نُظِّمت في كانون الأول/ ديسمبر 2022، مما يبعث على التساؤل: إصدار القانون تأخر سنوات، فلماذا لا ينتظر بضعة أسابيع، ويُعرض كمبادرة تشريعية على النواب الجدد؟ ربما كانت السلطة تتخوف من تركيبة نيابية غير متعاونة، قد تعرقل تمرير القانون. وهنا يطرح السؤال الثاني: لما كل هذا الحرص على تمريره؟
الوضع السياسي في البلاد أكثر تعقيداً من بضعة فصول قانونية. لكن المرسوم 54 هو فعلاً حبل خانق لحرية التعبير، والصحافة المستقلة، والعمل السياسي المدني. امتلك التونسيون حرياتهم بدماء مئات الشهداء وآلاف الجرحى في شتاء 2011، وقبلهم بتضحيات أجيال من القوى الديمقراطية، التي خَبرت التعذيب والسجن والتنكيل، زمن الديكتاتورية الصريحة. حريتهم هذه ليست منّة من الدولة، وهي ملك مَشاع لا يمكن التفريط فيه من قبل البعض، مهما كانت مبرراتهم.
يجب التذكير بأن الرئيس "سعيّد" كان - ولا يزال - يؤمن بنظام سياسي "قاعدي"، بلا أحزاب ولا أجسام وسيطة، ولم يُخفِ يوماً امتعاضه من وسائل الإعلام "المناوِئة"، واتهم مراراً فاعلين سياسيين ومدنيين بخدمة أجندات خارجية، ومعاداة الشعب. ويبدو أن السلطة كانت ترى في مناخ حرية التعبير خطراً على "مشروعها"، فسعت إلى تقليص هامش حركة المناوِئين أكثر ما يمكن، ولعلها اعتبرت أن ترسانة القوانين الزجرية الموجودة غير كافية، خاصة وأن جزءاً مهمّاً من النقاش العام، والحراك السياسي، يمران عبر مواقع التواصل الاجتماعي وووسائل الإعلام التقليدية.
تشمل الانتقادات الموجهة إلى المرسوم خمسة فصول على الأقل. الفصل 6 الذي يُجبر مزوّدي خدمات الاتصال على حفظ البيانات المخزّنة التي تُمكِّن من التعرّف إلى مستعملي الخدمة، والمتعلقة بحركة الاتصالات، والأجهزة الطرفية للاتصال، والموقع الجغرافي للمستعمل، مما قد يمس بالحق في حماية المعطيات الشخصية. والفصل 9 الذي يمنح السلطات العمومية حرية كبيرة في حجز المحامل الإلكترونية، والاطلاع على محتوياتها ونسخها، وكذلك الفصل 10 الذي يُطلق يد النيابة العمومية والقضاء في اعتراض الاتصالات، بشكل يشمل الحصول على بيانات المرور والتنصت، أو الاطلاع على محتوى الاتصالات، وكذلك نسخها أو تسجيلها. بالإضافة إلى الفصل 28 الذي يعاقب بالسجن كل من يرفض تسليم بيانات معلوماتية أو وسائل النفاذ إليها لقراءة البيانات المحجوزة أو فهمها، أو يتعمّد إعدامها أو إخفاءها قبل حجزها.
لكن أكثر فصل يثير الانتقادات والمخاوف هو بلا شك الفصل 24، الذي ينص على تسليط عقوبة السجن مدة خمسة أعوام، وغرامة مالية قدرها خمسون ألف دينار على "كل من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة، أو وثائق مصطنعة، أو مزوّرة، أو منسوبة كذباً للغير، بهدف الاعتداء على حقوق الغير، أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني، أو بث الرعب بين السكان"، مع إقرار مضاعفة العقوبات المقرَّرة إذا كان الشخص المستهدَف موظفاً عمومياً أو شبَهه. يشتكي منتقدو هذا الفصل من كثرة "العبارات الفضفاضة" الواردة فيه، بشكل يفتح الباب أمام التأويل والتوسع في كيل الاتهامات. كما ينددون بقسوة العقوبات مقارَنة بالأفعال المجرَّمة، ويشيرون إلى غياب مبدأ التناسب. هناك أيضاً مسألة تمتيع الموظفين العموميين بحماية مضاعفة، مقارنة ببقية المواطنين، بشكل يضرب مبدأ المساواة، ويصعِّب مراقبة وانتقاد السلطات العمومية من قبل عموم المواطنين، خاصة الصحافيين والناشطين السياسيين والحقوقيين.
