قانون المسؤولية الطبية: تغلغل الفكر العقابي

يتجه المشرِّع إلى فرض عقوبات مشددة من دون النظر إلى طبيعة المهنة، ومن دون الرجوع إلى أهلها. فهناك أخطاء واردة، تحدث لأسباب خارجة عن إرادة الطبيب، وهناك أخطاء جسيمة. ولكن المشرِّع لم يراعِ تلك الفروق، وأصر على أن تكون جميعها جنائية. أما رد الفعل العكسي، الذي قد يتخذه الأطباء، فهو التوقف عن اتخاذ تدابير طبية ترتبط بوضع الحالة وطبيعتها، وذلك لحماية أنفسهم، بدلاً من اعتبار مصلحة المرضى. وهو ما يهدد المنظومة الطبية بأكملها.
2025-01-13

إيمان عوف

صحافية من مصر


شارك
دار الحكمة، نقابة الأطباء في مصر

تعكس العقلية التي تمت بها مناقشة مشروع "قانون المسؤولية الطبية" مدى تغلغل الفكر العقابي في التشريع، على حساب الفكر الحقوقي. ففي الوقت الذي يتخلص فيه العالم من العقوبات السالبة للحرية إلا في جرائم محددة ومحدودة، تتوسع لدينا ـ بدون مبرر ـ دائرة هذه العقوبة، حتى صارت كأنها هي الهدف المقصود.

وعلى الرغم من أهمية قانون مثل "قانون المسؤولية الطبية" في مصر، التي تعتبر من الدول القليلة التي لا يوجد فيها قانون لتنظيم العلاقة بين الطبيب والمريض، فلا توجد أية دولة تحبس أصحاب المهن الطبية بسبب أخطاء واردة، غير متعمدة، وهي من طبيعة ممارسة هذه المهنة، خاصة في مراحل التعلم واكتساب الخبرات، وإلاَّ لاندثرت العديد من المهن وارتعشت أيدي أصحابها.

تشير الإحصائيات غير الرسمية إلى أن عدد حالات الأخطاء الطبية في مصر، يُقدر سنوياً بحوالي 180 ألف حالة، ويُقدَّر أن حوالي 20 طبيباً يُشطبون من نقابة الأطباء سنوياً بسبب هذه الأخطاء. ولكن وبسبب نقص البيانات الرسمية، فمن الصعب تحديد العدد الدقيق للأخطاء الطبية في مصر. وعلى ذلك، تُظْهر هذه الإحصائيات الحاجة الملحة إلى تحسين جودة الرعاية الصحية، وتعزيز التدريب الطبي لضمان سلامة المرضى.

بدأ الحديث عن ضرورة وجود قانون ينظِّم العلاقة بين مقدمي الخدمات الطبية والمرضى أواخر التسعينيات من القرن الفائت. فمع تزايد حالات الإهمال الطبي في مصر، وزيادة الشكاوى المقدّمة ضد الأطباء، ظهرت الدعوات الأولى إلى وضع إطار قانوني ينظِّم العلاقة بين الطبيب والمريض ويحمي حقوقهما. في أوائل العقد الأول من الألفية الجديدة، بدأت نقابة الأطباء المصرية، وعدد من أعضاء البرلمان بالحديث عن ضرورة وجود قانون المسؤولية الطبية، خاصة مع تزايد القضايا، التي كانت تُرفع ضد الأطباء.

إصلاح شامل أم الاكتفاء بمنطق العقوبة؟

بعد "ثورة 25 يناير 2011"، زادت الدعوات إلى إصلاح شامل في المنظومة الصحية، وظهر قانون المسؤولية الطبية كأحد المطالب الرئيسية لتحسين العلاقة بين الأطباء والمرضى وتقليل النزاعات القانونية. وفي عام 2017، طرحت نقابة الأطباء مشروعاً متكاملاً لقانون المسؤولية الطبية، وقدمت مقترحاً إلى مجلس النواب. أكدت النقابة وقتها أهمية القانون لحماية الأطباء من الشكاوى الكيدية وتقليل الملاحقة الجنائية المباشِرة بسبب الأخطاء الطبية، مع ضمان حق المرضى في الحصول على تعويضات عادلة.

