نص من فيسبوك نشر بتاريخ 12 - 02 - 2025
المؤرخ خالد فهمي والسفير أيمن زين الدين
صحيح أن الخارجية المصرية أصدرت بيانات رفضت فيها فكرة التهجير. كما شدد مكتب الرئيس السيسي، في تعليقه على مكالمة تليفونية تمت اليوم مع رئيسة وزراء الدنمارك، "على ضرورة بدء عمليات إعادة إعمار قطاع غزة، بهدف جعله قابلًا للحياة، وذلك دون تهجير سكانه الفلسطينيين، وبما يضمن الحفاظ على حقوقهم ومقدراتهم في العيش على أرضهم."
لكن ترامب دأب طوال الأسبوع المنصرم على ترديد فكرته الداعية إلى تهجير فلسطينيي غزة. ووقائع الجغرافيا تقول إن سيناء هو المكان الأنسب لاستيعاب هؤلاء الفلسطينيين وتسكينهم. وبالأمس لوح ترامب بقطع المساعدات الأمريكية في حالة عدم امتثال مصر لخطته.
أما اليوم، فقد أعلن الملك عبد الله أثناء لقائه مع ترامب إن الأردن سينتظر موقف مصر إزاء موضوع التهجير.
لذلك فالكرة في ملعبنا، والقرار جد خطير وتاريخي.
فلو قبلت مصر فكرة التهجير فسنكون قد قبلنا مبدأ لم نقبله منذ اندلاع صراعنا مع إسرائيل قبل سبعة وسبعين عاما. فطوال تلك المدة لم تقبل مصر أبدا فكرة تسكين الفلسطينيين في مخيمات على أراضيها، ومصر هي الدولة الوحيدة من دول الطوق (لبنان وسوريا والأردن ومصر) التي لا يوجد بها مخيمات للفلسطينيين. والأمر يعود لعام 1955 عندما تكررت اختراقات الفلسطينيين للحدود مع الدولة الوليدة لزيارة بيوتهم المسلوبة أو لاسترجاع ممتلكاتهم المسروقة، أو للإغارة على الغاصبين الذي طردوهم من وطنهم، فكان رد فعل وزير الحرب الإسرائيلي، بن غوريون، هو الرد بعنف، فجاءت غارة 28 فبراير 1955 التي راح ضحيتها 38 جندياً مصرياً. ويجب أن نتذكر أن رد فعل عبد الناصر على هذه الغارة كان العمل حثيثاً على تعزيز قوة الجيش المصري، الأمر الذي أفضى به في النهاية إلى عقد صفقة السلاح التشيكية في سبتمبر من نفس العام، وهو الأمر الذي أفضى بدوره لحرب العدوان الثلاثي في العام التالي.
بمعنى آخر إذا قبلت مصر صفقة يتم بمقتضاها تهجير مئات الآلاف من فلسطينيي لسيناء فسنكون انتهكنا مبدأ استنته كل الحكومات المصرية منذ عام 1955 وهو احتكار الجيش المصري لحق وواجب الدفاع عن الأرض المصرية، والهجوم على العدو إن تطلب الأمر، دون التخلي عن هذا الحق وهذا الواجب لأي فصيل آخر.
ومن غير المتصور أن تقبل قيادات الجيش المصري بهذه الصفقة التي ستعني، فيما تعني، أن يتولى الجيش المصري "تأمين" المنطقة الجغرافية التي ستستقطع من سيناء لتوطين الفلسطينيين فيها، والتي ستكون في الأغلب ملاصقة لحدود غزة الحالية.
فالجيش المصري ما يزال يخوض مواجهات متفرقة مع فلول "تنظيم ولاية سيناء"، وإن كانت حدة هذه المواجهات قد خفت كثيراً منذ عام 2022. كما قد تكون التكلفة العسكرية والاقتصادية والأخلاقية لإخضاع مئات الآلاف من الفلسطينيين للحكم العسكري المصري أعلى من قدرة الجيش على تحملها.
سيناء أرض خلاء؟
06-11-2023
سيناء... شبه جزيرة الغموض
14-05-2014
وعوضا عن ذلك قد يُعهد بتأمين تلك مخيمات الفلسطينية لميليشيات "إبراهيم العرجاني" وقواته. ومن غير المستبعد أن يطمع "العرجاني" في عملية إعمار غزة بعد أن تباهى هو وابنه مؤخرا بالدور الكبير الذي يلعبونه في إعمار "ليبيا الشقيقة". ولكن هذا السيناريو سيصطدم عاجلا أم آجلا بقوات الجيش النظامي المصري وشركاته.
هذا إذا نحينا جانبا المعارضة الشرسة التي سيواجهها مبدأ التهجير من القطاع الأكبر من الرأي العام المصري. طبعا إمكانية الحراك المجتمعي محدودة في ظل القبضة الأمنية الشديدة، لكن توطين ما يقرب من مليوني فلسطيني على الأراضي المصرية قد يقلب السحر على الساحر، حتى وإن لمِّعت مغريات العروض الأمريكية والخليجية لتسويغ هذا التوطين.