سُنّ المرسوم 54 قبل أسابيع قليلة من الانتخابات التشريعية، التي نُظِّمت في كانون الأول/ ديسمبر 2022، مما يبعث على التساؤل: إصدار القانون تأخَّر سنوات، فلماذا لا ينتظر بضعة أسابيع، ويُعرَض كمبادرة تشريعية على النواب الجدد؟ ربما كانت السلطة تتخوف من تركيبة نيابية غير متعاوِنة، قد تعرقل تمرير القانون. وهنا يطرح السؤال الثاني: لِمَ كل هذا الحرص على تمريره؟
لا يتحمل الفصل 24 من المرسوم وحده مسؤولية تدهور أحوال الحريات في تونس. فهناك ترسانة من القوانين الأخرى - بعضها موروث من زمن البايات العثمانيين، والاستعمار الفرنسي، وبعضها صدر في أحلك الفترات الديكتاتورية من تاريخ تونس المستقلة. وقد تمت الاستعانة بها لإطلاق سلسلة لا تنتهي من المحاكمات، ضد ناشطين سياسيين ومدنيين ومشتغلين في المجال الصحافي/ الإعلامي، وحتى مواطنين بلا ارتباطات أو انتماءات معلنة.
يعتبر كثير من الحقوقيين، والمختصين في القانون والفقه القضائي، أن المرسوم يتعارض في عدة نقاط - خاصة من خلال الفصل 24 - مع تشريعات وطنية نافذة، مثل تعارضه مع ثلاثة فصول على الأقل من الدستور التونسي، الذي عرضه "سعيِّد" على الاستفتاء في 2022، وتمت المصادقة عليه بنسبة تسعينية. الفصل 37 الذي ينص على "أن حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة"، والفصل 38 الذي يضمن "الحق في الإعلام، والحق في النفاذ إلى المعلومة"، وكذلك الفصل 55 الذي يشدد على عدم وضع "قيود على الحقوق والحرّيات المضمونة بهذا الدّستور، إلاّ بمقتضى قانون، ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطيّ، وبهدف حماية حقوق الغير".
كما يرون أن المرسوم 54 يتجاهل وجود "المرسومين 115 و116 لسنة 2011"، ويتعلق الأول بحرية الصحافة والطباعة والنشر، فيما يتعلق الثاني بحرية الاتصال السمعي والبصري. وينظِّم المرسومان العمل الصحافي والإعلامي في تونس، ويضبطان حقوق وواجبات العاملين في القطاع.
"الفصل 24" : ألغام في المشهد العام
من الضروري بداية التنويه إلى أن هذا الفصل لا يتحمل وحده مسؤولية تدهور أحوال الحريات في تونس. فهناك ترسانة من القوانين الأخرى - بعضها موروث من زمن البايات العثمانيين، والاستعمار الفرنسي، وبعضها صدر في أحلك الفترات الديكتاتورية من تاريخ تونس المستقلة. وقد تمت الاستعانة بها لإطلاق سلسلة لا تنتهي من المحاكمات ضد ناشطين سياسيين ومدنيين ومشتغلين في المجال الصحافي/ الإعلامي، وحتى مواطنين بلا ارتباطات أو انتماءات معلنة. كما تجب الإشارة إلى أنه لا يوجد حصر دقيق لعدد المُحالين إلى التحقيق، تحت طائلة "الفصل 24" من المرسوم 54، لكن عددهم يناهز الـ70 – وفق الحالات الموثَّقة والمعلومة للعموم - في حين يقدِّر رئيس "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان"، عدد التتبعات بالمئات - منذ صدور المرسوم في خريف 2022 إلى اليوم، بحسب تقديرات منظمات حقوقية، صدرت في حق 40 متهماً منهم على الأقل أحكام سجنية. الرقم قد يبدو "صغيراً" بشكل لا يوحي بمدى خطورة الفصل، لكن المشكلة تكمن في كيفية توظيف هذا الفصل، واستهدافه لفئات بعينها.
رئاسيات تونس 2024: "العبور" إلى أين؟
14-10-2024
إلى حد نهاية سنة 2024، تم تتبع 24 صحافياً وإعلامياً – بحسب أرقام نقابة الصحافيين - بمقتضى "الفصل 24". تولت جهات رسمية – وزارات بالأساس - إثارة التتبعات في21 حالة. المعارضون السياسيون والناشطون في مكونات المجتمع المدني، هم ثاني أكثر الفئات استهدافاً من قبل الفصل 24، يليهم المحامون، خاصة المحسوبون على المعارضة، وفئات أخرى مثل "المؤثِّرين" و"المؤثرات" على شبكات التواصل الاجتماعي. ونبّه نقيب الصحافيين التونسيين، إلى أنه تمّ تسجيل حالات طُبِّق فيها المرسوم 54 بأثر رجعي، أي على محتويات نُشرت قبل صدور التشريع بحد ذاته.
