حرب على مخيمات الضفة الغربية: شهادات من داخل «السور الحديدي»

"بعد أن دمر الجنود ممتلكاتهم أمام أعينهم أمروهم بالخروج من المنزل ومنعوهم من أخذ أي أمتعة أو ملابس تقيهم من برد السماء ومطرها، وحتى أدوية الجدة المصابة بالضغط والسكري لم يسمحوا لهم بأخذها".
2025-02-20

شارك
جنين، تصوير عصام ريماوي، أ ف ب

فجر التاسع من شباط الحالي، وقعَ ما كان أهالي مخيم نور شمس ينتظرونه، حيث وسّع جيش الاحتلال اجتياحه إلى مخيمهم بعد أيام من اجتياحه مخيم طولكرم، إدراكًا منهم أن اقتحام أيٍّ من المخيمين سيتبعه بالضرورة اقتحام للمخيم الآخر.

في تمام الثالثة فجرًا، استيقظ الأهالي على دَوِي الرصاص الحيّ وانفجارات صواريخ الإنيرجا التي أطلقها جنود الاحتلال على منازل أهالي المخيم وممتلكاتهم، فيما توغّلت ناقلات الجند المدرعة وجرافات الـ(D9)، التي شرعت منذ اللحظة الأولى بتحفير وتدمير كل ما وقع أمامها من منازل ومرافق عامة وما تبقى من بنى تحتية. 

في تلك الأثناء، كانت نور* في مطبخ منزلها تحاول تهدئة أطفالها المذعورين، قبل أن يسمعوا فجأة صوتًا غريبًا قرب شباك مطبخهم، «وإلّا هي درون واقفة قبالنا». انتقلت العائلة إلى غرفة ثانية بعيدة عن الدرون، لكن «كنت عارفة ما دام أجت الزنانة معناته راح يفوتوا دارنا ويطلعونا»، فطلبت من أطفالها تجهيز بعض الثياب والملابس الداخلية استعدادًا للقادم. بعد دقائق قليلة اختفى صوت «الزنانة»، وارتفع صوت تحطيم بوابة المنزل الخارجية، وقبل أن يصل الزوج باب الشقة لفتحه كان الجنود قد حطموا الباب وانقضّوا عليه: «حط [الجندي] السلاح مباشرة براس جوزي وصاروا يصرخوا عليه»، تقول نور. 

انتشر الجنود في أرجاء المنزل وحطّموا كل ما وقع تحت أيديهم من أثاث وأدوات كهربائية، «كسروا كل إشي؛ المطبخ والكنبات والطوايل والخزاين. كل إشي»، تقول نور. 

بعد أن دمر الجنود ممتلكاتهم أمام أعينهم أمروهم بالخروج من المنزل ومنعوهم من أخذ أي أمتعة أو ملابس تقيهم من برد السماء ومطرها، وحتى أدوية الجدة المصابة بالضغط والسكري لم يسمحوا لهم بأخذها.

بطش وترويع

خرجت العائلة المكونة من أم حامل وأب وثلاثة أطفال وجدة تحت تهديد السلاح إلى ساحة المنزل، «لقيناهم مربطين إبن جيرانّا، حاطينه على الأرض والسلاح براسه». أكملت نور وعائلتها المسير مشيًا على الأقدام عشرات الأمتار حتى أمرهم الجنود بالتوقف، فيما كان جنود آخرون يفخخون باب منزل جيرانهم، «فجروه قدامنا وبعدين خلونا نكمّل مشي». واصلت العائلة مسيرها في شوارع المخيم من فوقهم المطر الغزير ومن تحتهم طين الشوارع المحفرة يتشبث بأقدامهم ويُثقل خطواتهم، فيما يعلو صراخ الجنود يستعجلونهم المسير. 

مشهد شبيه حصل مع عائلة جلال،* التي داهم الجنود منزلها عصر اليوم نفسه، وأجبروهم على الخروج منه والنزوح من المخيم قائلين إنهم سيسمحون لهم بالعودة للمنزل بعد أسبوعين. سار جلال في شوارع المخيم المهدّمة وعلى ذراعه طفله المريض. حاول بداية استخدام سيارته لإخراج العائلة من المخيم لكن الجنود منعوه بالقوة. «طلعنا من تحت القناصة. أي شخص بعمل حركة ما تعجبهم معرّض لإطلاق النار أو الضرب المبرح. في شباب آذوهم كثير»، يعلق جلال. أمّا المنزل فحوله الجنود لثكنة عسكرية.

«الناس للناس»

على باب المخيم أقام الجنود سواتر ترابية لمنع أيّ أحد من دخوله. عند وصول نور وعائلتها لتلك البوابة، استقبلهم شبان قادمون من مدينة طولكرم لمساعدة النازحين. إذ منذ بدء العملية العسكرية قبل أسابيع، استعمل الشبان سياراتهم الخاصة، وجمعوا ما تيسّر من ملابس وبطانيات ومؤن وأدوية أساسية وانضموا لفرق الهلال الأحمر واللجان والتنسيقيات الشعبية في المحافظة وفي باقي محافظات الضفة، وساعدوا في إيصال الناس إلى منازل أقاربهم وما تيسر من منازل وشقق تبرّع بها الأهالي لإيواء النازحين وإلى مراكز إيواء في مباني المحافظات والمجالس القروية والمساجد في محافظات الضفة.

