عنابر الولادة.. حكايات دموية، من الاستخفاف إلى الاستغلال

تصل نسب الولادة القيصرية في المستشفيات الخصوصية في مصر، إلى أرقام قياسية، هي الأعلى في العام، بنسبة 72 في المئة من مجمل الولادات، فيما تبلغ في المغرب 60 في المئة. وعلى الرغم من أن هناك إجراءات إدارية لسلوك طريق القيصرية، لكنها خاصة بالمستشفيات الحكومية فقط. في أوروبا، تنخفض نسب الولادات القيصرية إلى أقل من 20 في المئة في بعض البلدان، لأن الإجراءات الإدارية تفرض وجود مبرر طبي ضروري للعملية. فالولادة القيصرية تعتبر عملية كبرى، لها مضاعفات كثيرة.
2025-02-06

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
مستشفى في الدار البيضاء - المغرب

في ذكرى بعيدة من الطفولة، لأول فكرة لي عن الولادة، يحضرني مشهد من ولادة أمي لأختي الصّغرى، سبقهُ بكائي عند باب غرفتها المغلق، حتّى فُتح وأقنعتني النساء حولها بأنّها مشغولة. وفي الفجوة الصّغيرة التي انفتحت أمامي، رأيتُ حبلاً معلقاً إلى جانب سرير أمي.

سمعتُ لاحقاً عن الحبل كمساهم مهمّ في المشهد العام للولادة، لكن من دون تحديد لدوره. فظل غامضاً في ذاكرتي حتى كبرت. كذلك ظلّت عملية الولادة محاطة بالغموض لعقود، تُمارَس بتقاليد وأعراف تتجاهل الفروق بين النساء وظروفهن الصّحية. وتحت ستار كثيف من الحرَج والحياء المزيف، وُضعت النساء أمام حكم عام بأنّ الولادة مسألة روتينية تخضع للعادات.

ومع تطور الخدمات الصّحية، انقلبت الآية، وصارت الولادة عملية معقّدة تحتاج إلى التدخل الجراحي، لأن قوانين السوق جعلتها كذلك. ففي المغرب كما في باقي دول المنطقة العربية، لم تعد الولادة القيصرية حالة استثنائية، بل صارت ضرورة تُفرَض من دون حاجة طبّية إلى ذلك، مما يُثقل كاهل الأسر بتكاليف باهظة، ويعرّض النساء لمضاعفات خطيرة.

ففي مشهد حديث، دخلت ثلاث شابات حوامل إلى عنبر الولادة على أقدامهن، في مستشفى خاص في "الدارالبيضاء"، لإجراء عملية قيصرية لإنجاب حياة جديدة. وخرجن منها إلى قبورهن، مرفقات بأجنّتهن، وبتعتيم شديد على أسباب وفاتهن وهنّ بكامل صحتهن.

الولادة والموت قدران لا راد لهما

في تفسيري الطفولي لمشهد الحبِل، تصوّرتُ أن الحامل تُربط من يديها بالحبل، حتى تسمح لهم بإخراج الطفل من بطنها. وكم كانت الصّورة مرعبة. وعلى الرغم من أنّ نساء العائلة شرحن لي، عندما كبرت بما يكفي ليُلقين بالاً لأسئلتي، أنهن يُحْضرن الحبل لمساعدة الحامل، التي تتمسك به خلال نوبات المخاض المؤلمة. لكن سمعة الحبل ظلت سيّئة في ذاكرتي.

وعندما دخلتُ إلى عنبر الولادة، لأنجب ابنتي، وجدت في سرير الولادة حوامل أقدام في سقف السرير. بالضبط كما توجد في عنابر الكُسور، التي تُعلّق فيها الأرجل المجبورة بالشاش الأبيض. فغاص قلبي وأرعبتني فكرة تعليق قدميّ بالحاملين، كالخروف المذبوح. على الرغم من أنه ما مِن امرأة مرّت من عنبر الولادة وحكت لي ما يشبه ذلك.

في مشهد حديث، دخلت ثلاث شابات حوامل إلى عنبر الولادة على أقدامهن، في مستشفى خاص في "الدارالبيضاء"، لإجراء عملية قيصرية لإنجاب حياة جديدة. وخرجن منها إلى قبورهن، مرفقات بأجنّتهن، وبتعتيم شديد على أسباب وفاتهن وهنّ بكامل صحتهن.

في السابق، لو حاولت امرأة أن تشكو من وضع خاص يتعلق بالولادة، بما فيها الحالات الخطيرة، كانت تسمع جملة: "مثلك مثل بقية النساء.. فافعلي كما يفعلنَ". تَنسى الجملة حالات الوفاة خلال الولادة للأم وللجنين أيضاً. طالما أن عدد النساء اللواتي أنجبن، وعُدن إلى الإنجاب مرات كثيرة، هائل. 