بعد جائحة "كوفيد-19"، زادت أهمية القانون بشكل كبير، حيث واجه الأطباء ضغوطاً كبيرة، وظهرت قضايا تتعلق بالتعامل مع الجائحة. وفي 2021 و2022، عادت النقاشات حول القانون بقوة في البرلمان ووسائل الإعلام، وسط مطالبات بإنشاء لجنة متخصصة لتقييم الأخطاء الطبية، وفصلها عن الجرائم الجنائية. ثم أتى تحرك الحكومة المصرية الأخير بصياغة قانون وتقديمه إلى مجلس الوزراء من أجل تمريره من البرلمان. لكن القانون لم يحظ بحوار مجتمعي حقيقي، كما أنه تجاهل رؤية نقابة الأطباء. هذا ما أكده الدكتور "إبراهيم الزيات"، عضو مجلس نقابة الأطباء، الذي تقدم باستقالته اعتراضاً على تأجيل الجمعية العمومية للنقابة، واعتبر ذلك تراجعاً أمام قانون خطير يعصف بمهنة الطب، وقد يتسبب في غياب علاج حقيقي للمرضى خشية الملاحقة والحبس.

يقول "الزيات" إن الأطباء بشكل جماعي وفردي، يطالبون بقانون المسؤولية الطبية منذ سنوات عديدة. لكن الحكومة قامت بتقديم مشروع قانون لا يُفرِّق بشكل دقيق بين الخطأ الطبي، الذي قد يحدث نتيجة مضاعفات متوقعة أو قرارات طبية معقدة، والإهمال الجسيم أو التقصير. وهو ما قد يؤدي إلى مساءلة الأطباء قانونياً عن نتائج خارجة عن إرادتهم، مثل فشل العلاج بسبب الحالة الصحية المتقدمة للمريض أو نقص الموارد الطبية. ومن ضمن العيوب الأخرى في القانون غياب هيئة متخصصة لفحص الشكاوى، وبالتالي احتمالية ظلم الأطباء، حيث يمكن بمنتهى السهولة إحالة الشكاوى مباشرة إلى القضاء، من دون تقييم طبي دقيق، مما يفتح الباب للشكاوى الكيدية ويضع الأطباء تحت ضغط مستمر.

زادت بعد "ثورة 25 يناير 2011"، الدعوات لإصلاح شامل في المنظومة الصحية، وظهر "قانون المسؤولية الطبية" كأحد المطالب الرئيسية لتحسين العلاقة بين الأطباء والمرضى وتقليل النزاعات القانونية. وفي عام 2017، طرحت نقابة الأطباء مشروعاً متكاملاً لقانون المسؤولية الطبية، وقدمت مقترحاً إلى مجلس النواب.

أشار "الزيات" إلى ضرورة أن يتضمن القانون نصاً واضحاً يلزم المؤسسات الطبية، بتوفير تأمين إجباري ضد الأخطاء الطبية، لأن التأمين يضمن تعويض المرضى بشكل عادل، وفي الوقت نفسه يحمي الأطباء من تحمل أعباء مالية أو قانونية قد تؤثر على عملهم.

لفت "الزيات" إلى أن فلسفة القانون نفسها تحوي اعوجاجاً، حيث تسيطر فلسفة تحويل الأمر من تنظيم العلاقة بين المرضى والأطباء، إلى عقاب للأطباء من دون الاهتمام بالحقوق، وكأن الهدف هو العقاب وليس الحقوق. حيث أقر مشروع القانون التعامل مع الأخطاء الطبية كجرائم جنائية، بشكل مباشر، من دون النظر إلى طبيعتها، على الرغم من إمكانية معالجة الأمر من خلال المساءلة المهنية أو المدنية بدلاً من العقوبات الجنائية، ومع قصر العقوبات الجنائية على حالات الإهمال الجسيم أو المتعمد.

