عامٌ ليسَ لنا، أم عالمٌ ليس لنا؟

تَحدّث الناس وقالوا كلماتهم، الكُل يتمنّى أن يعود إلى مدينة "غزّة" أو شمالها، أن يعودوا إلى بيوتهم ولو كانت فوق الرُكام. كلماتٌ كثيرة قُلناها جميعاً، كل يوم نتحدّث بها، إلى درجة تخيّلت فيها أنّ الناس نسيت الحرب، ولم تعُد تتمنّى نهايتها، بقدر حاجتها إلى نهاية مأساة النزوح الكارثيّة، التي فكّكت المجتمع، وقتلت أرواح الناس وهم أحياء.
2025-01-02

المقداد جميل مقداد

كاتب وباحث من غزة


شارك
"غزة في زحام رأس السنة" من موقع "شبابيك" shababeek

"نفسي أرجع ع غزّة".

"نفسي أرجع ع البيت".

"نفسي أرجع ع بيتي ولو رُكام، أحط خيمتي وأقعد فوقه"..

ثلاث كلمات، موحّدة، واضحة، لا جدال فيها. سمعتها خلال جولة داخل أحد مُخيمات النازحين، في مدينة "دير البلح"، في إطار العمل. تحدّثت مع أطفال في المخيم، وأطفال في الخيم التعليميّة، حيث تحوّلت الدراسة إلى خيمٍ بدلاً من صفوف المدارس، مع نساء ورجال وشبّان وفتيات، بسؤالٍ واحد: ما هي أمنيتك في السنة الجديدة؟

أعرف الكلمة، أعرف الجواب. أسأل وأنا أُدرك وأسمع في أّذني إجاباتهم قبل أن يقولوها، لكنّني أُصرّ على أن أسمعَ من جديد، علّني كُنتُ أوهم نفسي بهذه الإجابات في داخلي، علّها كانت إجاباتُ اللاوعي، في عقلي، أو رُبما في قلبي الذي صار قتيلًا في هذا العام.

مقالات ذات صلة

تحدّث الناس وقالوا كلماتهم، الكُل يتمنّى أن يعود إلى مدينة "غزّة" أو شمالها، أن يعودوا إلى بيوتهم ولو كانت فوق الرُكام. كلماتٌ كثيرة قُلناها جميعاً، كل يوم نتحدّث بها، إلى درجة تخيّلت فيها أنّ الناس نسيت الحرب، ولم تعُد تتمنّى نهايتها، بقدر حاجتها إلى نهاية مأساة النزوح الكارثيّة، التي فكّكت المجتمع، وقتلت أرواح الناس وهم أحياء. تذكرتُ نفسي، وأنا أقول: "نروح ع غزّة وتكمل الحرب". نتمنّى لو تكتمل الحرب هُناك، نموت في بيوتنا، بين أهلنا.

***

رأسُ السنة الميلاديّة، حدثُ مُميز، نهاية لشيءٍ وبداية لآخر. قد تبدو الأيام أحياناً عاديّة، لا اختلاف بين وقتٍ وآخر، ولا يومٍ وغيره، إلّا أن الناس كُلها تستشعرُ النهاية في أواخر كانون الأول/ ديسمبر من كلّ عام، تتهيأ لهذه النهايات، متمنيةً أن يأتي الجديد بجديد. شوارعُ "غزّة" تمتلئُ بشعورٍ مُختلف، تظهرُ فيه هذه النهاية عادةً. 

مفترقاتٌ رئيسية تتزيّن، مفترق "أبو طلال" أو "العائلات"، مُفترق "ضبيط"، مُفترق "الجامعات"، مُفترق "السرايا"، مُفترق "الصناعة". بعضُ المحلات تتحلّى بأثواب "سانتا كلوز". البهجة تملأُ وجوهَ الناس الخارجين من محل "سفير الحُب"، أشهر محلات بيع الورود في المدينة، وبالتأكيد أغلاها، لكنّهُ أجودها. الناس تتكّدسُ عند بائعي "الفلافل"، و"الحُمص"، والـ"هامبرغر" و"المُعجنات". عائلات تخرجُ من محلات بيع الشوكولاتة والحلويات، وعشرات السيارات تصطفُ أمام "مدينة اللحوم"، أحد أشهر محلات التسوّق في السنوات الأخيرة في "القطاع".

