يكافح عشرات الآلاف من الفلسطينيين في مصر، كي لا يضيع عليهم عامٌ دراسيٌّ ثانٍ، تحت وطأة الإبادة المستمرة، التي ترتكبها إسرائيل في حقهم. إذ ضاع العام الدراسي الماضي (تشرين الأول/ أكتوبر 2023 – حزيران/ يونيو 2024) مع سياسة إغلاق معبر "رفح"، وفتحه بشكل محدود للغاية، وبتحكمات وتقييدات كثيرة، بحيث لم تنجح سوى قلة قليلة من الراغبين في السفر في الخروج من جحيم الإبادة، وفرن الموت "الهولوكوستي" الكبير، "قطاع غزة".
وبعد أن ارتفعت الآمال مع تداول وسائل الإعلام إعلان شيخ "الأزهر" في كانون الأول/ ديسمبر 2023 عن إعفاء الطلبة الفلسطينيين من مصاريف الدراسة، إلا أنها سرعان ما تهاوت مع وفود عدد من طلبة "غزة" إلى جامعات الأزهر، وتقديم أكثر من ألف طالب نازح على هذا الإعفاء الخاص، وعدم تمكن أغلبهم من الحصول عليه، إذ يبدو أن هذا الإعلان ينطبق على الطلبة الدارِسين، والمسجلين من قبل الحرب، وكذا الطلبة الذين كانوا يدرسون في فروع "المعاهد الأزهرية" في "غزة"، ويبلغ عدد كل هؤلاء (444) طالباً وطالبة فقط.
معبر مُقفل وتعليم غير مفتوح
واقع الأمر أن الفصل الدراسي الأول من العام الفائت قد ضاع على أغلبية الطلبة النازحين من الحرب من غزة إلى مصر، إذ أن معبر "رفح" ظل مغلقاً بشكل كامل منذ "السابع من أكتوبر"، وحتى الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. وبعدها شهد أولوية في عبور حمَلة الجنسيات الأجنبية إلى مصر... مع سياسة التنقيط أو التقطير في السماح بعبور متوسط 20 فرداً فقط في اليوم، بينما تتم إتاحة فرص أكبر لمن يدفعون آلاف الدولارات تحت مسمى "التنسيق"، عبر شركة "هلا سيناء" التي يملكها رجل الأعمال "إبراهيم العرجاني".
____________
ملف خاص
إلى غزة وأهلها
____________
وتشكل النساء والأطفال الغالبية العظمى، من حوالي 100 ألف ممن دخلوا إلى مصر من قطاع غزة من الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 وحتى 7 أيار/ مايو 2024، تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لمعبر "رفح"، وإغلاقه بشكل كامل لأكثر من 7 أشهر حتى الآن. ويبدو أن للمعايير الإسرائيلية في تحديد من يدخل أو يخرج من غزة سطوتها، حتى قبل الاحتلال الكامل للمعبر. ونتيجة لذلك، فإن نسبة الطلاب من النازحين إلى "مصر" كبيرة، ممن كانوا مسجّلين في المدارس والجامعات.
وتزايد تطلع كثير من الطلبة، ممن حالفهم الحظ في العبور إلى "مصر"، إلى استئناف تعليمهم، من خلال عودتهم إلى موطنهم بعد نهاية سريعة للحرب، وهو ما خالف توقعاتهم، كما خالف توقعات كثيرين، باستمرار حرب الإبادة أكثر من عام. وبالتالي، تزايدت محاولات النازحين لوقف نزيف الوقت الضائع، عن طريق التقديم للالتحاق بالعام الدراسي الجديد (2024-2025).
أعلن شيخ "الأزهر" في كانون الأول/ ديسمبر 2023 عن إعفاء الطلبة الفلسطينيين من مصاريف الدراسة. وقد تقدم أكثر من ألف طالب نازح على هذا الإعفاء الخاص، لكن أغلبهم لم يتمكن من الحصول عليه، إذ أنه ينطبق على الطلبة الدارِسين والمسجلين من قَبل الحرب، وكذا الطلبة الذين كانوا يدرسون في فروع "المعاهد الأزهرية" في "غزة". ويبلغ عدد هؤلاء (444) طالباً وطالبة فقط.
تمكَّن " يحيى" (اسم مستعار)، وهو شاب يبلغ من العمر 19 عاماً - بعد محاولات أهله المستميتة في إخراجه من غزة - من العبور إلى مصر بعدما دفع قرابة 5 آلاف دولار أمريكي "تنسيق" لشركة "هلا سيناء". بعد أن باعت أمه ذهبها، واستدان أبوه لاستكمال مبلغ "عتق الرقبة". وبعد عبوره إلى "مصر"، بالملابس التي عليه فقط، قامت إحدى الجمعيات الخيرية بتسليمه مبلغاً ماليّاً مُكوّناً من ألفي جنيه مصري (قرابة 40 دولاراً أمريكيّاً فقط). وبعد محاولات عدة، لاستئناف دراسته الجامعية "هندسة الحاسبات"، فوجئ أن المطلوب في العام الدراسي من الطالب الواحد أكثر من 7500 دولار (قرابة 400 ألف جنيه مصري) للدراسة في أية جامعة من الجامعات الحكومية المصرية.