لا يراعي المرسوم عموماً خصوصية مهن ونشاطات بعينها، كالصحافة، والإعلام، والعمل السياسي، والبحث الأكاديمي، التي تتطلب هامشاً كبيراً من حرية التعبير والنقد، وإمكانية التلميح، وإثارة أسئلة، في ظل غياب معلومات مؤكدة. والملاحظ ان التتبعات القضائية بعنوان الفصل 24 تتم في كثيرٍ من الأحيان في شكل يشبه الحملة المنظَّمة، إذ يتم إيقاف عدة اشخاص ينتمون إلى فئة/ مجال معين (صحافيون، مؤثِّرون، ناشطون مهتمون بقضايا الهجرة، إلخ) في فترة زمنية متقاربة (أحياناً في اليوم نفسه).
هذه الجرعات المركزة من التتبعات، التي استهدفت بشكل واضح قطاعات وفئات لها نوع من "الحصانة" المهنية و/أو الاعتبارية، وقدرة على التأثير في الرأي العام، وتسليط الضوء على قضايا مزعجة للسلطة السياسية، اثَّرت بالطبع على عموم التونسيين وواقع الحريات في البلاد.
يقدِّر رئيس "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان"، عدد التتبعات بالمئات - منذ صدور المرسوم في خريف 2022 إلى اليوم، بحسب تقديرات منظمات حقوقية، صدرت في حق 40 متهماً منهم على الأقل أحكام سجنية. الرقم قد يبدو "صغيراً" بشكل لا يوحي بمدى خطورة الفصل، لكن المشكلة تكمن في كيفية توظيف هذا الفصل، واستهدافه لفئات بعينها.
نبّه نقيب الصحافيين التونسيين، إلى أنه تمّ تسجيل حالات طُبِّق فيها المرسوم 54 بأثر رجعي، أي على محتويات نُشرت قبل صدور التشريع بحد ذاته.
القطاع الأكثر تضرراً هو بلا شك الصحافة والإعلام، والنتائج كارثية. هناك تراجع كبير جداً في عدد البرامج الحوارية ذات الطابع السياسي، وحتى التي "صمدت" من بينها، صارت أقل تعددية بكثير، وأحياناً يطغى عليها طيف واحد يدور في فلك السلطة. في المقابل ازدهرت المحتويات الإعلامية ذات الطابع الترفيهي – خاصة الرياضي - والتجاري. كما لوحظ أن كثيراً من المواقع الإخبارية، ومؤسسات الإعلام السمعي والبصري، صارت تكتفي، في تغطيتها للنشاط الرئاسي والحكومي، باستنساخ البيانات الرسمية ومنشورات صفحات المؤسسات العمومية، وبرقيات وكالة الأخبار الرسمية. يعاني الصحافيون صعوبات كبيرة في سبيل الحصول على المعلومة الدقيقة، في ظل ضعف تعاون الجهات الرسمية، وقد عَمّق الفصل 24 معاناتهم، إذ من السهل تكييف ما ينشرونه على أساس أنه مخالف للقانون، وطبعاً هذا السيف المسلط على الرقاب، يدفع جزءاً مهمّاً من الصحافيين إلى توخي السلامة، وممارسة الرقابة الذاتية.
هل اقترب الفرج؟
مباشرة بعد إصداره في 13 أيلول/ سبتمبر 2022، تعرض المرسوم 54 إلى انتقادات حادة، ووقَّعت عشرات الهيئات المهنية والمنظمات الحقوقية - من أبرزها "النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين"، و"الرابطة التونسية من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان"، بياناً عنونته بـ"يجب على الرئيس إلغاء المرسوم الذي يقوض الحق في حرية التعبير والصحافة"، وحذرت فيه "من خطورة هذا المرسوم على الحقوق والحريات الرقمية، حيث تضمّن قيوداً غير مسبوقة، من شأن تطبيقها أن يؤدي إلى ترهيب الصحافيين/ات وعموم المواطنين/ات، من التعبير عن آرائهم، خاصة تجاه أعوان الدولة والمسؤولين السياسيين". هذه المخاوف أثبتت الوقائع صحتها.
