رحلة البحث عن رغيف

كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى البحث عن رغيف!
2024-11-23

المقداد جميل مقداد

كاتب وباحث من غزة


شارك
"رغيف واحد"، غزة

اعتقدت أنه يُمكنني البحث عن قصّة هُنا أو هناك، من قلب الحياة اليوميّة في غزّة، يُمكن أن أحكيها، لتبعث الأمل في أنّ هذا الشعب يستطيع أن يعيش، يستطيع أن يُكمل طريقه، متجاوزاً الكمّ الهائل من الألم، لكنني كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى البحث عن رغيف!

تفشّت أزمة الطحين في جنوب ووسط قطاع غزّة، أو ما يُسميه الإعلام "جنوب الوادي، أو جنوب القطاع"، في الأيام الأخيرة الماضية بشكلٍ كبير. بدأت بوادر الأزمة منذ حوالي شهر وأكثر، فمنذُ شهريْن أُغلقت المعابر وتوقّفت البضائع بمختلف أنواعها عن الدخول، بما فيها الطحين. لكن الكميات الكبيرة التي كانت توجد في البلد، جعلتها قادرة على تجاوز أزمة خانقة لأكثر من شهرٍ ونصف، قبل أن تنهار.

فجأةً بدأ سعر الطحين بالارتفاع التدريجي، وصولاً لسعرٍ خُرافي لا يمكن استيعابه. كان السعر بدايةً يبلُغ 30 شيكلا، وبعض الناس باع الكيس الواحد بـ 5 شواكل فقط (ما يُعادل دولارا ونصف الدولار)، مع كثرة وجوده، وعدم حاجة الناس إليه، لبيع الخبز في المخابز وفي الطُرقات، في كُل مكان. ارتفع السعر تدريجياً. وصل بدايةً الى 80 شيكلا وأكمل حتى 100 و120 شيكلا. الآن، وحتى وقت كتابتي لهذه القصّة، بلغ أكثر من 800 شيكل. ما يُعادل 250 دولاراً.

مقالات ذات صلة

عادةً تعمل مجموعة كبيرة من المخابز المركزية والرئيسية في المُحافظات، على بيع ربطة الخبز مُقابل 3 شواكل فقط (أقل من دولار!)، لكنها أغلقت فجأة لعدم توافر الطحين، وهو ما انعكسَ على الناس الذين لجأوا لحلولٍ أخرى، مثل الشراء من المخابز البلدية الصغيرة التي تبيع الخبز بتكلفة أكبر، أو من بائعي خبز الصاج (خبز سوري خفيف).

بتُ في الأيام الأخيرة أخصص ساعة أو ساعتيْن للبحث عن الخُبز.

أغلب المخابز البلدية لا تبيع للناس، إنما تعمل بنظام البدل، وهو نظام يقوم على تقديم كيلو طحينا، بالمقابل تأخذ كيلو خبزا، وتدفع فارق السعر (من 2 إلى 4 شيكل) عن كُل كيلو، وهي تكلفة وأجر العمال والعجن والخبز. وهذا الخيار بالنسبة لي منعدم، لعدم توفّر الطحين لدي.

ألجأ إذن إلى خبز الصاج، وهو نوع من الخبز الرقيق الذي لا يأكله عادةً أغلب الناس في غزّة. أنا وعائلتي نأكله، لأنني اعتدتُ عليه لوقتٍ طويل وأراهُ مقبولاً في الطعم. الناس يرونه "خفيفاً"، لا يسُد الجوع، وعادةً ما يأكله أصحاب النظام الغذائي الصحي أو من يرغبون في تخفيف السعرات الحرارية في الخبز.

الآن يلجأ كل الناس إلى الصاج، باعتباره الحل الوحيد، فتتحول الطوابير من المخابز الكبيرة التي كانت تفتحُ أبوابها، إلى بائعي الصاج البسطاء، الذين علا شأنُهم في يومٍ وليلة.