ومع تزايد المطالبات الشعبية بإعفاء طلبة غزة من المصاريف الدراسية في "مصر"، أبدت السلطات المصرية بعض الاستجابة، بالإعلان عن تخفيض خاص لطلبة "فلسطين" بواقع نصف قيمة المصروفات، وإلزامهم بدفع 4500 دولار أمريكي، من أصل 7500 دولار في المتوسط. إلا أن ذلك ظل يمثِّل تكاليف باهظة بالنسبة إلى من فقدوا منازلهم ومدخراتهم وتقريباً كل ممتلكاتهم ومصادر دخلهم من العمل. أدى ذلك إلى مضاعفة معاناة "مريم" (اسم مستعار)، وهي من الأوائل في التوجيهية - الثانوية العامة -–في "غزة"، وإصابتها بالاكتئاب السريري، بعد أن انسدت أمامها سبل استئناف التعليم في "مصر".
تعليم خاص بجدوى قليلة
ومع انسداد مسار التعليم الحكومي في "مصر" أمام النازحين من "غزة"، إلا من كان قادراً على دفع آلاف الدولارات لكل فصل دراسي، لجأ بعضهم إلى التعليم الخاص، من مدارس أو جامعات، مع حرصهم على عدم إضاعة عام دراسي كامل عليهم. وعلى الرغم من ارتفاع تكلفة الرسوم الدراسية الخاصة قياساً بتلك الحكومية على المصريين بشكل عام، إلا أن عدداً من مؤسسات التعليم الخاص تعتبر رسومها بالجنيه المصري أقل بكثير، مقارنة بالرسوم المفروضة بالدولار الأمريكي على الطلبة الوافدين من خارج "مصر" في التعليم الحكومي.
وبعد لجوء بعض الأمهات إلى إدخال طفل أو اثنين من أطفالهن، لاستئناف الدراسة في المدارس الخاصة، بحسب القدرة المادية، التي تعتمد في الأغلب على المبادرات المحلية المصرية المستقلة، وكذا بعض الدعم الدولي، حلت عليهم الصدمة أيضاً، مع انتهاء العام الدراسي في حزيران/ يونيو 2024، بعد نجاح الأطفال، ورفض المدارس إعطاءهم شهادات تثبت تخطيهم العام الدراسي، وتبرير ذلك، بأن حضورهم كان للاستماع فقط، ولا يمكن إدراجهم بشكل رسمي ضمن كشوفات المدرسة المدرجة بوزارة التربية والتعليم.
تشكل النساء والأطفال الغالبية العظمى، من حوالي 100 ألف ممن دخلوا إلى مصر من قطاع غزة من الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 وحتى 7 أيار/ مايو 2024، تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لمعبر "رفح"، وإغلاقه بشكل كامل لأكثر من 7 أشهر حتى الآن. ويبدو أن للمعايير الإسرائيلية في تحديد من يدخل أو يخرج من غزة سطوتها، حتى قبل الاحتلال الكامل للمعبر.
مع انتهاء العام الدراسي في حزيران/ يونيو 2024، بعد نجاح الأطفال، رفضت المدارس إعطاءهم شهادات تثبت تخطيهم العام الدراسي. وتبرير ذلك، بأن حضورهم كان للاستماع فقط، ولا يمكن إدراجهم بشكل رسمي ضمن كشوفات المدرسة المدرجة بوزارة التربية والتعليم.
وانطبق الحال أيضا على عددٍ من الجامعات الخاصة، إذ مع إصرار الطالبة "ريما" (اسم مستعار) على استكمال دراستها الجامعية في الصف الخامس من "كلية الطب"، وبعد وساطات عدة، وافق عميد إحدى الكليات الخاصة على حضورها، ومشاركتها، ولكن مع الاقتصار على الدروس العملية، وعدم تسجيلها بشكل رسمي، أو اجتيازها أية امتحانات، نظراً للتعليمات المشددة بمنع ذلك، بحسب ما قيل لها.
رب ضارة نافعة، أو نافعة ضارة؟
أدى هذا الوضع إلى ازدهار بعض المبادرات التعليمية المستقلة لسد الفجوة أمام أطفال "غزة" النازحين إلى مصر، فظهرت مبادرة "أحفاد الزيتون"، وهي مبادرة تعليمية من شباب مصريين، تقوم على تقديم برنامج شامل للأطفال، عبر تعليمهم في بيئة آمنة وتعزيز صحتهم العقلية وإعادة تأهيلهم بعد الصدمات التي تعرضوا لها خلال الحرب. وقد ازداد الطلب عليها، لتنشأ قوائم انتظار طويلة، على الرغم من تضاعف عدد المتطوعين، وتقسيم المناهج على أكثر من مدة زمنية. وهو ما يعكس تجلّي قوة المجتمع المدني المصري حتى في أضعف وأحلك الأزمنة، ويزيد من الحاجة إلى مثل هذه المبادرات.