وعن أسباب تقديم استقالته من عضوية مجلس نقابة الأطباء، قال "الزيات" إنه كان من المقرر عقد جمعية عمومية طارئة في 3 كانون الثاني/ يناير 2025، لمناقشة مشروع قانون المسؤولية الطبية، إلا أن المجلس قرر تأجيلها لمدة شهر. واتهم "الزيات" وبعض الأعضاء المستقيلين، وعددهم أربعة آخرون، نقيب الأطباء بالانفراد بالقرارات داخل النقابة، مما أدى إلى تهميش آراء بقية الأعضاء، وعدم مراعاة مصالح الأطباء بشكل جماعي.

تطالب نقابة الأطباء باعتبار "اللجنة العليا للمسؤولية الطبية" الجهة الوحيدة لتقديم الخبرة الفنية لجهات التحقيق، وألاّ يتم تحريك الدعوى الجنائية إلا بعد صدور تقريرها. كما قبلت النقابة بالغرامة والحبس في حالات الخطأ الطبي الجسيم، لكنها رفضت الغرامات الكبيرة للأخطاء البسيطة، مطالِبة بحذفها واستبدالها بتعويضات مدنية فقط.

شهد اجتماع مجلس نقابة الأطباء، الذي تقرر فيه تأجيل الجمعية العمومية، خلافات حادة بين الأعضاء حول كيفية التعامل مع مشروع القانون. "الزيات" وآخرون رأوا أن التأجيل يُفقِد الثقة في المجلس الحالي، ويعكس عدم القدرة على التصدي للتحديات التي تواجه العمل الطبي. واعتبر المستقيلون أن ما نُشر وتردد عن الاستجابة لمطالب نقابة الأطباء في قانون المسؤولية الطبية، كان هدفه الأول والأخير إفساد اجتماع الجمعية العمومية للنقابة.

وتتفق مع هذا الرأي الدكتورة "نفيسة علم الدين"، أخصائي الجراحة العامة، مشيرة إلى أن أزمة "قانون المسؤولية الطبية" هي نفسها أزمة أغلب القوانين التي تهدف إلى تنظيم المهن المختلفة، حيث يتجه المشرع إلى فرض عقوبات مشددة من دون النظر إلى طبيعة المهنة ومن دون الرجوع إلى أهلها. إذ إنه علمياً وعملياً ومحلياً ودولياً، هناك أخطاء واردة تحدث لأسباب خارجة عن إرادة الطبيب، وهناك أخطاء جسيمة. ولكن المشروع لم يراعِ تلك الفروق وأصر على أن تكون جميعها جنائية.

وأشارت "علم الدين" إلى أن رد الفعل العكسي الذي قد يتخذه الأطباء هو التوقف عن اتخاذ تدابير طبية، ترتبط بوضع الحالة وطبيعتها، وذلك لحماية الطبيب نفسه بدلاً من مصلحة المرضى، وهو ما يهدد المنظومة الطبية بأكملها. كما أن مشروع القانون لا يأخذ في الاعتبار الظروف الصعبة، التي يعمل فيها الأطباء، مثل نقص الإمكانيات الطبية أو المعدات في المستشفيات العامة.

لماذا تأجيل الجمعية العمومية للأطباء

بعد تأجيل الجمعية العمومية لنقابة الأطباء من قبل نقيب الأطباء الدكتور "أسامة عبد الحي"، كتب النقيب عبر صفحته الشخصية على "فيسبوك" إن قرار تأجيل الجمعية العمومية هو أصعب قرار اتخذه في حياته، لكن سببه الأول والأخير هو الخوف على سلامة الأطباء وأمانهم.

تقدمت الحكومة بمشروع قانون لا يُفرِّق بشكل دقيق بين الخطأ الطبي، الذي قد يحدث نتيجة مضاعفات متوقعة، أو قرارات طبية معقدة، والإهمال الجسيم أو التقصير. وهو ما قد يؤدي إلى مساءلة الأطباء قانونياً عن نتائج خارجة عن إرادتهم، مثل فشل العلاج بسبب الحالة الصحية المتقدمة للمريض أو نقص الموارد الطبية.

من ضمن العيوب الأخرى في القانون غياب هيئة متخصصة لفحص الشكاوى، وبالتالي احتمالية ظلم الأطباء، حيث يمكن بمنتهى السهولة إحالة الشكاوى مباشرة إلى القضاء، من دون تقييم طبي دقيق، مما يفتح الباب للشكاوى الكيدية ويضع الأطباء تحت ضغط مستمر.