بعد أن قطعت نور الساتر الترابي تكفّل «ابن حلال» بإيصالها بسيارته الخاصة إلى قرية عنبتا (شرق مدينة طولكرم)، ليجدوا الناس بانتظارهم. قدم لهم أحد أبناء القرية شقة تؤويهم؛ «الناس كل شوي يدقوا الباب. اللي جايب جرة غاز واللي جاب صوبة، حتى غسالة جابولنا. والحرامات والفرشات والأكل والشرب. الحمدلله الناس واقفة مع بعضها». في الأيام التالية ومع استمرار النزوح من مخيمات الضفة انضم إلى نور عائلتا شقيقيها القادمين من مخيمات طولكرم وعائلة خالها القادمة من مخيم الفارعة في مدينة طوباس: «عايشين جميعنا بدار وحدة»، تقول نور. أما جلال فأوصله شخص آخر إلى منزل نسايبه في مدينة طولكرم.

من مخيم لمخيم

لم يكن استشهاد ابن أم الأيمن (45 عامًا) قبل عامين خاتمة أحزانها، وهي التي فقدت زوجها قبله بعامين، إذ مع العملية العسكرية التي يشنها الاحتلال على جنين ومخيمها، أُجبرت على النزوح من بيتها مع ابنتها إلى مخيم الفارعة، فيما نزح ابنها إلى مدينة جنين، «طلعنا تحت الطخ. الرصاص كان يمرق من قدامنا ومن فوق روسنا» تقول أم الأيمن.

للوصول إلى الفارعة، احتاج السائق الذي أوصل أم الأيمن لاختراق الطوق الأمني المفروض على المنطقة بعناء. وهناك عاشت بضعة أيّام قبل أن يوسّع الاحتلال عدوانه إلى مخيم الفارعة. 

عاث الاحتلال خرابًا في منزل العائلة ومحيطه، وطلب من أهله الخروج منه لكنهم رفضوا، «قالوا للجيش فش مطرح نروح عليه»، ليرد عليهم ضابط الاحتلال بالتهديد والوعيد قائلًا «معناته بدكم تتحملوا الانفجارات».

لكن، بعد ثلاثة أيّام، اضطرّت أم الأيمن للنزوح من جديد بعد نفاد أدوية الضغط والسكري التي تحتاجها بشكل يومي، «حاول الإسعاف يأمنلي إياه بس الجيش عباب المخيم منعوه». إذ يمنع الاحتلال إدخال أي مؤن أو مواد غذائية أو أدوية لمن بقي من الناس في المخيمات، وذلك رغم وجود تنسيق مع الاحتلال لإدخال فرق الإغاثة، وفق ما قاله أعضاء لجان خدمات المخيمات لحبر.

خاضت أم الأيمن ممسكة بيد ابنتها في وحل الشوارع المحفّرة في مخيم الفارعة أيضًا بين آليات الجنود وبنادقهم الموجهة إلى صدور الناس حتى وصلتا حدود المخيم الذي يطوّقه جيش الاحتلال ويدقق في هويات النازحين وبصماتهم، و«اللي بدهم إياه بعتقلوه».

تخطت وابنتها حاجز الاحتلال ليستقبلها شاب من طوباس ويوصلهما إلى بلدة سيريس جنوب جنين، وهي مهمة لم تكن سهلة لأن «الجيش عامل طوق على كل طوباس والحواجز في كل مكان». التف الشاب على الحواجز عبر طرق وعرة غير مخصصة للسيارات، «لف فينا مية لفة ولفة توصلنا سيريس». 

أقامت أم الأيمن وابنتها عند أقارب لها في سيريس حتى تُكمِل تجهيز منزل استأجرته في مدينة جنين. «هيني بجهز فيه. والحمد لله أهل الخير كثار. ما حدا مقصر»، أمّا عن منزلها الأصلي في مخيم جنين فتستبعد العودة إليه حاليًا لأنه غير صالح للسكن بعد أن أحرقه الاحتلال وفجروا أجزاء منه. «الناس قالولي الجيش حرقه وفجر دار سلفك. دارهم لزق داري. بينا حيط»، تختم أم الأيمن.

«حرب وجود»

أعاد الاجتياح الذي يشنه جيش الاحتلال منذ يوم 21 كانون الثاني الماضي تحت اسم «السور الحديدي»، إلى الأذهان عملية «السور الواقي» التي شنها على الضفة الغربية إبان انتفاضة الأقصى عام 2002، ولاقى آنذاك مقاومة شرسة في مناطق شمال الضفة الغربية تحديدًا.