ربما لم يحظَ المرسوم بالاهتمام الكافي خلال الأشهر الأولى التالية لصدوره، نظراً لتوالي المراسيم الرئاسية التي ظن كثيرون أنها وقتية، وربما بسبب الاعتقاد السائد آنذاك بأن حرية التعبير والعمل السياسي مكسب نهائي لن يتم التراجع عنه. لكن سرعان ما تنبهت القوى الديمقراطية والهياكل المهنية إلى خطورة المرسوم وأثره على التفاعل مع الشأن العام، فتزايدت الأصوات المنادية بإلغائه أو تعديله، مثل "الاتحاد العام التونسي للشغل"، وأحزاب سياسية من المعارضة وهياكل المحامين، إلخ. ومع توالي المحاكمات، بدأت المطالَبات تصير أكثر إلحاحاً، وفي شباط/ فبراير 2024 حدث أول اختراق في الموضوع، اذ استطاع عشرة نواب – العدد الأدنى المطلوب لتقديم مبادرة تشريعية - أن يَجمعوا تواقيع قرابة 60 نائباً (من جملة 154 نائباً)، للمطالبة بإلغاء الفصل 24 من المرسوم، وتعديل بعض الفصول الأخرى. لكن المبادرة التشريعية اصطدمت بـ"مكتب مجلس نواب الشعب"، الذي عطّل وصولها إلى اللجان البرلمانية للنقاش، ومن ثم إلى الجلسة العامة من أجل التصويت.
وفي الواقع، بعد مرور سنتين على انتخابهم، لم ينجح النواب في تمرير أية مبادرة تشريعية من اقتراحهم، وفي المرة الوحيدة التي نفَذت مبادرة تشريعية من اللجان، ووصلت إلى الجلسة العامة (مشروع قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023)، تدخل رئيس المجلس، وعطّل سير الجلسة قبل أن يعلِّقها تلبية لرغبة رئيس الجمهورية – على حسب كلامه - نظراً للضرر المحتمل على المصالح الخارجية لتونس. وفي 22 يناير/ كانون الثاني الفائت، قدّم 60 نائباً طلباً جديداً إلى رئيس المجلس، للإسراع في النظر في مبادرتهم التشريعية التي قدموها منذ 20 شباط/ فبراير 2024.
القطاع الأكثر تضرراً هو بلا شك الصحافة والإعلام. والنتائج كارثية. هناك تراجع كبير جداً في عدد البرامج الحوارية ذات الطابع السياسي، وحتى تلك التي "صمدت" من بينها، صارت أقل تعددية بكثير، وأحياناً يطغى عليها طيف واحد يدور في فلك السلطة.
معركة النواب المطالِبين بتعديل المرسوم 54 داخل المجلس، مهمة جداً ليس فقط من أجل حرية التعبير، بل لإخراج المجلس من وظيفة المصادقة شبه الآلية على كل المبادرات التشريعية، التي يقدمها رئيس الجمهورية، ووصوله إلى برلمان حقيقي يمثل الشعب لا السلطة.
ومنذ شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024، تكثفت جهود وحملات المطالِبين بتعديل المرسوم 54، تحت راية "إئتلاف"، مكون من ثلاثة هياكل لها تاريخ نضالي طويل في مجال الحريات: "النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين"، و"الرابطة التونسية من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان"، و"الهيئة الوطنية للمحامين". تسعى هذه الحملات إلى إسناد النواب المدافِعين عن إلغاء الفصل 24، والتعريف على أوسع نطاق ممكن بالمخاطر التي يشكلها المرسوم 54، والتذكير بمعاناة ضحاياه.
***
ما انفك عدد المتضررين من المرسوم 54، خاصة الفصل 24 منه، يتزايد، ومعه عدد المطالبين بتعديل بعض الفصول وإلغاء بعضها. طبعاً الوضع السياسي في البلاد أكثر تعقيداً من بضعة فصول قانونية، لكن المرسوم 54 هو فعلاً حبل خانق لحرية التعبير، والصحافة المستقلة، والعمل السياسي المدني. امتلك التونسيون حرياتهم بدماء مئات الشهداء وآلاف الجرحى في شتاء 2011، وقبلهم بتضحيات أجيال من القوى الديمقراطية، التي خَبرت التعذيب والسجن والتنكيل، زمن الديكتاتورية الصريحة. حريتهم هذه ليست منّة من الدولة، وهي ملك مَشاع لا يمكن التفريط فيه من قبل البعض، مهما كانت مبرراتهم.