رحلتي من "الضاحية الجنوبية" لبيروت الى "كربلاء" في العراق

لا أريد الرحيل، لأني أعرف أن تحمّل الحرب عن بُعد أصعب من عيشها على الأرض... كنت ممتلئة بوهم العودة إلى المنزل، منزلنا الكائن في "الضاحية الجنوبية"، المنزل الذي لطالما مللتُ العيش فيه. الآن، لا أفهم طبيعة وقوعي في حبّه، بعد اثنين وثلاثين عاماً من العيش تحت سقفه.
2024-11-20

فاطمة بزي

صحافية وكاتبة مسرحية من لبنان


شارك
محمد شرف - لبنان

لطالما فقدت الأمل في كل ما يتعلّق بإصلاح الخوف في داخلنا، الخوف غير المفهوم، الذي يباغتنا ونحن في أفضل حال، خوف النجاحات المقترن بخوف الخسارة. كنت أتعامل مع الخوف كصديق لي، فقد نشأتُ عليه، وقد رافقني في وحدتي وبين الناس، وكانت كلّ محاولاتي في إخفائه تبوء بالفشل، ليس بسبب فضحه لوضعي النفسي، بل بسبب تأثيره على صحّتي الجسدية. فأنا الآن عجوز بجسد شابة، كل ما حمله وطني من صدمات نفسية يكمن تحت مسامي. كنت أظنّ أنني ضعيفة في وجه الحياة، لكن الحرب أثبتت أنني أحمل بعضاً من القوة .

السابع والعشرون من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، 2024، كان يوماً مصيرياً بالنسبة إليّ، فأنا أمام خيار وحيد: أُجبرت على ترك لبنان. لا أريد الرحيل، ليس بسبب تيهي في حبّ تراب الوطن، ولا تعلّقي بأُناسي، إنما لأني أعرف أن تحمّل الحرب عن بُعد أصعب من عيشها على الأرض...

يجب أن نصل إلى "مطار دمشق الدولي" بحلول الساعة الثانية عشرة ظهراً، لنلتحق، أمي وأنا، بطائرة "أجنحة الشام" المتجهة إلى "مطار النجف" في العراق، والتي ستنطلق عند الساعة الثالثة من بعد الظهر، والتي عرفنا فيما بعد، عند وصولنا إلى المطار، أن اقلاعها سيتأخر ساعتين.

لقد اعتدنا كلبنانيين على الجنون، ولكن لا جنون أكثر غرابة، من الوقوف تحت سماء يسرح فيها العدو، ونحن نحاول أن نملأ خزان السيارة بالوقود.

كان ليلاً موحشاً على شرفة الفندق في محلّة "الحمرا" في العاصمة بيروت، حيث اضطررنا لأن نبيت في الغرفة مع خالتي وزوجها وابنها الشاب. نامت أمي بحجابها، والتحفتُ أنا على الكرسيّ، أراقب النجوم، وحضورها الممزوج بمسيّرات العدوّ الإسرائيلي وطائرات الـMK، ريثما يبزغ الفجر، فيأتي أبي، ويقلّنا بالسيارة إلى الحدود اللبنانية-السوريّة. ليلة أرتجي فيها ألّا يحلّ الفجر عليّ، أرتجي أن تفشل مهمة أبي في إرساله لنا خارج البلاد. كنت أعيش وهم العودة إلى المنزل، منزلنا الكائن في "الضاحية الجنوبية"، المنزل الذي لطالما مللتُ العيش فيه. الآن لا أفهم طبيعة وقوعي في حبّه بعد اثنين وثلاثين عاماً من العيش تحت سقفه. أحياناً أشتاق إلى الغبار القابع على أغلفة الكتب الكثيرة، التي اقتنيتها ولم ألمسها. كنت أحب منظر الكتب في مكتبتي، أحبّها أن تزيد حتى وإن حدث جفاء، أمتّع نظري بوجودها على الرفوف. علاقة غريبة، هي الوحيدة التي دامت في حياتي، من دون أن يرحل صاحبها، ويتركني بمحض إرادته. أما اليوم فإنني أخسر الأشياء التي كانت السبب الأبسط في تعلّقي بهذه الحياة.