كانت تجربتي في غرفة الولادة مليئة بالمخاوف، التي تعكس حالة عامة تعيشها العديد من النساء عند مواجهة أسرار تلك العملية لأول مرة. فلأجيال طويلة، أُحيطت بما جعلها تجربة مبهَمة تمر بها النساء بشكل موحّد من دون معرفة كافية. ولا يُقال كثيرٌ عنها للواتي لم يجربنها بعد. وهكذا كنتُ معرضة لكافة الأمور الجديدة، في مهمتي الأولى كأم من دون معرفة يقينية بالتفاصيل. وتبين أن سبب وجود حوامل أقدام على السرير، يتعلق بكون العنبر احتياطيّاً لا غير، لأن عنبر الولادة الأساسي كان مشغولاً.

فحينها كانت المستشفيات الخاصة صغيرة الحجم، لأنّ معظم النساء كن إذا قدرنَ على تجنب الولادة في المستشفى العمومي، يُنجبن في مؤسسات مرخّصة للولادة تديرها قابلات. وقليلات من يلجأن إلى مستشفى خاص.

هذا منذ عشرين سنة. أما الآن فهذه المستشفيات تعيش على عمليات الولادة، والقيصرية منها بشكل خاص. لذلك، تعددت عنابر الولادة فيها، ونُظِّمت مع تزايد انتشار القيصرية التي تُجرى وفق جدول مسبق، لا تتحكّم فيه نوبات الطلق، ولا هرمونات هذا الجسد أو ذاك.

تلد النساء الكائن نفسه، ومن المكان نفسه، فما الفرق في تجاربهن؟

في السابق، لو حاولت امرأة أن تشكو من وضع خاص يتعلق بالولادة، بما فيها الحالات الخطيرة، كانت تسمع جملة: مثلك مثل بقية النساء .. فافعلي كما يفعلن. تَنسى الجملة حالات الوفاة خلال الولادة للأم وللجنين أيضاً. طالما أن عدد النساء اللواتي أنجبن، وعُدن إلى الإنجاب مرات كثيرة، هائل، والدليل هذه المليارات السبعة، التي تدب على الأرض. فلو كانت الولادة خطيرة حقاً لما تناسل البشر كالأرانب.

وإذا شكت الحامل من ألم غير اعتيادي، أو نزيف، يُستخف بالأمر: انظري إلى هؤلاء النساء اللواتي لا يزلن على قيد الحياة، على الرغم من ظروف الولادة الشاقة.. منهن من أنجبت وحدها، ونزلت إلى الحقل مباشرة لتكْمل عملها. خاصة عندما يتعلق الأمر بولادة خامسة أو تاسعة، وفي القرى، حيث الخدمات الصحية منعدمة، وأقرب مستشفى على بعد كيلو مترات كثيرة.

على الرغم من أن نسب الوفيات خلال الولادة في المنطقة العربية قلّت بالتدريج، لكنها لا تزال موجودة. إذ تراجع معدل وفيات الأمهات بنسبة 45 في المئة بين عامي 2000 و2020، حيث انخفضت حالات الوفاة من 260 حالة في كل مئة ألف ولادة في عام 2000 إلى 145 في عام 2020. وهو تطور ملحوظ لكنه لا يزال متفاوتاً بشكل كبير بين بلدان المنطقة. 

وعلى الرغم من تغير المجتمع، ولجوء جل النساء إلى المستشفيات للولادة، لكن منطق "كل النساء يلدن"، والولادة ليست بالمهمة الصعبة، ظل لصيقاً بالعملية، مع أن عدد وفيات النساء والأطفال كان كبيراً، لكنه كان يعتبر قضاءً وقدراً لا راد له.

وعلى الرغم من أن نسب الوفيات خلال الولادة في المنطقة العربية قلّت بالتدريج، لكنها لا تزال موجودة. إذ تراجع معدل وفيات الأمهات بنسبة 45 في المئة بين عامي 2000 و2020، حيث انخفضت حالات الوفاة من 260 حالة في كل مئة ألف ولادة في عام 2000 إلى 145 في عام 2020. وهو تطور ملحوظ، لكنه لا يزال متفاوتاً بشكل كبير بين بلدان المنطقة.

وبحسب إحصاءات "منظمة الصحة العالمية"، فإن الوفيات في المنطقة العربية خلال عام 2020، تراوحت بين أقل نسبة في قطر بـ 8 وفيات من أصل مئة ألف ولادة، والأردن 41، ونسب متوسطة مثل الجزائر 78، والمغرب 72، والنسب المرتفعة في اليمن بـ 183، والسودان بـ 270، وموريتانيا بـ 464 وفاة. وانتقل المغرب من 244 حالة وفاة عام 2000، إلى 72 حالة وفاة في عام 2020، بحسب "صندوق الأمم المتحدة للسكان" المعني بالصحة الإنجابية والجنسية.