أما لو رفضت مصر فكرة التهجير فسنكون أمام احتمال قطع المعونة الأمريكية، بشقيها المدني والعسكري. وهذا له تبعات خطيرة تتعلق بالتسليح والتدريب والجاهزية القتالية للجيش المصري. كما قد يفرض علينا ترامب غرامات وعقوبات باهظة، في وقت يتعرض اقتصادنا فيه لهزات خطيرة. فترامب لم يتورع عن توجيه عقوبات لحلفاء وأصدقاء أكبر من مصر بكثير (كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي والصين).
ولكن أخطر ما في هذه اللحظة هو تهديد إسرائيل باستئناف الحرب إن لم تقبل الأطراف العربية بمبدأ التهجير. في هذه الحالة المرحلة المقبلة من الحرب لن تكون موجهة لحماس، بل وكما أشار السفير "أيمن زين الدين" في بوست له على فيسبوك "ستهدف لكسر إرادة الدول العربية وأولها مصر، وإجبارها على قبول ما ترفضه."
لذا فنحن أما خيارات أحلى ما فيها مر.
ولكن قد نكون أيضا أمام فرصة لإعادة النظر في سياستنا الخارجية برمتها وتحديداً في طريقة تعاطينا مع القضية الفلسطينية، التي هي قضية مبادئ وحقوق وتاريخ، بجانب كونها قضية أمن قومي مصري.
ولا يسعني هنا إلا أن أشيد بموقف الخارجية المصرية في بياناتها التي أصدرتها في الأيام القليلة الماضية والتي انتزعت فيها زمام المبادرة من أجهزة الأمن التي ما فتأت تدير الملف الفلسطيني منذ عهد "عمر سليمان."
كما أشيد بما قاله السفير "أيمن زين الدين" في بوست آخر لخّص فيه الخطوات التي يممكن لمصر أن تتخذها على المدى المتوسط والطويل. تلك الخطوات، حسب السفير أيمن زين الدين، بإمكانها أن "تحول سياسة مصر تجاه إسرائيل من التعايش السلمي إلى منهج حازم يتحدى سياساتها وممارساتها، بالعمل في المساحة الواسعة بين حالة العداء وبين الالتزام بأحكام معاهدة السلام في حدود نصوصها فقط."
ومن ضمن الخطوات التي اقترحها السفير "أيمن زين الدين" الخطوات التالية:
- التركيز على الجانب غير الشرعي وغير الإنساني وغير القانوني لسياسة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- التشديد على أن قبول المجتمع الدولي استمرار عملية سلام في ظل الرفض الإسرائيلي يضعف موقف أنصار السلام في العالم العربي وفى إسرائيل.
- دعوة الدول المتعاونة مع إسرائيل على إعادة النظر في شراكاتها العسكرية والأمنية والتسليحية.
- رفض الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية امتدادا لموقف مصر من فكرة الدولة الدينية، ونظراً لاستبعادها المنهجي للفلسطينيين.
- إيضاح أن فشل حل الدولتين يفرض استكشاف بدائل أخرى، بما في ذلك الدعوة إلى حقوق متساوية للفلسطينيين داخل إسرائيل.
- استعادة مصر التحرك النشط في المنظمات الدولية دعماً للقرارات التي تؤيد الحقوق الفلسطينية وتدين الانتهاكات الإسرائيلية.
- إعادة تقييم سياسة مصر تجاه الشؤون الداخلية الفلسطينية وأخذ المبادرة لإعادة هيكلة الحركة الوطنية الفلسطينية لتوحيد فصائلها.
- تسهيل اتصال قطاع غزة بالعالم الخارجي للأفراد والبضائع، وتجاهل طلبات إسرائيل للتضييق عليه، لأن ذلك واجب أخلاقي وإنساني، ولأنه يزيل أي شوائب في علاقات مصر بأبناء القطاع.
- تجديد التركيز على البرنامج النووي الإسرائيلي والدعوة إلى الإشراف الدولي عليه.
- دعم الجهود القانونية لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها في المحاكم الدولية.
باختصار، هذه دعوة إلى إعادة تقييم السياسة الخارجية المصرية تجاه إسرائيل، وإلى إحداث تحوّل في هذه السياسة لن يكون سهلاً، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر، لكنه ضروري لاستعادة مصر مكانتها الإقليمية، وحماية مصالحها. لهذا يجب أن تُدار هذه العملية بحكمة وتدرج، لكن بكل ثقة وعزم."
بقي أن أزيد على كلام السفير "أيمن زين الدين" أن هذه الإجراءات والخطوات يجب أن تقترن بخطوات داخلية تقلل من الاحتقان الذي يعاني منه المجتمع وتسمح بعودة السياسة والعمل السياسي وتحد من بطش الدولة وتغولها على حقوق المواطنين. وتأتي خطوة الإفراج عن كل المعتقلين وسجناء الرأي في أولى هذه الخطوات.
نحن مقبلون على فترة عصيبة وصعبة نحتاج فيها للعمل سوياً لمواجهتها. نحتاج فيها لحنكة الدبلوماسيين وخبرتهم، كما نحتاج فيها لمهارات وخبرات وطاقات فئات الشعب المختلفة، وليس فقط لأجهزة الدولة ومؤسساتها.