المكان. ها أنت، من جديد، تترجل من "الفان" (الميكروباص) قرب محطة المحروقات في محلّة "البصّ". هنا تنتهي الرحلة، وتتفرع الطرق من جهة نحو قرى قضاء "صور" التي نالت حصة كبيرة من العدوان الإسرائيلي الأخير، وإلى المدينة "المنكوبة" بالفعل هذه المرّة، من جهة أخرى. بشكل ما، داخل الفوضى، تمكّن القيّمون على "موقف البصّ" من ضبط تعرفة الراكب قبل أسبوعين، وكانت قد وصلت إلى 400 ألف ليرة (نحو 4.5 دولار أمريكي.) وها هي قد ثُبّتت عند 300 ألفاً، بغض النظر عن امتعاض بعض السائقين. لكن الفوضى، وجدت طريقها إلى معظم التعاملات المالية اليومية بين الناس، حيث لا أسعار محددة للسلع والخدمات. الفوضى تكاد تهيمن على كل شيء.
لبنان مجدداً وغزة في القلب منه
29-11-2024
الزمان. بُعيد انتهاء مرحلة الهدنة المعلنة، التي تلت توقيع "اتفاق وقف إطلاق النار" في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. هي مدة ستين يوماً كما قيل، وانقضت، لكن "وقف إطلاق النار" كان من طرف واحد، فالعدو لم يوفر يوماً لم يتابع فيه تدمير القرى الحدودية. دوي الانفجارات هائل ودخانها كان يُشاهد أحياناً بالعين المجردة على الشريط الساحلي جنوب المدينة، أما المسيّرات فحضورها شبه دائم على علو منخفض فوق الركام وما تبقى من مباني المدينة. كأن "وقف إطلاق النار" المزعوم، ما هو إلا وقفاً لخرق جدار الصوت من قبل طيران العدو الحربي فقط!
"بالمال مش بصحابو"
مدخل المدينة البائس زاده الإهمال بؤساً. إلى اليمين، تكوّمت النفايات وأغراض المحال التجارية المواجِهة، على طول جدار المدرسة وصولاً إلى ملعب "البصّ". ينفرج المشهد على الكورنيش البحري وصولاً إلى "دوار العلَم"، ترافقك فيه أعلام خضر وصفر متدلية من أعمدة الكهرباء وسط الطريق. على محيط الدوّار، فوق العشب، زرعت وجوه شهداء المدينة، مدنيين وعسكريين وأطفالاً، يطلّون من صورهم الورقية المثبتة فوق أخشاب مثبّتة في لحم الدوّار. يحدقون في المارة. إلى اليسار، صعوداً في "شارع القدس"، "حي الرمل" الذي تفرغت الآلة الحربية الصهيونية له، وتفننت في تدمير مبانيه.
"وقف إطلاق النار" كان من طرف واحد! فبُعيد انتهاء مرحلة الهدنة المعْلَنة، التي تلت توقيع "اتفاق وقف إطلاق النار" في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وهي ستين يوماً كما قيل، وانقضت، لم يوفر العدو يوماً لم يتابع فيه تدمير القرى الحدودية. دوي الانفجارات هائل ودخانها كان يُشاهَد أحياناً بالعين المجردة على الشريط الساحلي جنوب مدينة صُور، أما المسيّرات فحضورها شبه دائم.
تمكنت جرافات "البوبكات" الصغيرة، من شق طريق للمارة، مبعِدة ركام مبنى سقط فوق زاروب "فرن الحطب" ("عوض")، خلف "فرن بحر" وصولاً إلى شارع "المدرسة الدينية"، الذي نال حصّة كبيرة من التدمير الممنهج. يجلس أصحاب المنازل المدمرة أمامها على كراسٍ بلاستيكية يحتسون القهوة، وتستعيد المدينة بعض الحياة. يقال إن قسماً معتبراً من هذا الشارع الذي يتوسط شارعي "حيرام" و"قرطاج"، كان عبارة عن مستنقعات مائية ضحلة. وبقي على حاله منذ خراب صور الصليبية، على يد جحافل المماليك سنة 1393، إلى أن احتل المدينة جيش "إبراهيم باشا" مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وتذكر الحكاية المحلية الشعبية أن "إبراهيم باشا" المصري، كان مولعاً بزوجته النوبية التي يسميها بـ"السمرة" (السمراء)، وكان ينصّب على كل مدينة يحتلها أحد أشقاء "السمرة" والياً من قِبله. ولعل في هذه الحكاية جانباً من الحقيقة، إذ نجد اليوم أن اسم هذه العائلة موجود في صور وصيدا وغيرها من المدن الساحلية. فكان من نصيب صور أحد هؤلاء الولاة الذي ردم المستنقعات، ووصل المدينة بالطريق الساحلي خارجها، حيث أطلال "مرمح الخيل" الروماني، الذي لم تكن الحفريات قد كشفت عنه في ذلك الزمن.
