ملف نزوح الإيزيديين في العراق يبلغ من العمر أربع حكومات، وما زال لم يُحسم. رغم التطمينات التي تتناوب في تقديمها كل حكومة، وحملات العودة الطوعية التي تطلقها لتشجيع النازحين على العودة، إلا أن جملة من الأسباب تقف عائقاً أمام تحقيق ذلك.
هذا النص يظهر بالتفصيل أسباب تأخر حسم ملف النزوح.
مخيمات
ما زال هناك حوالي 20 مخيماً في إقليم كردستان، ونحو 200 ألف نازح سنجاري فيها. تقضي بعض العائلات المكونة من 8 أشخاص شتاءات بالغة البرودة في خيمة، وسط اعتراف محلي ودولي بالإبادة الجماعية التي ارتُكِبَت بحقهم. إلّا أن هذا الاعتراف لم يغيّر من الواقع، كما هو متوقَّع منه. فالأرقام تظهر بطالة وفقراً وغياب أمن اجتماعي يصل إلى أعلى مستوياته... يسألني نازح منهم: ماذا تعني سلة مواد تنظيف إذا ما كانت حياتنا ملوثة بالكامل؟
حكومتان وتنظيمٌ مسلحٌ ضعيف
عززت "التنظيمات الإرهابية" وجودها بقوة في العراق بعد 2003، وبلغت الذروة في 2014، حين سيطر "داعش" على ثلث مساحة العراق، بعد هزيمته الجيش العراقي. ويظهر ذلك في "سنجار" تحديداً، التي تقع إلى الغرب من "نينوى"، على الحدود العراقية-السورية. فإضافة إلى القوات المسلحة العراقية، تواجدت في سنجار قوات "البيشمركه"، القوات الكردية الرسمية التي تتبع لإقليم كردستان. وعند انسحاب كل هذه القوات من مناطق "سنجار"، دخل تنظيم داعش إليه دون مقاومة تُذكر، إلا من جانب الأهالي بأسلحتهم الصدئة. وهو استخدم الغطاء الديني لتبرير جرائمه، فاحتل المنطقة مقنعاً مقاتليه بكفر وشرك ساكنيها: الإيزيديين.
لطخة تلوث بلد الحضارات
24-03-2024
أسفر هذا الاحتلال عن قتل الآلاف، ونزوح ما يقارب نصف مليون إنسان إيزيدي من "سنجار" وحدها. ولأن المنطقة تُعتبر من "المتنازع عليها" بين حكومتي "بغداد" و"أربيل"، علاوة على وجود أكثر من عشر جماعات مسلّحة فيها، كّونت نفسها بعد 2014، أو هي تتبع لجماعات أخرى وأحزاب أكبر، فتلك أسباب تجعل منها بيئة صعبة للتعايش...
الجبل و"حزب العمال الكردستاني"
مع تكاثف الجهود لإجلاء الإيزيديين من جبل "سنجار" خلال آب/ أغسطس 2014، اتخذ "حزب العمال الكردستاني"، الذي ينشط في سوريا، خطوة جادة لتأمين طريق إجلاء الهاربين من "داعش" إلى "سوريا"، ومن ثم تسفيرهم مرة أخرى إلى كردستان العراق. وكان ذلك.
ثُمِّنت جهود مقاتلي "حزب العمال الكردستاني" الذين ضحّوا لإنقاذ الإيزيديين دون أن يكون لهم "منفعة" في ذلك. وقدمت القوات المعرَّفة باسم PKK الشهداء أثناء قتالهم مع داعش للقيام بخطوتهم تلك.
تجنيد الأطفال
بعد أن ارتفعت مكانة PKK في المنطقة، أعادتها الى الوراء حركتهم في تجنيد الأطفال الإيزيديين[1]، وهي استراتيجية قديمة، غير أنها فعالة دائماً، أي استخدام الدين لتحقيق مطامع توسعية، وتوظيف الضحايا ومعاناتهم لفرض قوة جديدة على أرض الواقع، واستحداث "ميليشيا اليبشة" ("وحدات حماية سنجار" التابعة لـ"حزب العمال") للحصول على تغطية محلية للمطامع التوسعية.