مقالات ذات صلة

بهجة لا تعرفها إلّا "غزّة"، بهجة لا يعرفها العالم، فهو "أبو البهجات الكبيرة". إنها بهجة صغيرة جداً "ع قدّ الحال"، كما يرى الفلسطينيّون في هذه المدينة حياتهم. "ع قدّ الحال"، بسيطة، سريعة، عادية جداً. سلسلة من الألم المغمّس بالأفراح الصغيرة والانتصارات الحياتية اليوميّة، بعروض البضائع الرخيصة والإعلان عن صرف رواتب الموظفين، وصرف الدُفعات المالية للجرحى، أو الإعلان عن توزيع المواد الغذائية على الأسر الفقيرة.

بهجة، ليست إلّا لعالم "غزة"، لا يعرفها العالم الآخر. بهجة "ع قد الحال"، يأخذُ فيها الناس أطفالهم إلى "كابيتال مول"، أشهر مركز تسوّق في "القطاع"، لا يشبه أبداً، بحجمه الصغير وملامحه البسيطة، مراكز التسوّق العالمية في إسطنبول ونيويورك والقاهرة ودبي. إنهُ يُشبهها في أنظار أهل "غزّة"، لكنهُ أبسط من تلك التي يرونها في أفلام "هوليوود" وأفلام "السُبكي" المصريّة. لكنهُ أيضاً "ع قدّ الحال". يأخذُ الناس أطفالهم إليه، يأخذون صورةً أمام مجسّمٍ كبير لعنوان العام الجديد، آخرها كانَ عام 2023، أو أمام مجسماتٍ لموزّع الهدايا، الذي لم يعرفوهُ أبدًا سوى في أفلام "ماشا والدب"، وباقي مسلسلات "سبيستون".

سانتا كلوز مع من تبقى من اطفال غزة

بهجة جميلة، تختلطُ بهموم الناس في "غزّة"، وهي أيضاً هموم "ع قد الحال"، هموم عاديّة، لا يعرفها عالم "البزنس" في "وول ستريت" ولا المحتفلون بألعابهم الناريّة قُرب "برج خليفة"، ولا في سويسرا وفرنسا. هموم بسيطة، كأن يرى أحدُهم الاحتفال بالـ"كريسمس" ورأس السنة، خللاً في نمط الحياة المُحافِظة للمدينة، فيكتُب منشوراً يُعبّر فيه عن غضبه من هذه المشاهد "الخادشة". في الخلفية تستمرُ الحياة، عاديةً طبيعيّة، يرى الناس المنشور، يُعلّق من يُعلق، يمرُ أحدهم بجدال، ثم يحتفلُ آخرون ببداية السنة، كأنّ الهموم تمضي مع اليوم.

بهجة تمضي بسرعة، مع انتهاء الألعاب الناريّة وإطلاق النار لمجموعة من المُحتفِلين في شوارع المدينة، في "الجندي المجهول" وشوارع "حيّ الرمال"، الحي "الأرقى" (بمفهومهم) والأكثر جذباً للناس إلى أسواقه ومحلاته. تنتهي بسرعة، بعد أن تُعلن الثانية عشر منتصف الليل، مع بدء العام الجديد، تنتهي ويمضي الناس إلى إجازاتهم، وآخرون إلى أعمالهم في الصباح التالي.

بهجة لا تعرفها إلّا "غزّة"، بهجة لا يعرفها العالم، فهو "أبو البهجات الكبيرة". إنها بهجة صغيرة جداً "ع قدّ الحال"، كما يرى الفلسطينيّون في هذه المدينة حياتهم. "ع قدّ الحال"، بسيطة، سريعة، عادية جداً. سلسلة من الألم المغمّس بالأفراح الصغيرة والانتصارات الحياتية اليوميّة، بعروض البضائع الرخيصة والإعلان عن صرف رواتب الموظفين، وصرف الدُفعات المالية للجرحى، أو الإعلان عن توزيع المواد الغذائية على الأسر الفقيرة.

إنها البهجة التي لا تخدشُ شكلَ العالم ولا نمطَ حياته. البهجة التي يظنُ بعضُ أهل المدينة أنها ليست واجبة، فينامون مُبكراً، كأنّ لا شيءَ يحدُث في هذا المكان. "غزّة" هي سيّدة البهجات الصغيرة، كانت ولا تزال، لكنها بهجاتٌ استكثرها العالم على أهلها، فسلبها منُهم أيضاً.