قبل شهر، انتظر الناس لجان الكشف التي جالت على الأحياء بعدما قسّمتها مربعات. شبان وشابات بكامل نشاطهم، ذوو وجوه هادئة مبتسمة أحياناً، يجولون من مبنى إلى آخر، من شقة إلى أخرى يُسجّلون الأضرار. ويعودون إلى المبنى الذي كان يضم فرع "القرض الحسن"، ودمرته مسيّرة صهيونية أثناء الحرب. إلى هناك يتوافد من وصلتهم رسائل نصيّة ليستلموا شيكاتهم التي تُصْرف من فرع مستحدَث للمؤسسة عند الطرف الجنوبي للمدينة، على طريق "الحوش". يبدو أن هذه المؤسسة التي صبّ العدو جام غضبه عليها، ودمّر الكثير من مراكزها، يمكن القول إنها "لا تزال بخير". ليست وحدها كذلك، بل البنية الاجتماعية ل"حزب الله" ومؤسساته كلها. هذه التعويضات هدّأت من النفوس، وأدارت عجلة أشغال الألومينيوم والزجاج والأبواب الخشبية والحديدية، وورش العمار الصغيرة، ليس لإعادة بناء ما تهدّم، بل لإصلاح بعض الأضرار. فتحولت المدينة في الشهر الأخير إلى ورشة كبيرة.
ما أصاب المدينة من دمار، قبل 18 سنة، في 2006، لا يكاد يكون شيئاً إذا ما قورن بما هي عليه اليوم.. إنها مدينة منكوبة بالفعل. أصابت الأضرار المختلفة معظم مباني الحي، وهو ليس حياً عادياً إذ يحتضن معظم سكان المدينة.
صُور التاريخية، الرابضة فوق صخرة في البحر بأحيائها التسعة، تقل مساحتها الإجمالية عن مساحة "حي الرمل" منفرداً. ويُفترض أن هذا اللسان الرملي نشأ على جانبي الطريق الذي رصفه جنود "الاسكندر المقدوني" يوماً كي يُخضِعوا المدينة التي لم تستسلم.
ينقسم أهل المدينة تجاه مسألة التعويضات، وهو أمر طبيعي، فهم منقسمون سياسياً، وقد زادت حدة الانقسام خلال مرحلة النزوح الأخير من المدينة. لكن حتى المناوؤِين للمقاومة بشكل عام، لم يرفضوا التعاون مع لجان الكشف، ثم انتظروا التعويضات وقبضوها. لكل منهم مبرراته. فيما معظم سكان المدينة المتضررة بيوتهم "اللي بدهن السترة"، انشغلوا بإصلاحها من جهة، وبمقارنة المبالغ التي قبضوها بتلك التي قبضها جيرانهم. وأجمعوا على أن ما قبضوه أقل من الخسائر، لكن "بيمشي الحال، والله بيفرجها".
كل هذا الدمار
خلال عدوان تموز/ يوليو 2006، أطل رئيس بلدية صور السابق المرحوم "أبو ظافر الحسيني" ( الملقب ب"الخال") عبر الشاشات ليعلن "صور مدينة منكوبة". ترك هذا الرجل الصامد الذي لازم المدينة طيلة فترة العدوان، ذكرى عطرة لدى كل من عرفه. كذلك فعل رئيس البلدية الحالي المهندس "حسن دبوق"، في العدوان الأخير، فأعاد الكرّة، ولازم الصامدين الذين لا مكان لديهم لينزحوا إليه. إلا أن ما أصاب المدينة من دمار قبل 18 سنة، في 2006، لا يكاد يكون شيئاً إذا ما قورن بما هي عليه اليوم.. إنها مدينة منكوبة بالفعل. أصابت الأضرار المختلفة معظم مباني الحي، وهو ليس حياً عادياً إذ يحتضن معظم سكان المدينة.