قبل الحرب كنتُ أشتري ثلاثة أرغفة من الصاج مُقابل شيكل واحد، في الحرب اختلفَ ثمنها، بحسب الظروف، أحياناً يُباع الرغيف الواحد مقابل شيكل، ومؤخراً ثبتَ السعر على رغيفين مقابل شيكل. إلّا أن الأزمة الحالية دفعت السعر إلى أن يكون هائلاً. صار الباعة يُقدمون 7 ارغفة مُقابل 5 شياكل، ثُم، وقبل كتابة هذه الكلمات بدقائق، وصل الرغيف الى أن يكون ب2 شيكل.

أي رغيف ؟ هو صغير جداً، نصف حجم الرغيف الذي يُباع في الأيام العادية. لقد غلا سعر خبز الصاج الى 12 ضعف ثمنه الأصلي.

وقفتُ طويلًا أمام طابور خبز الصاج، مرّت نحو ساعتين حتى وصول دوري، حين اشتريت 14 رغيفاً مُقابل 20 شيكلا. أي 6 دولارات. هذه الأرغفة اشتريتها لنا، نحنُ ستة أشخاص نعيش في مكانٍ واحد معاً، نازحين في أرضٍ خالية وبعيدة. أيّ أنها ستكون رغيفين لكل شخص، واحد في نهار اليوم الذي اشتريتها فيه، وواحد لصباح اليوم التالي، حتى أستطيع أن أجد الخبز مرةً أخرى، إما من البائع نفسه، أو من بائعٍ آخر.

مقالات ذات صلة

هذا سرد طويل من الأرقام والأعداد والأشياء التي قد تبدو تافهة لكُل قارئ، لكنها في الحقيقة تنطوي على مُعاناة صعبة، لا أرغب دائمًا في التحدث عنها، لأنني لا أرغب في أن أبدو بمظهر المُتذمر أو المُتعَب، أو حتى يُظهر الناس تجاهي الشفقة أو التعاطف المبني على نظرة "المسكين"، كما يفعل الناس عادةً تجاه أهل غزّة. أضطّر للكتابة، فقط لأنني أرغب في أن يرى الناس ما يحدث، أن يقرأوا عن كلّ شيء، عن كل هذه التفاصيل المُتعِبة. فعندما أكتب على منصة "إكس" إنني بحثتُ عن الخبز طويلاً هذا الصباح، لن يفهم أحدٌ كمّ المعاناة التي قاسيتها في الوصول إلى الرغيف.

كُل من حولي في العمل أو في مجموعات الأصدقاء في مواقع التواصل يتحدث عن هذه الأزمة. مثلاً كانت "شمس"، وهي زميلة جديدة، تحضر كلّ يومٍ ومعها ربطة من الخُبز، الذي تشتريه ما بين 10 إلى 15 شيكلا. وفي الأيام الأخيرة لا أجدها تدخل ومعها هذه الربطة. أسألها عن الخُبز فتقول إن المخبز مُغلق، ولا تعرف كيف ستوفّر الخبز لعائلتها هذا اليوم. كذلك يحدث مع كثيرين، الكُل يسأل عن سعر كيس الطحين وعن مكان توافره، أو عن سعر ربطة الخبز اليوم وعن مكانٍ يبيعها، وهما شيئان يصعب الإجابة عنُهما.

أُطمئن نفسي دائمًا وأقول "لا بأس"، لا زلنا لم نصِل إلى معاناة أهلنا في الشمال. عاش أهلي وقتاً لم يكُن لديهم نصف كيس من الطحين، لم يكُن لديهم أي مخابز تعمل أصلاً، ومن يكونُ معه رغيف في الشارع، فهو "ملك زمانه". حينها كنت أتصل بهم فأسأل عن حالهم، يقولون إننا خبزنا "جولة واحدة" من الخبز فقط، وبعدد صغير، لكُل عائلة رغيف أو اثنان، يحصل كلّ شخص على ربع رغيف في كل وجبة. ربع في الصباح وربع في المساء.

على الأقل أنا أبحث طويلاً وأمشي كثيراً، وأقف ساعة أو ساعتيْن، وأحصل على الخبز، بالتالي لم أنقطِع عنهُ نهائياً. هذه المواساة تبدو بائسة، أقول لنفسي، لسبب واحد: إن استمرّت هذه الكارثة بهذا الشكل، ستفوق ما حدث في الشمال، فهناك يعيش فقط ما بين 350 إلى 400 ألف شخص، بينما في الجنوب يعيش حوالي 2 مليون شخص. مستوى الاستهلاك أكبر، ومستوى الحاجة أكبر بكثير.