إنها المرة الأولى التي أشعر فيها بأنني لا أريد الرحيل من لبنان، المرة الأولى التي لا أشعر فيها بالخوف من الموت، بالخوف من أي شيء. ظننتُ أن الحرب ستدخلني في دوامة الاكتئاب المزمن مرة أخرى، أو أن نوبات الهلع ستطرق بابي من دون استئذان. لكن منذ بداية العدوان المباشر على لبنان وأنا كلّي طمأنينة، لعله غباء أعمى مع جرعة تفاؤل. كان هاجسي الوحيد آنذاك، أن أستطيع البقاء في "الحمرا"، في شوارع بيروت، أستنشق بعض الهواء القادم من فوق سماء منزلي، ذاك الذي كان يبعد عن مكان وجودي تلك الليلة بضع دقائق حين لا يكون هناك ازدحام، ولكني لا أستطيع الذهاب إليه، فقد كانت طائرات العدو الإسرائيلي الحربية تتفنّن في قصف "الضاحية الجنوبية".

صديقة أيام الدراسة استشهدت بالأمس، لم أستطع بكاءها. لا وقت للحزن، لا وقت للنعي. أحاول وأنا تحت سقف هذا البيت في "كربلاء" أن أظهر لأصحابه، للعائلة العراقية التي استقبلتنا، أنني الفتاة الحديدية.

عند الساعة الرابعة فجراً، وبعد محاولتي العشرين للاتصال بوالدي لأوقظه كيّ يقلنا أنا وأمي، يخرج أبي من منزلنا في "الضاحية الجنوبية" لبيروت، الذي لم يبرحه طوال الحرب إلا عند ساعات الإخلاء - إن استطاع إليها سبيلاً - ليفاجئني بأنه "انقطع من البنزين" على طريق المطار، أمام "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى". يصف لي الموقف: "ما في دومري في الشارع لأطلب منه المساعدة، ولا محطة وقود قريبة مفتوحة لألجأ إليها". بكل عزم قلتُ له "لا تقلق سآتيك بالوقود". في تلك اللحظة يهاتفني صاحب سيارة أجرة، ليسألني إنْ كنت بحاجة إليه، ليقلّني إلى المكان الذي كنت قد اتفقتُ معه عليه سابقاً: "جيت وربنا جابك يا عمو سليم، يا بطل". أخبرته بما جرى مع والدي، وأنني في أمس الحاجة إلى الحصول على "غالون بنزين"، كيّ يتحرك الأخير من مكان الخطر القابع فيه، قال لي: "اتكلي على الله، 5 دقائق وأكون عند مدخل الفندق"، مع العلم أن وجهتنا "الضاحية"، أيّ، بالمختصر، منطقة غير آمنة.

أيقظتُ أمي وخالتي وأخبرتهما بالمهمة، كان إدراكاً جيّداً مني أن آخذ أمي معي إلى "الضاحية" مكان تواجد أبي، كي لا يضيع الوقت في العودة، فأمامنا رحلة شاقة إلى "دمشق". وصل السائق "سليم" ووجدنا محطة وقود في محلة "الحمرا". وبعد نطق الفاتحة والشّهادة، انطلقنا إلى "الضاحية"، كان قد مر شهر وأيام على لقائي بأبي. لقد اعتدنا كلبنانيين على الجنون، ولكن لا جنون أكثر غرابة، من الوقوف تحت سماء يسرح فيها العدو، ونحن نحاول أن نملأ خزان السيارة بالوقود. أناس عزّل من السلاح، أفقدتنا الحرب كل شيء إلا صمودنا، ونحن قاب قوسين أو أدنى من الموت.

تمّت العملية بنجاح، سائق التاكسي "سليم" عاد أدراجه، أبي وأمي وأنا انطلقنا بسيارة "الفولفو" الحمراء. رائحة الدمار والفوسفور والغازات المسرطنة تعبق في الأجواء. لا بأس، وإن كنت سأمرض، دعني للمرة الأخيرة أشتمّ الهواء الذي حُرمت وسأُحرم منه إلى أجلٍ غير مسمى. عبرنا حاجز الجيش الذي كان قابعاً عند "مدخل المشرفية"، ذاك الحاجز الذي كنا نهرب منه لازدحامه الدائم، وكان يومها وحيداً فريداً. ها نحن نمشي في شوارع "الضاحية"، شعرت بكمٍّ من السلام، بكمٍّ من الأمان. لم أودّع أحداً، لم أحضن أصدقائي، لم أشبع من أختيّ والأولاد وعائلتي، لم أتمم وعدي بعرضي لمسرحيتي، التي كنت أعمل عليها لياليَ طوال.