لا تزال عمليات «السور الحديدي» مستمرة إلى اليوم، وبعد أن بدأت في جنين، توسّعت لتشمل مدنا أخرى مثل طولكرم وطوباس. وقد أسفرت العملية عن ارتقاء عشرات الشهداء، معظمهم في جنين ومخيمها، فضلًا عن مئات الجرحى والمعتقلين. كما دمر مئات المنازل وهجّر نحو 40 ألف فلسطيني من المخيمات إلى الضواحي والقرى المحيطة فيها، حيث أقاموا في بيوت مستأجرة أو عند أقارب لهم، فيما نزح البعض نحو المساجد ومباني المحافظات والمجالس المحلية. 

تقول فرح أبو الهيجاء، عضو لجنة فعاليات مخيم جنين، إن الكثير من البيوت التي جرى تدميرها خلال الاقتحام الأخير لمخيم جنين تعود لشهداء وأسرى ومطاردين أو لأفراد من عائلاتهم. كما أعاد الاحتلال تدمير وتخريب المدمّر أصلًا من بنى تحتية وشبكات مياه وكهرباء واتصالات ومرافق ومراكز وجمعيات أهلية. «لم يسلم منهم شجر أو بشر أو حجر. حتى الميت منعونا ندفنه»، تعلق أبو الهيجاء.

طالت الحرب كذلك مصادر دخل شباب المخيمات، إذ وإضافة لتفجير السيارات التي كانوا يعملون عليها، دمّر المحال الصغيرة والمشاغل الحرفية: «ما خلّوا مخيطة ملابس ولا ورشة حدادة ولا صالون حلاقة»، تقول أبو الهيجاء. 

من جانبها، تضيف ليلى سعيد، عضو لجنة خدمات مخيم الفارعة، أن الجديد في هذه العمليات تعمّد جيش الاحتلال مداهمة جميع بيوت المخيم «بيت بيت». وعن اتساع حجم الاستهداف في الاجتياح الأخير تقول: «اليوم صار الكل مستهدف والكل مطلوب».

نزح حتى الآن من الفارعة نحو 3500 شخص من أصل 12 ألفًا يسكنون المخيم، فيما يعيش البقية بالحد الأدنى من مقوّمات الصمود والحياة. وفي هذا السياق توجه سعيد رسالة إلى أهالي الضفة عمومًا بالتزود بمواد تموينية وأدوية وإسعافات أولية تكفيهم وتساعدهم على الصمود لأطول وقت ممكن.

يدرك أهالي المخيمات أن ما يحدث اليوم ليس اقتحامًا عاديًا بهدف القضاء على المقاومة كما يدعي الاحتلال، إنما هي حرب وجودية شاملة تشنّها «إسرائيل» عليهم لتدمير مخيماتهم وتصفية حق العودة وباقي حقوقهم كلاجئين، وهو ما يعلق عليه جلال قائلًا «الموضوع أكبر من مخيم نور شمس. إحنا مدركين إنها حرب وجود».

بحسب أخبار نشرها الإعلام العبري، يسعى جيش الاحتلال للتأسيس لإقامة دائمة لجيشه في المخيمات، وفي بعض الأماكن وضع لافتات بالعبرية، وشق طرقًا واسعة لآلياته.

منذ نزوحهم يداوم بعض الأهالي على العودة إلى محيط مخيماتهم فيترصدون حركة الجيش ومناوراته، ويتحينون لحظات انسحابه من حي إلى آخر ليدخلوا المخيم من جديد لتفقد المنازل وإيصال ما تيسّر من أساسيات للمحاصرين فيها. ومن منزل أحد أقاربها في ضاحية إكتابا المُطلّة على مخيم نور شمس تقف نور وتشاهد التفجيرات وأعمدة الدخان المتصاعدة من أحياء المخيم: «قاعدين وبنتحسّر. مش مصدقين وهمه يطلعوا عشان نرجع على دورنا»، وهو ما ينسحب على جميع من قابلناهم، إذ أكدوا أنهم سيعودون للبيوت وللمخيم بمجرّد خروج قوات الاحتلال. يقول جلال: «انتقلنا من مكان لمكان زي أهلنا في غزة. انتقلوا من الشمال للجنوب وبس خلصت الحرب رجعوا على بيوتهم».

______________________

* أسماء مستعارة بناء على طلب من قابلناهم.

مقالات من فلسطين

حرب الاحتلال على المكتبات

2025-02-13

لا يمكن لهذا التضييق المستمر على الفلسطينيين - إنْ كانوا في غزة أو الضفة أو القدس أو في أي بقعة من فلسطين - أن يمرّ مرور الكرام، ويتم التطبيع معه...

غزّة.. الأرض الخراب

قال كلمةً، سمعتها كثيراً: "رُدّت الروح والله". نظرَ إلى الشارع. الحارة عادت إلى حركتها، الأطفال يلعبون، أشخاص هنا وغيرهم هناك. محلات تَفتح، أناس يحاولون استعادة عملهم. حتى الناس، وإن كانت...