"حاروف": العدو ينتقم من الموتى في قبورهم

اشتهرت هذه القرية العاملية الوادعة بأنها تنتج "التين والزيتون والشعر". يصعب أن نتصور أن القرية، التي كانت صغيرة، وكان جلّ سكانها من الفلاحين والمزارعين، ندر أن نجد بينهم من لا ينْظم الشعر الشعبي، أو يحفظه ويتذوقه ويجادل في معانيه. وما يجمع أحيائها وأمواتها على مرّ تاريخها، هو رفض الظلم واتباع خط المقاومة.
2024-11-21

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
بلدة "حاروف" في جنوب لبنان كما كانت

لا يمرّ يوم من دون أن نسمع عن غارة جديدة على بلدة "حاروف" الجنوبية في قضاء "النبطية"، حيث يصبّ العدو الإسرائيلي غضبه على البلدة التي لم تهادن الاحتلال الصهيوني، وقبله الفرنسي، منذ كان لبنان الحديث. ولما فرغ بنك أهداف العدو، أو ما يدّعي أنه بنك أهداف، استهدف مقبرة البلدة لينتقم من الراحلين! تحت الركام هناك، حيث المقبرة والمصلى الملاصق لها، تحت الأبنية المهدمة بمئات الأطنان من القذائف تنبض الذكريات.. ذكريات الأمس القريب، وذكريات زمن المقاومات الطويل في وجه المحتلين... ووجوه الأحبّة الراحلين.

اشتهرت هذه القرية العاملية الوادعة بأنها تنتج "التين والزيتون والشعر". يصعب أن نتصور أن القرية، التي كانت صغيرة، وكان جلّ سكانها من الفلاحين والمزارعين، ندر أن نجد بينهم من لا ينْظم الشعر الشعبي، أو يحفظه ويتذوقه ويجادل في معانيه. وكانت أبيات المعنّى والعتابا والقرّادي والشروقي متداولة بين أهلها، حتى أن تهويدات النساء لأطفالهن تمتعت بقيمة أدبية كبيرة. وإلى جانب الزجل الشعبي، كان للشعر الفصيح أربابه في "حاروف"، فقد غنّت فيروز للسيد "علي بدر الدين" قصيدتَي "أنا يا عصفورة الشجن" و"لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب"، وغنى معظم رواد الأغنية اللبنانية قصائد "عبد الجليل وهبي" الذي عمل في الإذاعة اللبنانية وكان من مؤسسيها، ومن أبرز الشعراء كذلك "محمد علي الحوماني" الذي ناهض الاستعمار الفرنسي بأشعاره، وحضر "مؤتمر الحجير"[1]، وألقى خطبة فيه باسم وفد القرية، ومن أبرزهم كذلك ابنتا الحوماني، بلقيس وأميرة... وهناك شعراء كثيرين غيرهم. ولعل ما يجمع أحيائها وأمواتها رفض الظلم واتباع خط المقاومة، فهي التي منحت "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" ابنها الشهيد "مهدي عامل" ("حسن حمدان") الذي أطلق صرخة "لستَ مهزوماً ما دمتَ تقاوم"، والمناضل اليساري المقاوم "محمد علي حرب"، أحد مؤسسي "حركة الإعاقة" المطلبية في لبنان...

التُربة

"قم نغسل قبر جدك". بهذه العبارة كانت الحاجة أم محسن ابنة الشيخ حسين توقظني فجراً. ترفق العبارة برميها إبريقاً بلاستيكياً عليّ وأنا في سابع نومة. أنهض، أحمل الإبريق وسطلاً وحبلاً، وأتهادى نزولاً من كرم العين إلى "التربة" (المقبرة). تتأبط المرأة الخمسينية العيزقان والبخور، تقطع الكرّوسة الإسمنية المقطعة مربعات صغيرة، عن يميننا يمتد الصبّار (التين الشوكي) كثيفاً مسيِّجاً الحقول. في العتمة، تتجه جدتي إلى المقبرة، بعدما ينفرج الصبّار عن سور صخري خفيض.

