إعداد وتحرير: صباح جلّول
تأخذك صور شهرِ رمضان القادمة من غزّة هذا العام على حين غرَّة. تباغت الناظر بمشهدٍ لا يعرف ما يشعر تجاهه. تفرح قليلاً، وتحزن كثيراً.
لقد أمضى العالم الشهور الخمسة عشر الأخيرة لا يعرِف غزّة ولا يعرِّفها إلا بموتها ودمارها. صار القطاع مرادفاً للإبادة، معرَّفاً بما يريد الاحتلال الإسرائيلي له أن يكون. لكنّ أهلها يطلّون عند كلّ فرصةٍ سانحة ليذكرونا بأن تعريفهم لغزّتهم مختلف تماماً. يعتقد الناظر من بعيد أن غزّة ليست سوى ما يراه كل يومٍ من شهور: موضوعاً للإبادة.. غير أنّها للساكن فيها، لأهلها، هي البيت والمعاش واليوميات والذكريات ومجال الحركة اليومي من السوق إلى البيت، هي تفاصيل لا تنتهي ومواسم عَزّ إحياؤها منذ عام ونيّف، وأحد أهمِّها: شهر رمضان.
عودتان.. رغماً عن الاحتلال والعالَم
30-01-2025
انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صور الإفطارات الجماعية في غزة "المدمَّرة"، كما صورٌ لزينة الشهر الفضيل في أزقة المدينة ومناطقها - تلك المكسوّة طبقةً رماديةً سميكة، أطفأت كلّ لونٍ عداها. وبدا التضارب في المشهد صارخاً، فالموائد ها هنا تعلن الحياة تحدياً. تقول "هذه أرضٌ حيّة". ما زال الناس يجتمعون ليأكلوا فطورهم سوياً، وحيث حضر الطعام، أوقدت نارٌ، وغلت قدورٌ، ووُزعت أطباق، وأفطر الناس باليسير المتوفر، على قولِ "اللهم لكَ صمت وعلى رزقكَ أفطرت". وسط امتداد الرماد، شقّ خطّ المائدة دلائل الموت الكثير بخيط حياة، له لونٌ وطعمٌ ورائحة: مائدة إفطار. يسمونها "مائدة خير"، لأن الهدف منها إطعام من لا يملك إفطاره كل يوم، أو عابر السبيل وأهل المنطقة.


بعد تنهدٍ جزئي في القطاع، منذ إعلان وقف إطلاق النار، ودخول بعض البضائع والمساعدات، قرر الاحتلال إعادة قطع إمدادات الطعام والوقود والأدوية ومجمل المساعدات عن أكثر من مليوني إنسان يعيشون في القطاع، وذلك بالتزامن مع شهر الصوم، زيادةً في الحقارة والشرّ. عادت الأسعار للارتفاع بشكل كبير، وعادت الجمعيات الإنسانية لتحذيراتها بشأن المجاعة التي اعتقدوا أنهم بدأوا بالابتعاد عنها. تستغل "إسرائيل" اعتماد غزة على المساعدات بالكامل، وتشرُّد أهلها وأوضاعهم الهشة، لممارسة ضغطها المتلاعب في عملية التفاوض على الأسرى، ويعود أهل غزة إلى خوفهم اليومي على لقمة العيش في شهرهم العزيز على قلوبهم.
وجوه المدينة: عن الحياة في شمال غزّة
27-02-2025
ليس الناس في حالة إنكار. هم يعرفون جيداً أن مائدة إفطارٍ جماعي هنا وفوانيس معلقة هناك لا تعني أن "غزّة بخير". يجهر أهل القطاع بشماله وجنوبه ووسطه علانية بأنّ الحال صعب والخير شحيح، ويهمسون في سرّهم وخلواتهم بأن الألم جرح مفتوح يجدده بقسوة شهر رمضان، مذكِّراً الفاقدين بمن رحلوا وخلت أماكنهم على موائد الإفطار.
عن هذا الفقد، كتب الصحافي "يوسف فارس" على صفحته على "إنستغرام": "في الحي الذي أسكن فيه، استبق المُسّحر بدء الشهر الفضيل، وجاء ليسأل عن الذين كان يقف عند باب بيوتهم في العام الماضي، ليتأكد مِن أنهم أحياء، كي لا ينكأ جرح ذويهم عندما يناديهم بأسمائهم ليستيقظوا للسحور: طيّب فلان؟ استشهد. وأبو فلان؟ استشهد". عدَّد أسماء عشرة من وجوه الحيّ وكباره، ثم أقفل عائداً. سينادي «عباد الله، وحِّدوا الله» دون أي فكاهة ودعابة.. رياحيننا ذبلت.. ورحلت."

*****
لا، ليست غزة بخير، لكن من حقها أن تُعلن عن محاولاتها للحياة. وهذا ليس بالأمر الرمزيّ فحسب، على أهمية ذلك، بل أن لهذه المبادرات وظيفة مباشرة، هي التضامن والتكافل بين أهلها في هذه الأوقات الصعبة، مكافحة القلّة والشحّ ولو بوجبة طعام، وتشجيع دعم هذه المبادرات.
وليست زينة الشهر المنتشِرة بخفرٍ هنا وهناك مجرّد مجازٍ عن شعبٍ يريد الحياة، فلتلك أيضاً وظيفة مباشِرة، منها إشعار أطفال القطاع بشيء مما اعتادوه قبل حرب الإبادة، وبعودة مراسم احتفالية، وإن خجولة، لإسعادهم وإشراكِهم في نشاطٍ يفارق ما خبروه على مدى شهور طويلة من أعمارهم الصغيرة. هذا واجب تجاه هؤلاء الأطفال الذي شاهدوا بأعينهم ما سيبقى أثره في نفوسهم طويلاً، وما لم يستطع أهلهم رغم محاولاتهم إخفائه عنهم، لوفرة الدم...
•أطفال يغنون "رمضان في غزة حاجة تانية، والسر في التفاصيل":
•صبّاب الخرّوب، مشروب غزة البارد المفضل على مائدة إفطار شهر رمضان:
تضعنا مشاركة هذه الصور والمقاطع، بالذات من خارج غزّة، أمام مسؤولية محددة ودقيقة، في ألّا نغرق في تبسيطها كصور رومنسية جميلة عن تحدّي الدمار فحسب (وذلك جانب من معناها)، ولكن أن نضع أنفسنا أمام واجب نقل معاناة الناس الذين يحاولون، وتشجيع دعمهم المادي والمعنوي، كي يستطيعوا بالفعل استعادة شيء من راحة وفرح، أو أبسط من ذلك، شيء من "الطبيعية".