وعلى الرغم من إعلان "العراق" حظر نشاط "حزب العمال الكردستاني" في الأراضي العراقية، فهو ما يزال نشطاً، وإن لم يكن كالسابق، فطبع صور عبد الله أوجلان (قائد الحزب) على مركز شرطة سابق، بعد تثبيت قواته فيه، واتخذت الشرطة العراقية بيتاً مدنياً مهجوراً كمركز لها في عدة مناطق.
مع تكاثف الجهود لإجلاء الإيزيديين من جبل "سنجار" خلال هجوم "داعش" في آب/ أغسطس 2014، اتخذ "حزب العمال الكردستاني"، الذي ينشط في سوريا، خطوة جادة لتأمين طريق إجلاء الهاربين إلى "سوريا"، ومن ثم تسفيرهم مرة أخرى إلى كردستان العراق. وهو ما كان. ولكن، وبعد أن ارتفعت مكانة PKK في المنطقة، أعادتها إلى الوراء حركتهم في تجنيد الأطفال الإيزيديين.
ويرجع القرار العراقي في حظر الحزب إلى اتفاقيات مع "تركيا" - التي تصنّفه تنظيماً إرهابياً، وتعمل على ملاحقته وقتاله حتى خارج الحدود التركية، في الأراضي العراقية والسورية - حول الطاقة والمياه.
ووجود هذه القوات المسلحة في "سنجار" يعطي حجة لتركيا لقصف المدينة والمناطق التابعة لها، وسط غياب صوت السلطات العراقية المسؤولة عن هذه المناطق.
خطابات الكراهية والخوف من الإبادة الخامسة والسبعين
صدر بحقّ الإيزيديين على مرّ التاريخ أربعة وسبعون فرماناً على أيدي جماعات متطرفة دينياً تصنفهم كعبدة للشيطان ومشركين، آخرها كانت في 2014 من قِبل تنظيم "داعش". هذه الحوادث المتكررة خلقت خوفاً تلقائياً من استباحتهم واضطهادهم من قِبَل الأغلبية المسلمة الساحقة في البلد. وقد ساهم هذا العامل، إلى جانب عوامل أخرى تتعلق برداءة التعليم، وانتشار البطالة، وغياب الدعم الحكومي للقطاع الخاص، في بقاء الإيزيديين في مخيمات النزوح، وعدم انتقالهم للعيش في مدن وقرى كردية. إذ في الفترة السابقة، وخلال 24 ساعة فقط، رصدت منظمة "بتريكور"[2] لحقوق الإنسان 3750 خطاب كراهية ضد الإيزيديين، ما دفع بالعديد منهم إلى الهرب عكسياً نحو سنجار. وبدورهما، نفت الحكومتان العراقية والكردية صحة الأخبار عن هرب النازحين بسبب خطابات الكراهية، وادّعت الحكومة العراقية[3] أن 700 عائلة عادت إلى سنجار عودة طوعية، ضمن خطتها لإغلاق مخيمات النزوح وإنهاء هذا الملف! ويعرّض هذا الادعاء حياة الناس إلى خطر لا يقل خطورة عن رمي الفريسة للمفترس لاختبار سرعتها في النجاة.
لا يكتفي النازح الإيزيدي بهذا القدر من الحذر، بل يبلغ مرحلة يختار فيها أن يبقى لشتاء عاشر في خيمة بين الإيزيديين، على أن يسكن في منطقة يغيب فيها هذا الوجود.
ادّعت الحكومة العراقية أن 700 عائلة عادت إلى سنجار عودة طوعية، ضمن خطتها لإغلاق مخيمات النزوح وإنهاء هذا الملف! هذا الادعاء يُعرِّض حياة الناس إلى خطر، فكأنه يرمي بالفريسة إلى المفترِس لاختبار سرعتها في النجاة.
لم يعد النازح الإيزيدي يثق بالآخر، كما فقد ثقته بـ"وزارة الهجرة والمهجرين" العراقية. كان جزء من خطة الحكومة الحالية في العراق، لإغلاق ملف النزوح، بعد فشل الإغراء المادي الذي قدّمته، هو طرد النازحين من مخيمات النزوح - حالة مخيم السليمانية مثالٌ على ذلك - ومن ثَمّ الإعلان بأن النازحين عادوا طوعاً إلى مناطقهم، على الرغم من غياب الأمن والخدمات في هذه المناطق.