تصل إلى القبر، تنظفه من الأعشاب.. وتهيّئه لاستقبال الماء. أما أنا، ابن السنوات التسع، فأنعطف نحو اليسار وأتابع انحداري فوق مربعات الإسمنت نحو عين الضيعة. أربط طرف الحبل بالسطل الذي كان استخدم يوماً للبن، وأربط به ثقلاً، وهو عبارة عن جراب ملئ ببعض الأحجار الصغيرة، كي ينزل السطل تحت سطح الماء، ولا يطوف بلا جدوى. أرمي السطل في فتحة إسمنتية مربعة. العين تحت، على بعد مترين أو أكثر. أرفع ما تيسر من الماء وأملأ الإبريق وأهرع به إلى جدتي. أملأ الإبريق مرات ومرات، وهي تليّف الضريح وشاهده، ثم تهرق المياه على أبيات من الشعر تزين رخامة تحت اسم الراحل الشاعر "عبدو سليم بدر الدين"، وتؤرخ لرحيله. أنتهي من نقل المياه.. أقفُ لأستردّ أنفاسي، أتفرّسُ في كلمات الشاعر "عباس حرقوص"، وهو يرثي زميلاً شاركه المنابر، وخذلته الحياة. أحاول أن أفكك الحروف المحفورة على الرخامة. يدهشني كيف تسنى للشاعر أن يؤرّخ سنة الوفاة في الشطر الأخير من القصيدة (أي أن حروف كلمات الشطر إنْ جُمعت بحساب الحروف يساوي مجموعها سنة الوفاة). تعبق رائحة البخور في المقبرة.

"حاروف" هي التي منحت "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" ابنها الشهيد "مهدي عامل" ("حسن حمدان") الذي أطلق صرخة "لستَ مهزوماً ما دمتَ تقاوم"، والمناضل اليساري المقاوٍم "محمد علي حرب"، أحد مؤسسي "حركة الإعاقة" المطلبية في لبنان... ولعله لذلك، ولمّا فرغ "بنك أهداف" العدو، أو ما يَدّعي أنه بنك أهداف، استهدف مقبرة البلدة لينتقم من الراحلين! 

تنهرني جدتي.. أن ابتعِد. أقف في وحشة الأضرحة التي تنتظر من يغسلها. أما هي فكانت تختلي برخامة القبر، تضمها، حتى طلوع الصباح. تعاتب صاحبها الذي رحل، وتركها غريبة مع ثلاثة عشر ولداً تحت سقف لم يكتمل. ربما تفكر في والدها الذي نزح من مضارب "البراطعة" شرق "الهرمل" إلى بيروت أواخر العهد العثماني، وزوجها الفلاح الذي ألزمه شظف العيش في لبنان الكبير بالنزوح كذلك نحو العاصمة الجديدة البعيدة ليعمل.. فعمل، وأثمر عمله حيث تمكن أن يصطحبها إلى الحجاز حاجّيْن "أيام البوسطة". تذرف دمعة، وتناديني. بكل حركة من حركاتها.. بكل همسة كانت تحفر في وجداني مدى فداحة فقدان زوج شاب.

أيام الأعياد، مع أشعة الشمس، يزحف ناس الضيعة إلى الجبانة (المقبرة) في تقليد متوارث قديم. يتجمع أفراد كل عائلة عند ضريح لهم، فلا يبدأ العيد إلا من التربة. على القبور تستريح صواني المعمول البيتي. ثم يصل "البيارتة" (أهل القرية الذين يسكنون في بيروت) حاملين معهم المعمول المُشترى من "صيدا" و"النبطية"، فتعتقني جدتي، أتجول بين القبور. أضع راحة كفي على الرخامات، وأتمتم كأني أقرأ الفاتحة، ثم آخذ معمولة أضمها إلى كيس ورقي كنت قد أخفيته عن جدتي. فلا معمولة بدون فاتحة، وما دمتُ قد وضعت يدي على الرخامة، وتمتمت ببضع كلمات، يعني أني أستحق معمولة بدون النظر نحو أهل صاحب القبر المتحلقين حوله. يجول الصبية كذلك بين قبر وآخر، ومعنا "مجنون الضيعة" "عبد الرسول". في أيام العيد لا ينهره الناس، بل يتقبلون وجوده ويكون راضياً مبتسماً.