أخيراً أحاول دائماً اللجوء إلى حلولٍ بديلة، مثلًا بدلًا من أن أتناول طعام الإفطار في البيت (وهو ليس بيت، هي خيمة، أصفها بال"بيت" لأنك مع العائلة فقط)، أؤجله إلى العمل، حيث أبحث في السوق عن أي بائع يبيع الفلافل أو المعجنات أو أي بديل آخر، وبهذا أوفّر رغيفاً أو رغيفين من الخُبز تأكله طفلتي.

في العودة، أبحث عن أشياء إضافية قد تكون بدائل سريعة لأي حالة جوع، مثل الكعك أو أي نوع آخر من البسكويت الذي غلا ثمنه أيضاً بشكلٍ هائل، وهي لتسد جوع الليل الطويل، بدلًا من الحاجة إلى إعداد سندويش.

أعتقد أنّ أغلب الناس في غزّة يفكّرون بهذه الطريقة، يُفكّرون مثلي. المؤكد أن الذين يفكرون، لا يستطيعون كُلهم تطبيق الفكرة نفسها، فالغالبية ليس معها نقود لشراء رغيف الخبز مُقابل 2 شيكل، ولا معها نقود تسهّل عليها شراء أشياء جانبية تُخفف من الحاجة للخُبز.

ارتفعت أسعار البدائل في يومٍ وليلة، ليصل سعر كيلو الأرز إلى 30 شيكلا بعد أن كان 15 شيكلا وأقل، وارتفع سعر زيت الطهي إلى 50 شيكلا بعد أن كان لا يتجاوز 10 شياكل، وكذلك السكر والمعكرونة. هذا كُله، ونحنُ لم نتطرّق إلى الخضروات التي فاق سعرها السعر الطبيعي أكثر من 50 مرّة. أمّا اللحوم والدجاج والحليب والبيض، فهي غير متوافرة نهائياً.

أعود لأقول "لا بأس"، أهلي في شمال غزّة فرحوا يوم أمس بأنهم استطاعوا شراء كيلو من البطاطس، مُقابل 50 شيكلا، بينما كان سعره لا يتجاوز الخمسة شواكل في أيامنا العادية.

كيف نستعيد أيامنا العادية؟ لحظةً منها؟ تلك اللحظة من الهدوء والراحة التي لا تُفكّرُ فيها في طريقة توفير اللُقمة لطفلك!

مقالات من فلسطين

"آرت زون فلسطين" واستعادة الفنّ من الإبادة

2024-12-05

يدخل هذا الجهد في باب مقاومة محو الأثر الفلسطيني، ومنه الأثر الفنّي والثقافي، الغني والغزير والمتجدد. ومهما بلغت نسبة ما ضاع من هذه الأعمال، فما بقي، ومَنْ بقي، يقول "نحن...

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

للكاتب نفسه

الزيتون يا أبي

يتعلّق قلب أبي بأرضه، وهذا ما جعلني الآن أُدرك كيفَ تعلقَ أجدادنا بأرضهم، ويجعلني أُدركُ كيف يتعلق أولئك الذين نزحوا أو هاجروا ببلادهم، ثم يقررون بعد عشرات السنين العودةَ إليها....

إعادة تكوين العقل الغزّي

أجيالٌ بأكملها تفقدُ حياتها وسنواتها. وأطفالٌ صغار يستيقظون على واقعٍ غير بشري. هذا هو كيّ الوعي الجديد الذي تقوم به إسرائيل، ويوافق عليه العرب. العرب الذين يُريد "نتنياهو" مُساعدتهم في...

يتفاوضون على دمنا

أهل غزّة يعرفون أنّ الحرب عليهم، والهُدنة ليست لهم. إنها هُدنة الأسرى الإسرائيليين، هُدنة ليعودوا إلى أحبائهم. أولئك الذين تفرّقوا بين شمال وجنوب غزّة، والذين صاروا في القاهرة وأهلهم في...