المطلوب في العام الدراسي من الطالب الواحد غير المصري أكثر من 7500 دولار (قرابة 400 ألف جنيه مصري) للدراسة في أية جامعة من الجامعات الحكومية المصرية. وحين علت الأصوات مطالِبة باعفاء طلبة غزة، قامت السلطات بخفض المبلغ الى 4500 دولار، وهو ما بقي باهظاً عليهم.
في عدد من الجامعات الخاصة التي تتقاضى الرسوم بالجنية المصري، تبين أنه من غير المتاح للطلبة الغزيين التعليم إلا عن طريق نظام الاستماع، وهم لا يمنحون إفادات بما درسوه ولا شهادات.
كما أدى هذا الانسداد في وجه طلاب "غزة" في مصر، إلى مزيد من الاعتماد على استكمال دراسة المناهج الفلسطينية عن بعد، وهو ما أنشأ ضغطاً جديداً على الأهالي، الذين لم يتمكن أغلبهم في "غزة" من ملاءمة ظروفهم مع التعليم "أونلاين" في وقت "كورونا"، نظراً لعدم توافر الحواسيب والاتصال القوي بالإنترنت لدى العديد من الأسر، إذ أقرت دراسات آنذاك أن ثلث المواطنين فقط يمتلكون جهاز حاسوب، فيما 25 في المئة من الأسر لا تملك مهارات أساسية في استخدام تكنولوجيا المعلومات. فما بالك بوضعهم بعد شبه النجاة الجسدية من الإبادة الجماعية، وخسارة أغلبهم لكل ممتلكاتهم، ومدنهم، وشكل حياتهم السابقة.
التعليم في مصر.. السُلطة تدجِّن المواطن
03-12-2023
وقد تمّ إجبار طلبة الصف الأخير من المرحلة التوجيهية (الثانوية العامة) على دراسة عامين دراسيين في عام واحد، الصفين الثاني والثالث الثانوي، بعد ضياع الأخير على الآلاف من الطلبة المراهقين، مما يشكل مزيداً من الضغط والعبء النفسي عليهم، خاصة مع استمرار أغلب الآباء محاصرين تحت وقع الإبادة، وخوف الأبناء اليومي عليهم، ومتابعة الأخبار للاطمئنان عليهم. ناهيك عن كون العديد من الدروس "الأونلاين" للمرحلة التوجيهية هي دروس مسجلة، وليست بالنمط التفاعلي، والسبب في ذلك ببساطة هو استشهاد المدرِّسين، والاعتماد على فيديوهات شرح لهم، قاموا بتسجيلها قبل استشهادهم.
أما بالنسبة إلى طلبة الجامعات. فمع عدم قدرة الأغلبية العظمى على دفع الجباية "الدولارية"، سواء التي كانت مفروضة على من يرغب في النجاة من الإبادة عبر المعبر، أو من يرغب في استئناف تعليمه الجامعي، بمتوسط 7500 دولار أمريكي في العام الدراسي الواحد، وعدم إتاحة التعليم في عدد من الجامعات الخاصة في مصر إلا عن طريق نظام الاستماع، وعدم الحصول على شهادات تخرّج أو اجتياز للأعوام الدراسية في النهاية، صار الأمر جهداً بلا طائل.
ازدهرت بعض المبادرات التعليمية المستقلة لسد الفجوة أمام أطفال "غزة" النازحين إلى مصر، فظهرت مبادرة "أحفاد الزيتون"، وهي مبادرة تعليمية من شباب مصريين، تقوم على تقديم برنامج شامل للأطفال، عبر تعليمهم في بيئة آمنة وتعزيز صحتهم العقلية وإعادة تأهيلهم بعد الصدمات التي تعرضوا لها خلال الحرب. وقد ازداد الطلب عليها، لتنشأ قوائم انتظار طويلة.
استمر الآلاف من الفلسطينيين في السعي إلى الحصول على منح دراسية. ومع قلة أو شبه انعدام توافرها في "مصر"، قاموا بالتقديم في دول أخرى حول العالم، فتمكن "يحيى" في نهاية الأمر، بعد ضياع عام دراسي، من الحصول على منحة دراسية كاملة في "أذربيجان"، بينما تمكنت "مريم" من الحصول على منحة جامعية في "باكستان"، وتمكن آخرون من الحصول على منح دراسية وإقامات في "بلجيكا"، و"جنوب إفريقيا"، ودول أخرى.
وبينما يعكس ذلك إصراراً متزايداً في أوساط أطفال وشباب جيل النكبة الفلسطينية الجديدة على حقهم في التعليم وتشكيل مستقبلهم بأيديهم من جديد،على الرغم من الظروف القاسية عليهم، إلا أنه يثير عدداً من التساؤلات عن دور "مصر"، وأين تكمن "قوتها الناعمة"، فيما تتحول يوماً بعد يوم إلى سياسة "ادفع بالدولار كي تحيا"، أو تتعلم، أو تستخرج إقامة حتى لو كنت نازحاً من حرب، فتصير "مصر" بذلك مركزاً طارداً، بعد أن كانت قلب العروبة ومأوى الأنبياء.