تغيرت أشياء كثيرة شكلت جزءاً من حياتنا. لم يعد أحد يذكر الطباسين اليوم. هم قوم من الجن كانوا يسكنون وادياً بين "حاروف" و"جبشيت"، وكان الطبسون منهم، يعترض المارة في الليل، راشقاً إياهم بالحجارة كي لا يقتربوا من عشيرته.

اختفت الكرّوسة والعين، وصُوِّنت الجبانة، وشُق طريق معبّد بالإسفلت إلى جانب السور، يربط كرم العين بالطريق العام. ازدحمت المقبرة بأضرحة الشهداء. لا أعرف كم تمددت شمالاً. أما ساحة العين فظلت على حالها. كانت هذه الساحة تمتلئ بالناس. كنا نحن الصغار نشرف بعيون مفتوحة على الساحة من مصطبة منزل الحاجة "أم شريف"، التي فقدت بكرها في ميادين نضال ذلك الزمان. كانت تطل على الساحة المكتظة بالرجال والبنادق وتقول بلهجتها العاملية (مُمِيِّلة الألف إلى ياء): "الله يحجب دم العباد، راحوا كل الشباب". ربما كان ذلك يوم استشهاد إمام البلدة السيد "علي بدر الدين" أو استشهاد المناضل "محسن عياش"...

اليوم، العدو نفسه ينتقم من شهداء المقبرة مجدداً، يخرّب شواهد قبورهم بحديده ناره.

المصلّى

لم تكن تلك الغرفة المستطيلة مصلّى بالمعنى الحرفي للكلمة، أو على الأقل لم أر أحداً يصلي فيها. أقيمت صلاة الجنازة في الفسحة خارجها، أما الغرفة التي استهدفتها غارة صهيونية ودمرتها بالكامل فكانت بمثابة "حسينية" للنساء.

أما جدتي فكانت تختلي برخامة القبر، تضمها حتى طلوع الصباح. تعاتب صاحبها الذي رحل، وتركها غريبة مع ثلاثة عشر ولداً تحت سقف لم يكتمل. ربما تفكر في والدها الذي نزح من مضارب "البراطعة" شرق "الهرمل" إلى بيروت أواخر العهد العثماني، وزوجها الفلاح الذي ألزمه شظف العيش في لبنان الكبير بالنزوح كذلك نحو العاصمة الجديدة البعيدة ليعمل..

أيام الأعياد، مع أشعة الشمس، يزحف ناس الضيعة إلى الجبانة (المقبرة) في تقليد متوارث قديم. يتجمع أفراد كل عائلة عند ضريح لهم، فلا يبدأ العيد إلا من التربة. 

حين كنت طفلاً، سُمح لي أن أكون برفقة النساء داخل تلك الغرفة. هناك، مارست النسوة طقساً جنائزياً متوراثاً منذ زمن سحيق، من زمن النياحات العظيمة حين أبّنت "عشتار" "أدون" ربما. هناك، رقصت النسوة وسط الغرفة حاملات صور الفقيد، كنّ يملن بالصور وفق إيقاع متناسق خاص على أنغام نحيب ونشيج، أما النساء اللواتي لم يشاركن بالرقص، فكن يلطمن صدورهن وجنوبهن مرافقات اللحن العاشورائي. وكان الندْب باللهجة العاملية يستحضر مصائب أهل البيت. لا أعرف كم استمر هذا الطقس الذي اختفى في القرى العاملية بقدرة قادر. شاهدتُ ذلك مرات حتى كبرتً فحُرمت من مرافقة النساء، وكانت ترعبني فكرة أن كل نساء القرية تقاطرن إلى هذا المكان، واحدة بعد أخرى، ليرقصن بصورة قريب أو حبيب.

نسف الصهاينة المصلى. تطايرت النياحات منه وانفلشت فوق حاروف الحزينة.