استغلال آلام النساء لحلب جيوب الأسر

هناك كثيرٌ من العوامل، التي تتدخل في الولادة، سواء في حالات الاستخفاف التي كانت العادات والتقاليد تسيطر فيها على صحة النساء، أو في حالات العمليات القصرية، التي تتدخل فيها العوامل المادية بشكل رئيسي أكثر من الاعتبارات الطبية.

في تقرير عن الولادة القيصرية، كتب صحافي عربي، أن انتشار ثقافة الولادة القيصرية في كثيرٍ من المجتمعات العربية، يرتبط برفاهية حياة المرأة والتعامل مع ظروف الحمل "بحساسية مفرطة". هكذا إذاً، تتناسل الأحكام والاجتهادات حول الولادة! فالنساء إما بطلات قد يصبحن أرقاماً في نسب الوفيات، أو مدلَّلات. بينما هي عملية طبية، يجب أن تخضع لإرشادات تراعي الوضع الصحي والنفسي للحامل.

في الواقع، تتدخل عوامل عديدة في اختيار الولادة القيصرية، قرار المرأة جزء منه فقط. فهو غالباً مسؤولية الأطباء، الذين يقترحون بسرعة القيصرية على النساء. وهم، والمستشفيات الخاصة، الرابح الوحيد، بسبب العائد المادي الضخم للقيصرية على عكس الولادة العادية. والعامل الثاني هو تجنب ساعات الولادة الطويلة في حالات استعصائها، وتلافي نداءات منتصف الليل. فساعة الجسم عند الولادة لا تستشير الوقت الملائم للأطباء، ولعائلة الحامل، ولبرمجة المستشفى.

تصل نسب الولادة القيصرية في المستشفيات الخصوصية في مصر، إلى أرقام قياسية، هي الأعلى في العام، بنسبة 72 في المئة من مجمل الولادات، فيما تبلغ في المغرب 60 في المئة. وعلى الرغم من أن هناك إجراءات إدارية لسلوك طريق القيصرية، لكنها خاصة بالمستشفيات الحكومية فقط.

في تقرير عن الولادة القيصرية، كتب صحافي عربي، أن انتشار ثقافة الولادة القيصرية في كثيرٍ من المجتمعات العربية يرتبط برفاهية حياة المرأة والتعامل مع ظروف الحمل "بحساسية مفرطة". هكذا إذاً، تتناسل الأحكام والاجتهادات حول الولادة! فالنساء إما بطلات قد يصبحن أرقاماً في نسب الوفيات، أو مدلَّلات. بينما هي عملية طبية، يجب أن تخضع لإرشادات تراعي الوضع الصحي والنفسي للحامل.

في مصر، يصعب أن يوافق مستشفى حكومي على خضوع امرأة للولادة القيصرية، لأن هناك مسطرة صارمة من وزارة الصحة بالاعتماد على الولادة الطبيعية، إلا في حالات شديدة الخطورة. لكن ظروف الاستشفاء السيئة في هذه المستشفيات، تدفع الناس إلى الذهاب إلى المراكز الطبية الخاصة ذات التكاليف المرتفعة، لضمان عناية أكبر للأم والوليد، ولأن الحلول السريعة متوافرة بقوة. وكذلك، فالرقابة على المستشفيات الحكومية ليست بتلك الشدة، التي تمنع الوصول إلى اتفاق بين الطبيب وأسر الحوامل.

مضاعفات خطيرة

في أوروبا تنخفض نسب الولادات القيصرية، إلى أقل من 20 في المئة في بعض البلدان، لأن الإجراءات الإدارية تفرض وجود مبرر طبي ضروري للعملية. فالولادة القيصرية تعتبر عملية كبرى، لها مضاعفات كثيرة، منها نسب التعرض إلى نزيف حاد، التي تفوق الولادة الطبيعية، واحتمال حدوث مضاعفات للتخدير، سواء النصفي أو الكلي، فضلاً عن زيادة فرص الولادة المبكرة والقيصرية هي الأخرى، في الحمل التالي، وزيادة احتمال احتياج الطفل إلى حضانة بعد الولادة... إلى جانب مضاعفات متعلقة بالتخدير، والنزيف الحاد، وحالات العدوى التي تحدث في الغالب بعد الولادة...

غالبا لا يتم اطلاع النساء وأسرهن على نسب تعرضهن لمخاطر بسبب القيصرية، ولا يتم التشجيع على طرق التخفيف من ألم الولادة الطبيعية. وتنتشر الأفكار غير الدقيقة حول تعرض الرحم للتشوّه نتيجة الولادة الطبيعية، التي إن صحّت، فهي تتعلق باللواتي ينجبن عدداً كبيراً من الأولاد، وليس بالمعدل الحالي للولادات، وهو طفلان أو ثلاثة.

مقالات من المغرب

للكاتب نفسه

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...