سنعود يوماً لنكمل ذلك التغيير الذي بدأناه، أختي وأنا، في منطقة "الضاحية الجنوبية"، منذ أيار/ مايو 2023، بعد افتتاحنا لمعهد "شمس" - Acting Space، لتعليم التمثيل للهواة، الذي لحق به خراب العدوّ الإسرائيلي.

تركت كل شيء بابتسامة تلوّنها الحسرة، مصيري مجهولٌ في العراق، لا أعلم إلى أين ومع من سنكون، كل ما عرفته أننا سنعبر نقطة الحدود مع سوريا عند معبر "المصنع" الذي افترستْ طريقه الغارات الإسرائيلية، ويفتح اليوم ذراعيه لاستقبالنا. ها نحن أمام فجوة كبيرة في الطريق. نحمل أغراضنا، يهرع إلينا بعض الشباب اللبناني لمساندتنا لقاء أجرة بسيطة. مشاهد من مسلسل "التغريبة الفلسطينية" للمخرج الراحل "حاتم علي" اجتاحت بالي في تلك اللحظة. ننتقل سيراً على الأقدام، من فجوة أحدثها الطيران الإسرائيلي إلى فجوة أخرى أكبر، كل ذلك في عين الله. أبتسم، أضحك، أوثّق الأحداث بكاميرا هاتفي المحطَّم، وكانت المرة الأخيرة، التي أرى فيها لبنان وأرى أبي.

الكم الهائل من المشاعر المبعثَرة التي تعتري أطراف أناملي وأنا أخط الأحرف، تناشد العالم إيقاف الحرب. الحرمان من التعبير بالبكاء هو أكثر الأسلحة قسوة في هذه اللحظة. صديقة أيام الدراسة استشهدت بالأمس، لم أستطع بكاءها. لا وقت للحزن، لا وقت للنعي. أحاول وأنا تحت سقف هذا البيت في "كربلاء" أن أظهر لأصحابه، للعائلة العراقية التي استقبلتنا، أنني الفتاة الحديدية.

مقالات ذات صلة

سنعود يوماً لنكمل ذاك التغيير الذي بدأناه ــ أختي وأنا ــ في منطقة "الضاحية الجنوبية"، منذ أيار/ مايو 2023، بعد افتتاحنا لمعهد "شمس"، Acting space، لتعليم التمثيل للهواة، ذاك الذي لحق به خراب العدوّ الإسرائيلي. سنعيد بناءه أجمل مما كان، وسأعيد تصميم الحائط الخاص بي. سنلتقي مرة أخرى على خشبة المسرح، سنكتب الكلمة الحرة التي حاول العدوّ سرقتها، ستنتهي الحرب، ونحكي قصص التهجير والفقد، سمر الليل وانتظار انتهاء القصف على "الضاحية" للعودة إلى النوم، سنقصّ عليكم حكايات لم يؤلفها كاتب سيناريو لفيلم "هوليوودي"، سنحاكي الحقيقة التي عاشها اللبنانيّون، سنعود إلى المسرح لنؤدّي نصوص الصمود، وننحني قبل إسدال الستارة للمصفِّقين، للشعب الذي نشتاق.

مقالات من لبنان

كلنا مستهدفون، كلنا HVT

خوف الناس من وحشية آلة الحرب الإسرائيلية قد تحوّل إلى خوف من بعضهم البعض. وصار هاجسهم ألا يكون الشخص الذي يقف إلى جانبهم، أو ذاك الذي يقود السيارة التي تسير...

مراثي المدن

أترى ما زالت ورود شرفتنا خضراء؟ هل نجت مكتبتنا وصورنا ومقتنياتنا الخاصة العزيزة وذكرياتنا، من حقد الغارات التي استهدفت الحي من كل الجهات؟ يخصني "رائف" بعناق طويل. حمل "رائف" غيتاره...