هنا صور.. حاضرة جبل عامل
21-07-2022
1948 جديدة.. هل نخرج من تحت المبضع الصهيوني؟
10-10-2024
"الرمل" حي حديث نسبياً، نشأ بعدما فاضت "الحارة" (صور القديمة) بسكانها فخرج من تمكّن منهم، أواسط القرن العشرين، من الحارة وبنوا بيوتاً لهم فوق اللسان الرملي الطويل الذي حوّل صور من جزيرة إلى شبه جزيرة وربطها بالبر، أي ب"صور البريّة". فصُور التاريخية الرابضة فوق صخرة في البحر بأحيائها التسعة، تقل مساحتها الإجمالية عن مساحة "حي الرمل" منفرداً. ويُفترض أن هذا اللسان الرملي نشأ على جانبي الطريق الذي رصفه جنود "الاسكندر المقدوني" يوماً كي يخضعوا المدينة التي لم تستسلم. ويُفترض أن طريق الإسكندر التي تظهر في موقع "البص" الأثري، حيث قوس النصر، شرق المدينة، تختفي تحت هذا الحي لتعود إلى الظهور في موقع آثار المدينة قرب البحر. ظلت بيوت الحي الأنيقة ذات التصوينات والحدائق متناثرة فوق الرمال، بعيدة بعضها عن بعض، إلى أن حدثتْ طفرة عمرانية، حيث ارتفعت على جانبي شوارع الحي الخمسة، شبه المتوازية مبان تفتقر إلى الذائقة المعمارية. وربما بسبب اختلاط اسمنتها بملح ماء البحر، يحتاج معظمها إلى الترميم، وبعضها المتهالك إلى إعادة إعمار، إذ يندر أن يمرّ فصل من فصول الشتاء من دون أن تهوي شرفة هنا أو جدار هناك.
ينقسم أهل المدينة تجاه مسألة التعويضات، وهو أمر طبيعي، فهم منقسمون سياسياً، وقد زادت حدة الانقسام خلال مرحلة النزوح الأخير من المدينة. لكن حتى المناوؤِين للمقاومة بشكل عام، لم يرفضوا التعاون مع لجان الكشف، ثم انتظروا التعويضات وقبضوها. فمعظم سكان المدينة المتضررة بيوتهم، و"اللي بدهن السترة"، انشغلوا بإصلاحها من جهة، وبمقارنة المبالغ التي قبضوها بتلك التي قبضها جيرانهم.
في الحرب الأخيرة، تلقى "حي الرمل"، قلب صور النابض، موجات وموجات القصف، بعدما ارتكب العدو مجزرتين خارجه راح ضحيتهما مدنيون، واستهدف شقة ومبنيين على الكورنيش الجنوبي. لم يكتف العدو بذلك، بل ظلل الحيّ كله بمربع أحمر بين شارعي "الجعفرية" و"الآثار"، وبين "حيرام" و"قرطاج". العدو، كما الأهالي، يعرفون أن لا "عناصر لحزب الله"، ولا "منشآت"، ولا "وسائل قتالية" في الحيّ، كما ادّعى الناطق باسمه في بيان التهجير.. وهدفه كان محصوراً ببث الرعب، في من بقي من أهل المدينة والنازحين من قرى الحدود، وتفريغها من السكان، لذلك لم يحدد مبنى بذاته بل كل المباني.
"سارحة والربّ راعيها"
في "صور" مستوى متعارَف عليه من الفوضى يتعايش معه أهلها. لا وجود لإشارات سير كهربائية في المدينة، ويمكن لصاحب أي سيارة أن يمارس مهنة النقل العام، وقلما تجد عناصر للشرطة البلدية في شوارعها. أزقة المدينة، التي تفتقر إلى النظافة، تكاد تكون مسقوفة بكمّ كبير من أشرطة مولدات الكهرباء والانترنت والساتيلايت، ويصعب مرور شاحنة فيها من دون أن يجلس شخص على سطحها حاملا عصا طويلة يدفع بها الأشرطة إلى فوق... أما التلوث الصوتي فيها فهائل، إذ لا يقتصر على السيارات والدراجات النارية، التي لم تعرف العوادم سبيلها إليها، ولا على ميكرفونات المساجد ذات الأدعية الطويلة، ومجالس العزاء التي باتت من أبرز الأنشطة الثقافية في السنوات الأخيرة، ومكبرات الصوت في سيارات نعي الموتى، وبائعي كل شيء ومشتري "حديد، نحاس، بطاريات"، وأصوات مولدات المياه... أضف إلى ذلك صراخ رواد المقاهي الليليين ونباح الكلاب الشاردة، ما أكثرهم وما أكثرها. كل ذلك يدخل في خانة "العادي" أو "الطبيعي". فبشكل ما، وإلى حد ما، يوجد بين سكان المدينة "الراضين بقضاء الله وقدره" نوع من التواطؤ المفْضي إلى القبول بالأمر الواقع.