وترددت أقاويل من مقربين من نقيب الأطباء أن ثمة تهديدات أمنية، تعرض لها النقيب بسبب حالة القلق من عقد تجمعات بالقرب من ميدان التحرير في شهر كانون الثاني/ يناير، وإمكانية اندلاع مظاهرات في المكان، في ذكرى "ثورة يناير".

بينما يقول النقيب إن مشروع القانون أثار حفيظة الأطباء، ودعاهم إلى التعبير القانوني عن غضبهم، من خلال عقد جمعية عمومية، تتخذ إجراءات للإعلان عن رفض القانون.

وعن أسباب إرجاء الجمعية العمومية، قال إن "لجنة الصحة" في مجلس النواب استجابت لبعض طلبات الأطباء، مثل حذف عقوبة الحبس عن الأخطاء الطبية العادية، مع الإبقاء عليها في حالة الأخطاء الجسيمة. كما تمت الموافقة على أن تكون "اللجنة العليا الطبية الفنية" هي الخبير الفني، في تحديد مسؤولية الأطباء، وبالتالي تصبح اللجنة جزءاً من مراحل التحقيق، مع إلغاء الحبس الاحتياطي، وعقوبة الحبس في الأخطاء الطبية، التي قد تحدث من طبيب متخصص في مجال تخصصه. وأكد الخبراء أن الخطأ الطبي المشتبه في كونه جسيماً يقتضي عقوبة حبس وغرامة، بينما الخطأ وارد الحدوث، يجب أن تكون عقوبته مادية، ولا تشمل السجن.

إضافة إلى ذلك، تمّ التأكيد أن التعويض المادي للمريض سيشمل تعويضاً لجبر الضرر، ويُفترض أن تكون الغرامة موجهة إلى صالح صندوق يدفع التعويضات. على الرغم من ذلك - والحديث لنقيب الأطباء - فإنه لا تزال هناك اعتراضات من بعض الأطباء على التأجيل، حيث يعتقد البعض أنه كان من الضروري تحديد الموقف النهائي، في الجمعية العمومية الطارئة.

وعن ما تردد حول تعرضه لتهديدات أمنية، قال النقيب "عبد الحي"، إن أمان الأطباء الشخصي أهم من أي اعتبار آخر، وإن القرار جاء بعد شواهد على استجابة الجهات المعنية لمطالب الأطباء. وأضاف أن الأطباء كانوا يهدفون إلى الدفاع عن مهنتهم في ظل تهديدات قانونية، وأنه اتخذ القرار الصعب لحماية حياتهم. وأكد أن التعديلات التي تم إقرارها على مشروع القانون تُعتبر إيجابية، مع استمرار المطالبة بإلغاء الغرامة عن الأخطاء الطبية البسيطة، وعدم تحريك الدعوى الجنائية إلا بعد تقرير اللجنة العليا للمسؤولية الطبية. كما أكد أن النقابة تطالب باعتبار اللجنة العليا للمسؤولية الطبية الجهة الوحيدة لتقديم الخبرة الفنية لجهات التحقيق، وألا يتم تحريك الدعوى الجنائية إلا بعد صدور تقريرها.

أما فيما يتعلق بالحبس والغرامة، فقد قبلت النقابة بالغرامة والحبس في حالات الخطأ الطبي الجسيم، لكنها رفضت الغرامات الكبيرة للأخطاء البسيطة، مطالبة بحذفها واستبدالها بتعويضات مدنية فقط، مشيرة إلى أن الغرامات الحالية تثقل الأطباء.

جدير بالذكر أن عدداً من كبار الأطباء، أعلنوا عن توقفهم عن ممارسة المهنة، اعتراضاً على قانون المسؤولية الطبية. وذلك عبر صفحاتهم على "الفيسبوك"، وكان من بينهم الدكتور "الحسيني جميل"، أستاذ جراحة القلب والصدر ورئيس "الجمعية المصرية لجراحة القلب والصدر"، مكتفياً بدوره الأكاديمي في التدريس بالجامعة. وجاء هذا القرار اعتراضاً على بيئة العمل التي وصفها بغير الآمنة.

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...