سانتا كلوز يطل على غزة المدمرة

***

عامٌ آخر، يبدأ في قلب الحرب، في ظروفها، في حياة الخيم والنزوح، لكنُه يمرُّ الآن أكثر وطأةً، وأكثر صعوبةً. نازحون بمئات الآلاف من مدينة "رفح"، المدينة رُكامٌ وحُطام، نازحون غيرهم من "جباليا"، و"بيت لاهيا"، و"بيت حانون"، من أرجاء "شمال القطاع" نحو المدينة (شمال الوادي المُحاصَر)، نازحون مكدّسون في مكانيْن أو ثلاثة، جيوب صغيرة في كماشة الموت والقتل والتجويع. يحلُّ البرد عليهُم زيادةً في معاناتهم.

عامٌ مضى، نزحنا فيه النزوح الثاني والثالث والرابع، جرّبنا مرارة الخيمة، أولاً بالهرب المفاجئ إليها تحت القصف والقذائف والمُعاناة، ثم بصيفها وحرّه الشديد، الذي لا يُحتمل على الرغم من "الإجراءات" أو محاولة التدبّر، وشتائها الغارق بالماء وبقايا الصرف الصحي والأمراض والأوبئة، وقُمامتها الممتلئة في الشوارع، في زحمة سياراتها وعرباتها ومواصلاتها السيئة، ومشيها الطويل المُتعِب في شوارع صعبة ومدمّرة، بين سيارات الإسعاف وأصوات القصف.

إنها البهجة التي لا تخدشُ شكلَ العالم ولا نمطَ حياته. البهجة التي يظنُ بعضُ أهل المدينة أنها ليست واجبة، فينامون مُبكراً، كأنّ لا شيءَ يحدُث في هذا المكان. "غزّة" هي سيّدة البهجات الصغيرة، كانت ولا تزال، لكنها بهجاتٌ استكثرها العالم على أهلها، فسلبها منُهم أيضاً.

ضياعٌ آخر، ضياعٌ مُستمر مُمتد، نفتحُ فيه رزنامة الأيام ولا ندري كيف يُمكن أن تُكتب 2025، في التاريخ بكلّ بساطة، كيف مرّ الوقت، بينما كان ينظرُ العالم إلى إبادتنا بسلاسة، كأنّها حدثٌ عادي جارٍ، حدثٌ طبيعي. شعورٌ قاتل بالضياع.

بعد أن أدركنا أنّ الحياة على هذه الأرض ليست لنا، أو كما قال "غسّان كنفاني": "عالمٌ ليسَ لنا". آن لنا أن نُدرك، أنّ الزمن أيضاً ليس زمننا، إنهُ زمن المُحتفلين وزمن السُعداء بمدنهم الكبيرة الجميلة التي لا تعرفُ شكلَ الحرب، ولا شكلَ العدوان، إنهُ بشكلٍ أدقّ: عامٌ ليسَ لنا، وهو مثل كُلّ الأعوام التي ستتبعُ هذا العام، أعوامٌ ستعيشها "غزّة" في وطأة أثار الحرب المُدمّرة، بين الرُكام والذكريات، عامٌ ليسَ لنا. ليسَ لأهل "غزّة"!

مقالات من فلسطين

"أفلامنا": "فعل مقاومة ضروري"

2025-01-02

سنة جديدة، همومٌ قديمة، نضالٌ لا ينتهي، وواجبٌ دائم للاستمرار، على عكس رغبة الوحش. نهدي أنفسنا وقراءنا هذه الأفلام، ونضمّ صوتنا إلى "أفلامنا" في تقديمهم لبرنامج "فعل مقاومة ضروري": "نأمل...

ميلادٌ آخر بلا عيدٍ

2024-12-26

وجّه الأب "منذر إسحق" رسالة الميلاد من بيت لحم إلى العالم، قائلاً: "احتفالات الميلاد ملغاة. لا وجود لشجرة ميلاد، للأضواء، للاحتفالات في الشارع... من الصعب تصديق أننا نعيش ميلاداً آخر...

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...

للكاتب نفسه

رحلة البحث عن رغيف

كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى...

الزيتون يا أبي

يتعلّق قلب أبي بأرضه، وهذا ما جعلني الآن أُدرك كيفَ تعلقَ أجدادنا بأرضهم، ويجعلني أُدركُ كيف يتعلق أولئك الذين نزحوا أو هاجروا ببلادهم، ثم يقررون بعد عشرات السنين العودةَ إليها....

إعادة تكوين العقل الغزّي

أجيالٌ بأكملها تفقدُ حياتها وسنواتها. وأطفالٌ صغار يستيقظون على واقعٍ غير بشري. هذا هو كيّ الوعي الجديد الذي تقوم به إسرائيل، ويوافق عليه العرب. العرب الذين يُريد "نتنياهو" مُساعدتهم في...