أما الفوضى اليوم فغير "عادية".
لعل ما هو أكثر إيلاماً، الارتفاعات الجنونية في الأسعار والخدمات، حيث ازدادت الأسعار أضعافاً مضاعفة في بعض الأحيان. الباب الخارجي للمنزل، وهو عبارة عن قطعة مستطيلة من الخشب بدون قشرة أو طلاء، وصل سعره إلى 500 دولار، فيما لم يزد سعره مع قشرة وطلاء في السابق عن 150 دولار!
تغطي طبقة من غبار المباني المدمرة "حي الرمل"، فالأمطار التي تساقطت غير مرّة لم يستمر أثرها طويلاً، فيما ينشط "نابشو النفايات" السابقون فوق ركام المباني يبحثون عن أي شيء يمكن بيعه. وبين الحين والآخر يبحث أصحاب الشقق المدمَّرة على أغراض لهم لعلهم يجدون شيئاً. و"لم يُسمح" بعد بإزالة الركام، وسيحدث ذلك بعد مهلة "الستين يوماً".
قيل إن شركة محدَّدة التزمت إزالة الركام، لكن آلياتها الثقيلة لم تظهر بعد في شوارع المدينة. كثيرون باتوا من دون منزل يؤويهم، فأصابت موجة من الجشع أصحاب البيوت التي لم تتضرر أو تضررت جزئياً. وهذه ليست المرة الأولى. فبعدما تهجّر أهل القرى الأمامية في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أصاب "داء الكلب المالي" أصحاب الشقق، وارتفع متوسط إيجار الشقة المتواضعة من 150 دولاراً إلى 350 دولار. وهكذا امتصوا دولارات النازحين من قرى المواجهة. أما اليوم، وقد بات كثيرون بلا مأوى، فاجتاحتهم موجة جديدة من الجشع، ولا مكان "متر بمتر" لاستئجاره. كثيرون من أصحاب الشقق أبلغوا المستأجرين بضرورة إخلاء المأجور لأسباب وأسباب، بغض النظر عن العقود المبرمة أو عن حالة الشقة، وها هي الإيجارات تصل إلى أسعار خيالية لا يمكن التنبؤ بسقفها.
ولعل ما هو أكثر إيلاماً، الارتفاعات الجنونية في الأسعار والخدمات، حيث ازدادت الأسعار أضعافاً مضاعفة في بعض الأحيان. الباب الخارجي للمنزل، وهو عبارة عن قطعة مستطيلة من الخشب بدون قشرة أو طلاء، وصل سعره إلى 500 دولار، فيما لم يزد سعره مع قشرة وطلاء في السابق عن 150 دولار. كثيرة هي البيوت التي تنتظر أبواباً، والمصطلح المسيطِر على أصحاب المصالح: "بأسعار هلّق". أي أننا دخلنا مرحلة جديدة وعليك أن تتحمل. الطلب شديد جداً على جميع الأشغال، فإن تمكن شخص من الحصول على مراده فهو محظوظ. ويسرى الأمر على أشغال الأومينيوم والحديد والزجاج... فالمبالغ المتوفرة لدى المتضرِرة بيوتهم طارت، ثم أضافوا إليها تلك التي حصلوا عليها كتعويض، وطارت. ولا تعويل على "الدولة"، التي يمثلها "مجلس الجنوب"، الذي أحصى الأضرار كذلك، فلكثيرين تجربة سابقة معه من حرب تموز/ يوليو 2006، حيث أحصى الأضرار واختفى، واختفت التعويضات إلا عن أصحاب الحظوة والمقرَّبين.
لبنان: من هو الوطني اليوم؟
16-01-2025
ها هي الأيام الستون لاتفاق وقف إطلاق النار المبهَم قد مرّت، وأهل القرى الحدودية العزّل انطلقوا إلى قراهم في مشهدية عاملية رائعة تجسِّد مفهوم المقاومة الشعبية، لتكسر إرادة الإحتلال. ولعل الموجة المستجِدة من الجشع المستشري في مدينة صور تهدأ، لتعود المدينة إلى سابق عهدها. فلا من يراقب أو يحاسب اليوم، ولعل الآتي من الأيام ينبئنا بما لا نعلم.