نظرياً، كان الناس سابقاً يثقون ببضعهم البعض على اعتبار وجود مشتركات، كالدين، أو اللغة، أو الجنسية، أو اللون، وعوامل أخرى تبعث في نفوسهم طمأنينة ما. ولكن يتبين أن هذه الصفات الإنسانية التي يتمسك بها البشر لإضفاء نوع من العدالة الحقة على حياتهم ليست واقعية، إذ أن التطرف يظهر اليوم بكل أشكاله الممكنة، بذريعة "الدفاع عن المقدّسات".
هذا الخوف من هجوم مُحتمل، يخلق إشكالية تتعلق بالانتماء إلى الوطن، ويدفع بمئات الآلاف إلى الهجرة خارج البلد، بطرق خطرة كالمشي في الغابات، على حدود البلدان في طريقهم إلى أوروبا، أو اللجوء لقوارب صغيرة لعبور بحر إيجه إلى يونان، وثم إلى ألمانيا أو هولندا...
التاريخ العراقي المدمّى، منذ تأسيس الجمهورية بدم الملك فيصل الأول، وصولاً إلى الانقلابات العسكرية والاحتلال الأمريكي، الذي لوّن الديمقراطية بدم العراقيين وسواد نفطهم الذي يستخرج من أرضهم كلعنةٍ أبدية، لا يدل سوى على حاضر ومستقبلٍ دمويين مثله!
كل التطمينات الإعلامية، وأدبيات السلطة، والوعود التي تُطلق قبيل الانتخابات، عن احترام مجتمع متعدد، يتقبل جزءه الآخر، لم تفلح في توسيع رقعة التعايش السلمي، ولا في خفض التطرف الديني.
"شنكَال"؟
23-12-2024
الصابئة.. ديانة الماء المتهمة بالكفرِ والنجاسة!
16-12-2021
وكما لم يعد النازح الإيزيدي يثق بالآخر داخل حدود البلد، فقد خسر ثقته بالوزارة المعنية: "وزارة الهجرة والمهجرين" العراقية. كان جزء من خطة الحكومة الحالية في العراق لإغلاق ملف النزوح بعد فشل الإغراء المادي الذي قدمته، وهو عبارة عما يقارب ثلاثة آلاف دولار أمريكي، هو طرد النازحين من مخيمات النزوح - حالة مخيم في السليمانية مثالٌ على ذلك - ومن ثَمّ الإعلان بأن النازحين عادوا طوعاً إلى مناطقهم، على الرغم من غياب الأمن العام والخدمات في هذه المناطق.
الحدود السورية وسنجار
تقع سنجار إلى الغرب من محافظة نينوى، على الحدود العراقية-السورية. إن الوضع الحالي في سوريا، والخشية من تكرار سيناريو العام 2014، يبعثان الخوف في قلوب الكثير من العائدين إلى "سنجار". يقولون أنهم لا يعرفون متى يهربون مرة أخرى من بيوتهم، بعد تَحكّم رجلٍ له تاريخ قيادي في تنظيم "داعش" بدولةٍ على الحدود.
إذاً، لماذا لا يعود النازح الإيزيدي إلى بيته؟ ولماذا لا ينتقل إلى بيتٍ في إحدى المناطق الكردية؟ ببساطة الناجي من فرماناتٍ كثيرة، بلغ مرحلة العيش لتجنب الموت. ولا شيء غيره!
رشوة أم دافع للعودة؟
في وقت سابق، شجعت الحكومة العراقية النازحين على العودة إلى مدنهم الأصلية بتقديمها منحة مالية تبلغ مليونين ونصف مليون دينار عراقي، ثم رفعت هذا المبلغ إلى أربعة ملايين دينار عراقي، بالإضافة إلى بعض المساعدات الأساسية. المدهش في الأمر، الذي لا يثير الدهشة حقاً، هو تصريح قائمقام "سنجار" بالوكالة، نايف سيدو، أن معظم النازحين السنجاريين العائدين إلى مناطقهم لم يستلموا هذا المبلغ بعد عودتهم[4]!