أنظر إلى صور ما بعد الغارات، أحاول تحديد المعالم كيف كانت. لا بد أنها تغيرت كثيراً عمّا في الذاكرة. كيف لا! ألم تتغير أشياء كثيرة شكلت جزءاً من حياتنا؟ ف"حاروف" التي كانت صغيرة تمددت. التهم الإسمنت مرجها الأخضر الشاسع، فتحول إلى مدينة تجارية ثم صناعية، وقابله العمران من ناحية "تول" التي لم يكن فيها أيامنا سوى مقام النبي "محمد بو نوار"، فصارت مكتظة بالأبنية الشاهقة. التصقت "حاروف" بجارتها "جبشيت" جنوباً، فاختفى البيدر ومقام النبي "الطيوني" (نسبة إلى شجرة الطيون على الأرجح)، ولم يعد كَرْم العين كرماً، بل تمدد العمران به شرقاً، وأكل الإسمنت الجبل الأحمر حتى "زبدين". كثرت أحياؤها المستحدثة غرباً، وعُبّدت الطريق الترابية بينها وبين "الدوير".

لم يعد أحد يذكر "الصالحة"، تلك المخلوقة النورانية التي تظهر في الليالي الصافية وتطوف على بيوت الطيبين، مع أن كثيرين من أبناء الماضي شاهدوها قرب الجبانة. تؤدّي الصالحة مهمة الفراشة الصغيرة، مخلوقة جميلة تنتقل بين عالمين، عالم الأحياء الذي نرزح تحت وطأة الغارات الصهيونية الهمجية فيه، وعالم الموتى حيث تسبح أرواح شهداء "حاروف" في فراغ من النور...

كذلك، نسي الناس "المباركَة"، تلك الأفعى التي اتخذت من كرم العين مسكناً لها، وكانت تزور الخيّرين ولا تؤذي غير الأشرار.. لقد حرم الصهاينة موتانا من زيارة "المباركة" لهم في ترابهم التشريني البارد. 

تغيرت أشياء كثيرة شكلت جزءاً من حياتنا. لم يعد أحد يذكر الطباسين اليوم. هم قوم من الجن كانوا يسكنون وادياً بين "حاروف" و"جبشيت"، وكان الطبسون منهم، يعترض المارة في الليل، راشقاً إياهم بالحجارة كي لا يقتربوا من عشيرته. اختفت عشيرة الطباسين إلى غير رجعة، فلم يعد لوجودها مكان بين كل تلك البيوت العامرة بضوء الكهرباء. هي من الأمور التي تعتبر خرافات اليوم، ولعل أهل الماضي كانوا يختلقون ذلك تخويفاً لأولادهم، وتناقلوه فصار من معتقداتهم.

الغريب أن أحداً لم يعد يذكر "الصالحة"، تلك المخلوقة النورانية التي تظهر في الليالي الصافية وتطوف على بيوت الطيبين، مع أن كثيرين من أبناء الماضي شاهدوها قرب الجبانة. ربما كانت تبشِّر بموت مؤمن هنا أو هناك، أو تذكّر أهله به بعد موته. تؤدّي الصالحة مهمة الفراشة الصغيرة، مخلوقة جميلة تنتقل بين عالمين، عالم الأحياء الذي نرزح تحت وطأة الغارات الصهيونية الهمجية فيه، وعالم الموتى حيث تسبح أرواح شهداء "حاروف" في فراغ من النور... كذلك، نسي الناس "المباركة"، تلك الأفعى التي اتخذت من كرم العين مسكناً لها، وكانت تزور الخيّرين ولا تؤذي غير الأشرار.. لقد حرم الصهاينة موتانا من زيارة "المباركة" لهم في ترابهم التشريني البارد.

أي ألم هذا، حين يكون للغصّة طعم الحريق!

______________________

  1. مؤتمر وادي الحجير هو اجتماع دعا إليه عبد الحسين شرف الدين وحضره ثوار جبل عامل جنوب لبنان (يوم السبت في 24 نيسان /أبريل 1920). انعقد المؤتمر في منطقة وادي الحجير في جنوب لبنان، بعيداً عن أعين الاحتلال الفرنسي، وكان الهدف منه إطلاق المقاومة ضد الاستعمار، وضد تقسيم الوطن العربي، ودعماً للحكم العربي الوطني.

مقالات من لبنان

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

كلنا مستهدفون، كلنا HVT

خوف الناس من وحشية آلة الحرب الإسرائيلية قد تحوّل إلى خوف من بعضهم البعض. وصار هاجسهم ألا يكون الشخص الذي يقف إلى جانبهم، أو ذاك الذي يقود السيارة التي تسير...

للكاتب نفسه